الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / حالات وأحوال (25) تابع: رحلة التفكيك والتخليق(21) مقابلة غير تقليدية: تعرية متبادلة، و”جروب” مصغر(2)

حالات وأحوال (25) تابع: رحلة التفكيك والتخليق(21) مقابلة غير تقليدية: تعرية متبادلة، و”جروب” مصغر(2)

نشرة “الإنسان والتطور”

الاثنين: 18-1-2016

السنة التاسعة

العدد:  3062

    حالات وأحوال (25)

تابع: رحلة التفكيك والتخليق(21)

مقابلة غير تقليدية: تعرية متبادلة، و”جروب” مصغر (2)

المقدمة:

مازلنا فى نفس المقابلة بتاريخ 9/10/2008، وهى المقابلة التى جمعت مريضا آخر (أحمد) (المريض) بمحمد )طربقها( فى نفس اللقاء أمام زملاء أصغر ودارسين دراسات عليا، ونقتطف بدايتها لنتذكر طبيعتها:

“لم تكن مقابلة مع محمد عبد الله  (طربقها) وحده، بل كانت أصلا مقابلة مع مريض آخر، وقد اقتحمها محمد عبد الله بإذن اضطرارى. دار جزء كبير من المقابلة بمشاركة محمد وكان اسم المريض أحمد، وكان له نفس التشخيص، وهو فى نفس السن تقريبا”.

 كما أن نشرة الثلاثاء الماضى انتهتْ كالتالى:

……..

……..

“أحمد” (المريض): بس جسمى اتشحن بالذرات وده اللى مش مخلينى اشتغل

د. يحيى: الله أكبر !! (ثم ناظرا لمحمد) أكمِّل يا محمد مع أحمد وانت معانا واللا كفاية عليك كده وتمشى بقى

” محمد”(طربقها): لأ،..  كمِّل

د.يحيى: أُكمّل إيه؟

ونكمل نحن الآن:

د.يحيى: اكمـّل إيه؟

“محمد“(طربقها): كمِّل كل حاجة

د.يحيى: الله أكبر، يعنى أكمّل وانت معانا ولا فرجه بقى، حاتعمل زى الدكاتره (يشير إلى الحضور) اللى عادة بينسوا إن الهدف من المقابلة هوا العلاج، وهات يا فرجة

“محمد” (طربقها): أنا حاسمع مش حاتفرج

د.يحيى: ما هو فيه فرجة بالوِدَان برضه (ثم منتقلا لأحمد) طيب بعد إذنك يا أحمد، (ثم لمحمد) أهو يا محمد زميلك أحمد ده بيقول أنا جسمى أتشحن كذا مره بالذرات أو اشعاع مسموم، (ثم يلتفت إلى أحمد) يا خبر يا أحمد! ألِِِِِِِِّفْتَها إزاى دى بذمتك؟

  • أكرر الإشارة إلى النَّهْى عن أن ننسى أن مهمتنا الأساسية هى علاج المريض بالاستفادة الموجهة من كل معلومة عنه، والعناية المسئولة بكل سؤال نسأله، وأن يصب هذا وذاك طول الوقت فى خدمة الخطة العلاجية، ذلك لأنه بغير ذلك يصبح موقفنا موقفا حُكْميا وصفيا أكثر منه تنشيط للوعى البينشخصى (المواجهة: المواكبة: المسئولية)(1) الذى هو لب العلاج، والأطباء الأصغر يضطرون إلى ذلك (ذلك الموقف الوصفى الحُكْمِى: الفُرْجَة) حين يكون أغلب تركيزهم على الوصول إلى تشخيص للمريض، وليس البحث عن ما هو أهم مما يحدد الخطة العلاجية أو حتى يساعد فى تحديد بعض العقاقير إذا كان الهدف الأول هو التسكين أو إزالة الأعراض.

هذا هو مغزى نَهْى محمد وتنبيهه أن المشاركة تنفى الفرجة.

  • ثم نلاحظ هذه المواجهة التى تبدو كأنها اتهام حين يقول الطبيب لأحمد “ألِّفَتها ازاى دى بذمتك”؟ هذه ليست اتهاما، لكنها تتماشى مع فرض أن المرض قرار واختيار (أنظر نشرة 13-7-2008 “زخم الطاقة، والإيقاع الحيوى، واختيار الجنون الجنون) هذه المواجهة توصل هذه الفكرة وكأنها إعجاب بقدرة المريض على التأليف، وكأن تأليف المرض هو أمر يستحق الثناء، وهذا أيضا يساعد فى دعم غير مباشر لفكرة أن الجنون إبداع، لكنه إبداع مُجهض مُشوه، وهذا الثناء يشير إلى القدرة على إبداع المرض وتكوين الأعراض، ونشاط الوعى البينشخصى هو الذى يسمح بمثل هذا الخطاب أن يتحول من اتهام إلى بداية إعجاب مشروط، يجرى ذلك على مستوى أعمق قليلا من مستوى تبادل معانى الألفاظ بما شاع عنها.

…………

(ثم نعيد السؤال!)

د.يحيى: يا خبر يا أحمد ألـِّفـْتَـهَا إزاى دى بذمتك؟

“أحمد” (المريض): ما هو ده اللى حسيت بيه يا دكتور

د.يحيى: طب عرفت إزاى إنه مسموم؟ …، أقولك على حاجة بس ماتفكّرشى إنى باقلّس: علشان نبقى حبايب الإشعاع المسموم ده بيبقى طعمه إيه، والإشعاع اللى مش مسموم بيبقى طعمه إيه؟ علشان نعرف الكلام معنته إيه، ما يمكن حسيت بإشعاع بس مش مسموم.

“أحمد” (المريض): أنا اللى خلانى أعرف إنه مسموم إن جسمى مات مش زى الاول

د.يحيى: إيه؟!! جسمك إيه؟

“أحمد” (المريض): مات

د.يحيى: مات؟!! مات ازاى؟

“أحمد” (المريض): أه

د.يحيى: والله عال، (ملتفتا إلى محمد) طب دى حاجة كويسة يا واد يا محمد، حاجة ننفع تألفها انت كمان عشان تبقى حِجّة وما تشتغلش،

“محمد” (طربقها): يعنى هوا أنا باتصنّع

د.يحيى: يا أخى هوّا أنا قلت إنك بتتصنع؟ تألف يعنى تعملها من جوّاك، زى محمد فركشنى ما اختار الفركشة، وكان حايودّيك فى داهية، ولاّ إيه احمد؟

  • نلاحظ كيف يتمادى الحوار فى نفس الاتجاه، وهو يتنقل بين محمد وأحمد باستمرار، ولعل هذا ما قصدته بالعنوان “تعرية متبادلة”.
  • حين يعزمُ الطبيب على مريضه القديم محمد أن يؤلف هلوسة حسية أخرى وكأن المسألة أصبحت إبداعا اختيارا (أو لعبة طفلية على الأقل)، وحين ينبرى محمد ينفى عن نفسه التصنع كان هذا متوقعا لكنه لا يعنى عدم قبول محمد المبدأ الذى أعانه أن يمضى على طريق اختيار السلامة مادام هو قد ساهم (على الأقل) فى اختيار الفركشة (التفسخ).

“أحمد” (المريض): مش فاهم، أنا بتحصل لى التهبات في جسمى كله وبدأ جسمى يموت تدريجياً، أنسجة وألياف وكله ميت مش فاضل إلا العظم والروح وبقيت هيكل وميت في نفسى ومش حاسس بالوجود

د.يحيى: يبقى فاضل إيه بقى تشتغل بيه

“محمد”(طربقها): مش فاضل حاجه

  • الشعور بموت الجسد شعور متميز، وهو يكاد يعلن انسحاب الطاقة من الجسد، وأنا أتعامل مع الجسد – كما كررت – باعتباره وعيا متعينا، (نشرة 4-5-2015 ) (نشرة 30-8-2015) وربما لذلك وصلتنى شكوى احمد أنها إعلان عن انسحاب الوعى الجسدى إلى غيابة النكوص أو مخزن السكون، وربما هذا له علاقة بمفهوم هـ. لانج (2) عن النفس المنتزع منها الجسدDisembodied Self

د.يحيى: والاحساس ده جالك يا أحمد وانت قاعد ولا وانت بتشتغل، وكان الوقت امتى

“محمد”(طربقها): كنت وقت الظهر

د.يحيى: وقت الظهر؟ يعنى كنت اشتغلت لحد الضهر قد إيه

“محمد”(طربقها): كنت اشتغلت حاجه بسيطه يعنى

د.يحيى: قد إيه كده؟ ساعه؟ نص ساعه؟

“محمد”(طربقها): ييجى ساعتين

د.يحيى: ساعتين!! طب وكنت لوحدك ولا معاك زميل بيشتغل؟

“محمد”(طربقها): كنت لوحدى

د.يحيى: كنت بتعزق إيه؟

“محمد”(طربقها): دُره

د.يحيى: دُره، كان دره صغير مش كده

“محمد”(طربقها): أه

د.يحيى: كنت بتنضفها من النجيله اللى حواليها

“محمد”(طربقها): أه

د.يحيى: كان فيه نجيله كتيره

“محمد”(طربقها): ماكنش فيه نجيله أنا كنت باعزقها كده

د.يحيى: أه، كنت بتقِّلب الأرض يعنى؟ هيا دى أرضكوا ولا كنت بتعزق عند ناس؟

“محمد”(طربقها): لأ دى أرض مأجرينها

د.يحيى: وبعدين

“محمد”(طربقها): إحنا مأجرينها من ناس

د.يحيى: الكلام ده من 7 سنين يعنى كان عندك بين 18 و19 سنه، كنت أخذت الدبلوم ولا لسه؟

“محمد”(طربقها): باين كنت واخده تقريباً، ما هو طلع زى قلته

د.يحيى: كنت واخده بقالك أد إيه؟

“محمد”(طربقها): يعنى في سنة 1995 أو 1996

د.يحيى: دول ييجوا كام سنة، والحادثه دى جت لك أثناء العزيق لما جسمك مات، يعنى كنت بقالك واخد الدبلوم قد إيه؟

“محمد”(طربقها): كنت لسه في الدبلوم يعنى

د.يحيى: يا ابنى أزاى كنت لسه ما أخدتش الدبلوم وبتروح تعزق

“محمد”(طربقها): مع ابويا يعنى

د.يحيى: كنت بتساعد أبوك، بتعزق وانت لسه تلميذ؟

“محمد”(طربقها): أيوه كنت باشتغل مع أبويا

د.يحيى: مرة تانية: الإحساس ده جالك فجأة كده وانت بتشتغل؟ مش كده؟

“محمد”(طربقها): كنا الظهر، كان الساعه 11 الظهر تقريبا

د.يحيى: كانت الدنيا صيف ولا شتا؟

“محمد”(طربقها): مش عارف والله يا دكتور كان صيف ولا شتا، لأ كان صيف، كان صيف

د.يحيى: الدنيا كانت حر؟

“محمد”(طربقها): جدا

د.يحيى: كنت عرقان

“محمد”(طربقها): أيوه، ….

د.يحيى: وكنت بتعزق لوحدك ولا كان معاك أبوك ولا أى عامل مِزَامْلَك؟

“محمد”(طربقها): لأ كنت لوحدى

د.يحيى: يا راجل أنا فلاح وعارف العزيق، عادة بيبقوا فرقة مع بعض، أو على الأقل اتنين تلاتة كده

“محمد”(طربقها): لأ، كنت لوحدى

د.يحيى: مين اللى قال لك اعزق؟ منك لنفسك، وانت لسه تلميذ، ولا أبوك قالك خد يا ابنى أعزق الحته دى

“محمد”(طربقها): لأ أبويه كان مأجر أرض، وأنا عارف المصالح كنت باروح أعملها

د.يحيى: واخواتك؟

“محمد”(طربقها): لأ اخواتى ما بيعملوش حاجه

د.يحيى: ليه؟

“أحمد” (المريض): دول بنات يعنى مابيعملوش حاجه

د.يحيى: كلهم بنات؟

“أحمد” (المريض): آه

د.يحيى: مفيش ولاد؟

هذا المقطع الطويل نسبيا فيه عدة إشارات إلى طبيعة هذه المقابلة كما يلى:

  • فى الحالات الذهانية، بالنسبة للبداية نهتم بالظروف المحيطة والتهيؤ والزمن المصاحب للحظة البداية (وليس مجرد تحديد وقت البدء) وهذه الطريقة تتيح لنا أن نحصل على معلومات تؤكد حِدّة البداية ونوعيتها(3)، مهما زعم المريض أو أهله أنها كانت تدريجية، وكثيرا ما أتجنب السؤال عن التاريخ أو الزمن الذى مضى عليه المرض، مفضلا التركيز على “الوقت” من النهار أو الليل، فى الضوء أو فى الظلام، ومثل ذلك من التفاصيل، كما أبحث أيضا فى الميحط من حيث وجود آخرين فى هذه اللحظة أم أن المرض انقض عليه وهو فى وحدة خالصة، ولا أزعم أن لهذا أهمية خاصة فى مسار المرض أو تطوره، ولا حتى أتصور أن هذه المعلومات تلعب دورا مباشرا فى العلاج، لكنها تعلن حقيقة نفسِمْراضية حين نتذكر كيف أن هذه اللحظة المفاجئة فى البداية فى حالات الذهان خاصة تقابل لحظة الإلهام فى الإبداع كما تشبه بدرجة أقل بعض لحظات النقلات النوعية فى رحلة النمو خاصة فى فترة المراهقة.
  • أيضا إن الحوار حول تفاصيل هذه اللحظة (وغيرها) بلغة المريض حسب نوع عمله وطبيعته يسهل الاقتراب من وجدانه ووعيه الأعمق أكثر من التركيز على الأسئلة المحددة لرصد أعراض بذاتها حسب تعريفها فى المراجع المعتمدة!!
  • هكذا نستطيع أن نتقمص شهامة احمد، هذا الابن المجتهد الذكر الوحيد على بنتين (ليس له أخوه ذكور) وهو ينبرى لمساعدة والده تطوعا فى عزق الأرض المؤجرة، ويذهب بنفسه وحده فى عز القيالة (=القيلولة) فى الصيف، وهو لم ينهك جسديا بشكل خاص لأنه لم يمض عليه أكثر من ساعتين لكن يبدو أنه كان مهيأ بتراكم الاغتراب والوحدة إلى أن يتلقى الهجمة المنقضة من الواقع بداخله فيبدأ الذهان.

………..

……….

يبدو أن حالة “أحمد” القصيرة ستأخذ حيزا من حالة “محمد عبد الله” (طربقها) أكثر مما تصورت!!

عذرا، ونكمل غدًا

[1] – هذا هو الاسم الذى نطلقه على منهج العلاج فى مدرستنا أنظر (نشرة 24-2-2008) و(نشرة 25-2-2008) و(نشرة  26-2-2008) أو P.P.T  (علاج المواجهة – المواكبة – المسئولية)

[2] –  The Divided Self: An existential Study in Sanity and Madness (Penguin Psychology) Paper back 1965.

[3] – أنظر يحيى الرخاوى  “بداية البداية” The Onset of the Onset فى دراسة فى علم السيكوباثولوجى  1979 .

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *