الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / حالات وأحوال (24) تابع: رحلة التفكيك والتخليق(20) مقابلة غير تقليدية: تعرية متبادلة و”جروب” مصغَّر (1)

حالات وأحوال (24) تابع: رحلة التفكيك والتخليق(20) مقابلة غير تقليدية: تعرية متبادلة و”جروب” مصغَّر (1)

نشرة “الإنسان والتطور”

الثلاثاء: 12-1-2016

السنة التاسعة

 العدد: 3056

   حالات وأحوال (24)

تابع: رحلة التفكيك والتخليق(20)

مقابلة غير تقليدية: تعرية متبادلة و”جروب” مصغَّر(1)

مقدمة:

مع أن نشرة أمس اقتصرت – تقريبا – على عرض حالة أخرى بدت كجملة اعتراضية فى سياق رحلتنا مع محمد عبد الله (طربقها) إلا انه ثبت أنها –  كما ذكرت أمس – عينة للبديل المقترح: وهو نشر مقتطفات محدودة من حالات يمكن من خلالها أن نضيف إضافات معرفيه مهنية نفسية ضرورية، أنا لم أنتق هذه الحالة الجديدة لهذا القصد تحديدا ولكنها هى التى حضرت ضمن ما جمعتُ من أوراق حالتنا الأصل (محمد عبد الله)، وقد وجدتها فرصة أن أبين كيف أن ما يسمى “جماعة” أو جَـمْـع هو أى عدد من البشر يزيد عن اثنين، وقد وصلنى من خلال هذه النشرة أثناء كتابتها ما لفت نظرى كيف أن القاعدة فى العلاج الجمعى هى أن تنعقد الجلسة كاملة (85 دقيقة + خمسة) إذا حضر أى ثلاثة أفراد، حتى لو كانوا مريض واحد وطبيب واحد ومدرب، أو حتى ثلاثة أطباء مدربـَيـْن ومدرب، بدون مرضى. حين تابعت ما دار بينى وبين “محمد” و”أحمد”، شعرت أنه نموذج مصغر لفكرة نشأة الوعى الجمعى انطلاقا من الوعى البينشخصى.

والآن نكمل ما بدأناه أمس وقد وقفنا عندما اقتحم محمد عبد الله – بإذن اضطرارى – لقائى مع الدارسين حول حالة أحمد.

نشرة اليوم (من المقابلة – المفروض مع محمد عبد الله–  بتاريخ : 9-10-2008)

أثناء تقديمى هذه الحالة الجديدة للزملاء بالقسم ودارسى الدراسات العليا فى مرور الخميس (من كل أسبوع)، دخل علينا محمد طربقها دون موعد، وقد سمحت له بالدخول حتى مع وجود المريض الأصلى (أحمد)،

سوف نبدأ نشرة اليوم من لحظة دخوله:

…………

………..

د. يحيى: (لمحمد، الذى دخل وجلس على مقعد خال دون تردد)، خير إن شاالله، أنا سمحت لك بالدخول عشان ما تقعدش تخبـّط عالباب واحنا بنشتغل، وعشان تشوف إحنا بنعمل إيه، ويمكن تتكسف من اللى انت بتعمله ده وانت جـّىْ من غير موعد وعارف إنى قاعد مع الدكاتره ومع زميلك.

” محمد”: أنا تعبان قوى يا دكتور يحيى

د.يحيى: و”أحمد”؟؟ (مشيرا إلى المريض الجالس أمامه) ما هو تعبان زيك

” محمد”: أحمد مين؟

د.يحيى: زميلك اللى قاعد قدامك ده اللى انت اقتحمت الأوضة من غير ما تفكر إن ده حق غيرك، وجىْ تكرر لى نفس الكلام اللى عرفت رأيى فيه، وإنه ما بيتغيرش من تلات أشهر

” محمد”: باقول لك أنا تعبان قوى يا دكتور

د. يحيى: ما هو أحمد تعبان قوى هوّا راخر.

” محمد”: طب أنا عايز أتحجز، أنا عايز اتحجز

د.يحيى: تانى؟!! ما احنا اتكلمنا فى الموضوع ده كام مرة قبل كده، وانت عارف رأيى

” محمد”: أنا مش عارف أشتغل، انا عاوز اتحجز

د.يحيى: أنا بتكلم دلوقتى مع أحمد، وهو سَمـَح لى أندهلك بعد ما أستأذنته، كتر خيره، وهو أحمد قاعد مستنى نكمل معاه (ثم ناظرا إلى أحمد ومشيرا إلى محمد) اسمه محمد يا احمد، تفتكر سمحت له أنا ليه بالدخول علينا كده؟

“أحمد”: علشان تشوفه حضرتك

د.يحيى:   صحيح، بس الوقت ده حقك وانت اوْلى، بس ما دام دخل سيبنى أعرَّفَـكْ بيه، يمكن خيرا!.

“أحمد” : على الله، ربنا المعين.

التعقيب: مازلنا نلاحظ أن قواعد المقابلة ليست شديدة الإلزام كما اعتاد الذين يتمسكون بتفاصيل النظام حتى على حساب إبلاغ رسائل محسوبة، إذا لزم الأمر، أى على حساب إحكام نظام مغلق، فهنا حضر محمد بدون موعد، وهذا غير جائز من حيث المبدأ، لكن حين يكون التعامل مع ذهانى فى فترة الإفاقة، ويكون الوعى البينشخصى بينه وبين المعالج فى نمو مستمر، فإن حَرْفية التمسك بنظام محكم جدا قد تهز هذه العلاقة بشكل ما، وليس معنى ذلك أن نَسمح بخرق كل القواعد أو نشجع عليها، لكن طالما نحن نبنى شخصا من أول وجديد، فالمرونة مفيدة، ولعلنا نذكر أثناء مرورنا بمراحل “محمد الصغير” و”محمد دلوقتى” ومازالا يظهران بين الحين والحين إذ يحضران أحيانا دون دعوة، فعلينا أن نتذكر أن فكرة أن يكون المعالج الرئيسى “فى المتناول” (1)هى من أهم العوامل التى توثق الصلة العلاجية، مرة أخرى: دون التنازل المفرط عن النظام والالتزام.

أما بالنسبة لأن هذا الذى تم كان باستئذان أحمد، فهو ليس استئذانا كاملا على كل حال، فهل كان أحمد يستطيع أن يعترض فى ثقافتنا التى تعرف تقاليدها، لكن لعل الفائدة كانت أنه حين تصلهرسالة أن المعالج هو تحت أمر مرضاه  بصفة دائمة، وأنه فى نفس الوقت يحاول العدل فى التعامل، فإن هذا يمكن أن يوصل له رسالة علاجية جيدة، أيضا لعل الحوار الذى دار قد أبلغ الحضور من الدارسين الرسالة اللازمة بحجمها ومغزاها وجدواها.

نعود للمقابلة:

……..

د.يحيى: (لأحمد): خصوصا أنا كنت باكلمك فى موضوع الشغل وإنه هوّا دا العلاج، وبرضه دى خناقتى مع محمد (ينظر إلى محمد وقد لاحظ سرحانه) معانا يا محمد؟

” محمد”: أنا مش قادر أفكـّر

د.يحيى: بتقول إيه؟         مش قادر تفكر ولاّ مش قادر تفتكر

” محمد”: أنا مش قادر أفكـّر

د.يحيى: إنشا الله ما فكرت، إمشى روح شغلك من غير ما تفكر، ولا إيه رأيك يا أحمد أهو محمد أهه مش بيشتغل زيك أهه.

” محمد”: اللى تشوفه حضرتك

د.يحيى: الجدع ده يا أحمد كان شغال ميّه ميه، وبعدين لما اتكسر، ريّح وابتدا ينام فى الخط، وحايروح فى داهية لو ما سمعش الكلام.

” محمد”: مش دلع والله

د.يحيى: أنا عارف أنه مش دلع، إنت مش بتاع دلع، بس طالع فى المقدّر جديد، طب خليك معانا شوية، وحتلاقى أحمد راقد فى الخط زيك بس من سنين، مش أحنا يا احمد لسه كنا بنتخانق عشان حكاية الشغل دى، أهو صاحبك محمد ده جى وعايز يخش القسم عشان يبطل شغل، مع إنه كان بيشتغل بتلات رجاله

“محمد”: بعشره

د.يحيى: بعشره، ما تزعلش…..

“محمد”: بس دلوقتى

د.يحيى: بس أستنى لما نشوف أحمد رأيه إيه، رأيك إيه يا أحمد؟

“أحمد”: اللى تشوفه

“محمد”: (موجها كلامه إلى أحمد): ما هو أنا مش قادر يا أحمد أعمل اللى بيشوفه الدكتور

 “أحمد” : برضه هوّا الدكتور عارف مصلحتنا

د.يحيى: على فكرة يا محمد: احمد راقد فى الخط بقاله 7 سنين، راقد هوّا راخر ما بيشتغلش بقاله سنين.

“محمد”: هو من 7 سنين، وأنا برضه من 15-6-2004

د.يحيى: جتك خيبة، يعنى فاكر تاريخ بداية خيبتك القوية بالدقيقة، لكن أديك برضه طالع نازل فى الشغل بعد ما اتفقنا إنه هو الأرضية الأساسية للعلاج.

التعقيب: هكذا بدأت المشاركة غير المخطط لها، وابتدأ الطبيب يشتغل فى أوجه الشبه: بدءًا من مقاومة تعليمات التأهيل وهى هنا ممثلة فى العمل، وهذه قضية أساسية فى ثقافتنا وأعتقد أننى سبق أن عـَرُجْتُ إليها فى تعقيبى على مقابلاتى السابقة مع محمد  (مثلا: نشرة:28-12-2015)، أيضا فى كثير من النشرات وخاصة (نشرات الإشراف عن بعد) مثلا: (نشرة: 14-10-2015) قيمة العمل فى ثقافتنا لها حضور ضعيف بشكل عام، فإذا أضيف إلى ما تمثله معظم الأعمال لهذه الشريحة الاجتماعية فى ظروفها الصعبة، ما تمثله من قهر واغتراب وإرهاق، فإنها تُـقَابَلُ العامل بمزيد من الجهد والإرادة الظاهرية حتى يصل الأمر إلى عتبة العجز الذى متى أعلن بظهور المرض أصبح ردا على هذا القهر، القهر الخارجى والداخلى معا، لأن العمل عند هذه الطبقة هو مصدر الحياة (أكل عيش) لكن لطاقة التحمل حدود كما شاهدنا فى حالة محمد عبد الله.(2)

كذلك علينا ان ننتبه أن تسليم أحمد الاعتمادى لرأى الطبيب “هو عارف مصلحتنا” لا يعنى استعداده لقبول تعليمات التأهيل إيجابيا فعلا، أى أنه لا يعنى أنه سوف ينفذها، ولعلنا نتذكر أيضا أن النصح كاد يصبح ظاهرة سلبية حيث قد يعفى الناصح من مشاركة المنصوح مسئولية التنفيذ، ولهذا ابتدعتُ قاعدة صعبة، لعلها أصعب من قاعدة “هنا والآن” فى العلاج الجمعى تنبه الذى ينبرى للمساعدة أو المشاركة إلى ذلك، قاعدة تقول أن يكون التعامل أو المشاركة أو الحوار “من غير سؤال ولا نصيحة” وكثيرا ما يفترض أعضاء الجروب على هذه القاعدة قائلين أنه “من غير سؤال ولا نصيحة يبقى مش حانتكلم خالص”.

وأخيراً نلاحظ أن المعالج انتهزها فرصة ليدخل فى الموضوع المشترك (أو الاعاقة المشتركة)، وهو الحديث عن دور العمل العلاجى، وكما ذكرنا ربما كان هذا هو الدافع أن يسمح لمحمد بالدخول هكذا فى وقت مخصص لأحمد!

……….

“محمد”: والله بكلمك بجد (يضحك)

د.يحيى:  (أحمد) طب قـُلـِّى يا أحمد، بالذمة الجدع ده (يشير إلى محمد) بيضحك على إيه بذمتك، إيه اللى بيضحكك يا محمد

“محمد”: ماعرفش

“أحمد”: مبسوط؟

“محمد”: طب أنا عاوز أتحجز دلوقتى

د.يحيى: علشان نخلص يا محمد يا بنى أنت عارف أنا بحبك قد إيه، وعلاقتنا شكلها إيه، وأدينى باقول لك قدام أحمد أهو: إنت مش داخل القسم ولا يوم واحد طول ما انت ما بتشتغلش بإنتظام، وإلا علاقتنا تنقطع

” محمد”: ما هو أنا ما بقتش قادر

د.يحيى: ياللا يا محمد نشوف أحمد بقى زى ما كنا بنعمل فى الجروب

” محمد”: إزاى؟

د. يحيى: ما هى مشكله واحدة زى ما انت عارف بس احمد يا محمد أصعب

” محمد”: لا…. أنا أصعب

“أحمد”: لأ أنا اللى مشكلتى أصعب

د. يحيى: هوّا احنا حانتفاخر مين مشكلته أصعب، الله يخرب بيت أنانيتك وغبائك يا محمد، ما تنساش انك خدت فرصة أحمد ما خدهاش، انت مش عايز تدى فرصة لأحمد خالص هوا أنا دَخَّلتك تساعدنى ولا أنا دخلتك تقول لى عايز اتحجز، يا أخى عيب كده، كله “أنا” “أنا” “أنا”، فيه واحد هنا اسمه أحمد زى ما فيه واحد أسمه محمد، وبنتكلم فى نفس الحكايه حكاية الشغل، والمش شغل، وحكاية الناس وضرورتهم، يعنى مش بنتكلم فى الخيالات، ولا فى دخول القسم ولا فى صعوبة الأوجاع دلوقتى.

” محمد”: هو احمد عنده خيالات زيى

د. يحيى: ألعن

” محمد”: طب إيه اللى جاب الشغل للخيالات

د.يحيى: كده برضه؟ دى تيجى منك بعد ما ربطنا الحاجات ببعضها، خليها دى لأحمد يا شيخ، إحنا مش قلنا لما المروحة اللى فى السقف دى ماتلفش بتلم عليها الدبان، ولو هى بتدور حتى على أقل سرعة مافيش دبانة تقرب منها

“أحمد”: طبعاً لازم نشتغل

د.يحيى: شوف يا أحمد: انت بتقول نشتغل، يعنى انت وهوّا وانا: خلى بالك، انت مريّح بقالك سبع سنين

“أحمد”: بس جسمى اتشحن بالذرات وده اللى مش مخلينى اشتغل

د. يحيى: الله أكبر !! (ثم ناظرا لمحمد) أكمِّل يا محمد مع أحمد وانت معانا واللا كفاية عليك كده وتمشى بقى

” محمد”: لأ،..  كمِّل

د.يحيى: أُكمّل إيه؟

التعقيب:

 يلاحظ هنا أيضا هذا الأسلوب فى التحذير من أن تقتصر الموافقات على النوايا والوعود، ولابد أن يعلق الحكم حتى تختبر بالساعة والمتابعة، كما نتذكر المثل الانجليزيى القائل “الذى يستطيع يفعل والذى لا يستطيع يعطى دروسا”(3)

أما المثل الذى ضربته له فى حكاية الذباب الذى يحط على المروحة إن توقفت عن الدوران فهو يفيدنى جدا فى الممارسة والشرح على هذا المستوى، وأحيانا أضيف أن المروحة حين تتوقف لا يعشش عليها الذباب فقط بل يمكن أن يبيض عليها الثعابين.

وبعد

أنا آسف كنت أنوى أكمل اليوم لكننى مشغول بتحضير محاضرة افتتاحية المؤتمر الدولى الثانى”للجمعية المصرية للعلاجات الجماعية EAGT” “من الأمل إلى العمل”. برجاء ملاحظة علاقة ذلك، وسوف يعقد المؤتمر بما جاء فى هذه النشرة فى الفترة من 14 إلى 16 يناير 2016، وعنوان محاضرتى الافتتاحية هو: “العمليات الإبداعية الموازية: فى التطور، والثورة، والعلاج الجمعى النمائى“.

وإليكم هذا المقتطف منها حتى تقبلوا عذرى.

……….

……….

هذا وقد يترتب على ذلك أن تطول حكاية أحمد قليلا، أقول قليلا قبل أن نرجع إلى محمد لنكمل أو نستأذن، علما بأننى مازلت فى انتظار نصائح عملية أنا فى أشد الحاجة إليها.

شكراً.

[1] – Available.

[2] – (وغالبا كما سوف نشاهد فى حالة أحمد أيضا!! بعد سفره ليبيا واستعادة طاقة تحمله).

[3]He who can, does; he who cannot, teaches.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *