نشرة “الإنسان والتطور”
الاثنين: 11-1-2016
السنة التاسعة
العدد: 3055
حالات وأحوال (23)
تابع: رحلة التفكيك والتخليق(19)
إذنٌ للتأجيلْ، وعينة للبديلْ (بالصدفة)
مقدمة:
ألم يئن الأوان أن أتوقف عن إكمال حالة محمد عبد الله (طربقها) بكل هذه التفاصيل؟
لو أننى تناولت كل حالة شغلتنى (وكل حالاتى قد شغلتنى) لأقدمها بهذه الطريقة لاحتجت زمانا خارجا عن كل تصورى، وهو أعلم بما تبقى لى .
ثم إنه نظرا لتواضع التعليق على ما أحاول توصيله لأصحابه،(كما لا بد قد لاحظ أى متابع لبريد الجمعة) فقد تصورت أن هناك مهمات – ضمن مسئولية حمل الأمانة – على أن أقوم بها، ربما تكون أوْلى من عرض حالة واحدة هكذا، ثم من يدرى ماذا سوف يتجرجر بعدها! (فعندى مئات الحالات مكتوبة ومسجلة).
قررت أن ألتقط أنفاسى اليوم وأطرح على من يهمه الأمر بعض ما خطر لى أنه أوْلى بالوقت على الوجه التالى:
أولاً: عرض “النظرية الإيقاعحيوية التظرية”(1) بشكل منظم مسلسل بالكامل، لتشغل على الأقل اليومين الذين احتلهما باب “حالات وأحوال” مؤقتاً.
ثانياً: عرض جميع الألعاب التى أجريتها فى العلاج الجمعى علما بأنها جميعها مبتكرة، وهى التى مارسناها عبر خمس وأربعين سنة واستلهمناها من واقع ثقافتنا، حين طفت بيننا على سطح الوعى الجمعى الذى راح يتخلق بيننا طوال هذه السنوات، وقد ثبت أن هذه الألعاب المبتدعة محليا هى أجهز وأسهل وأنفع، فى التطبيق لمن يمارس العلاج الجمعى فى مصر (والبلاد العربية غالبا بعد نقلها إلى اللهجة المحلية الخاصة (2)
ثالثاً: إعطاء مساحة أكبر لاستكمال كتاب “الأساس فى الطب النفسى” وخاصة ونحن لم نتم بعد حوالى عامين (من 2012 وحتى الآن 2014) إلا الافتراضات الأساسية وأغلب الأعراض.
رابعاً: عرض مقتطفات من حالات (وأحوال) بطريقة موجزة لا تأخذ أكثر من نشرة أو اثنتين، فتكون كل حالة منتقاه لتقديم أسلوب معين فى اللقاءات أو العلاج أو عرض جزئية من نفسمراضية (سيكوباثولوجيا) محددة، تدعم التنظير الموازي، أو تهدى إلى العلاج المناسب.
وبعد:
برجاء مساعدتى – ممن شاء مشكوراً – لتحديد الأوليات بالترتيب فأنا محتاج فعلا لرأى آخر من أى عدد من المهتمين (على ألا يقل عن ثلاثة!! ولا أطمع فى أكثر من عشرة!! هذه أرقام ليست عشوائية لكنها من واقع الممارسة فى حوار بريد الجمعة مثلا ).
وبعد (أخرى)
بعد كتابة هذه المقدمة رجعت إلى ما تحت يدى من أوراق “محمد عبد الله (طربقها) ووجدت أننى توقفت عن لقاءاته لمدة ليست قصيرة، وحين وصلت إلى آخر مقابلة، وجدت أنها كانت بتاريخ 16-7-2009 ، وكنا قد بدأنا عرض الحالة من المقابلة الباكرة بتاريخ 13-7-2006، وبديهى – وأيضا كما تبين- أنه لا يمكن عرض ما تم خلال هذه السنوات بنفس الطريقة التفصيلية التى تم بها عرض ما سبق من مقابلات حتى المقابلة التى بدأناها الأسبوعين الماضيين لم أتمم عرضها وهأنذا أكتفى بما ظهر منها.
فوجئت بعد ذلك أن المقابلة التى كنت أنوى عرضها (والتى سوف أعرض بعضها اليوم) لها ما يميزها مما يستأهل العدول عن قرار التأجيل، فهى امتداد لعرض الحوار – بالبلدى – المتفق أكثر مع ثقافة هذه الشريحة الشعبية الفقيرة المكافحة من أبنائنا، هذا بالإضافة إلى مفاجآت غير تقليدية أخرى حيث تميزت بالتالى:
1) لم تكن مقابلة مع محمد عبد الله وحده، بل كانت أصلا مقابلة مع مريض آخر وقد اقتحمها محمد عبد الله بإذن اضطرارى.
2) دار جزء كبير من المقابلة بمشاركة محمد وكان اسم المريض أحمد، وكان له نفس التشخيص، وهو فى نفس السن تقريبا، وكانت شكواه البادئة: بها شىء من الغرابة على الوجه التالى:
أنا كنت إنسان صحيح 100% صحيح الجسم والوعى، وحصل معايا حاجة علمية بأجهزة سرية من الفضا، كنت فى الأرض باعزق وحسيت بحاجة بتخش فى جسمى وجسمى اتشحن كذا مرة بذرات أو إشعاع مسموم .
سبت الأرض وروّحت وبعدها ابتديت أحس بالتهابات فى جسمى كله وبدأ جسمى يموت تدريجيا أنسجة وألياف وكله، ميت مش فاضل إلا العظم والروح وبقيت هكيل وميت فى نفسي ومش حاسس بوجودى.
فيه جماعة من الفضا بيأذونى بالاشعاع، وماسكنِّى بأجهزة سرية زى قمر صناعى، بيتحكموا فى الاحساس والتفكير، والأجهزة دى بتعمل بالاحساس الساخن على جسمى وبتتنقل على جسمى زى الشاشة، وبقيت ألة صماء بتعمل بالاحساس غير المستقر على مدار اليوم .
أنا كنت باعزق فى الأرض لوحدى كانت الساعة حوالى 11.00 الصبح فى الصيف لما حصلّى الاشعاع ده، أنا مش منتظم فى الشغل بقالى 12 سنة من ساعة التعب ما بدأ ومن ساعة ما رجعت من ليبيا من 7 سنين ما باشتغلش خالص .
فيه كابوس باشوفه من ساعة ما تعبت بابقى نايم واشوف واحد بارك عليا بيفطسنى، بابقى عايز انده على أى حد بس صوتى بيبقى طالع لنفسى بس، كابوس بس وانا صاحى، مش رايح فى النوم.
باسمع صوت عيال بتلعب يقولوا لى احنا حنضيّعك مش حا نخليك تشتغل وممكن انت مالكش لازمة وحاجات كده، بتيجي كده من على بعد
الحاجات دى بتضايقنى حاجة مرعبة يعنى
ماباحبش أقعد مع الناس، باحس إنهم بيعرفوا انا بفكر فى ايه ويقروا اللى فى دماغى.
التعليق:
فجأة، وأنا أتوقف عند هذا الجزء من الشكوى، وجدت عندى رغبة أن أعقب عليها برغم أن ذلك لم يكن فى حسابى من الأول، ذلك أننى وجدت فيها عينة لما قدمته فى المقدمة كبديل للتفصيل الذى عرضنا فيه حالة محمد عبدالله، وخاصة فيما يتعلق بعرض جانب من النفسمراضية (السيكوباثولوجى) كما ظهر لى الآن وأنا أقتطع هذا الجزء المحدود، فتركت نفسى أجرب لعل الرسالة البديلة تصل أوضح لمن أطلب منهم الرأى، وهذا هو ما علقت به على شكوى أحمد:
المريض أحمد فى نفس سن محمد، ومن نفس الشريحة الاجتماعية، يشقى بكل مشقة واغتراب وإخلاص لأكل العيش بالكاد، فى الخارج (ليبيا) والداخل (يعزف الأرض فى عز الظهر) وإليكم ما حضرنى من تعليق، وسوف أقسمه إلى فقرات، بنفس الترتيب الوارد فى المقتطف.
- تعبير “صحيح الجسم والوعى”: تعبي نادر، نحن نستعمل تعبير صحيح الجسم، وأحيانا صحيح الجسم والعقل، لكن نادرا ما نستعمل تعبير صحيح الوعى، المرضى، وخاصة الذهانيين، تقفز إلى كلماتهم تعبيرات أعمق وأدل، وكثيرا ماتتفق هذه التعليقات مع الأحدث فالأحدث من العلم واللعة، وما يجرى هذ الأيام هو مزيد متسارع من البحث العلمى والمعرفى الأحدث فالأحدث عن ماهية الوعى، ومستوياته ، ونشازها، وبالتالى يصبح تعبير مريضنا (أحمد) “صحيح الوعى” أكثر دلالة من تعبير صحيح العقل
- وصفه للأجهزة بأنها “غلمية سرية” من الفضا، هو أيضا تعبير دقيق خاص، فالمألوف أن يقال إنها أجهزة سرية، وأحيانا من الفضا فقط، أما الجمع بين أنها “علمية” “سرية” “من الفضا” فكانت إشارة فى نفس الاتجاه.
- مدخل التأثير لم يبدأ بالدماغ فى الدماغ أو المخ أو الفكر، ولكن توجه إلى الجسم مباشرة، نحن نعرف أعراض زرع ألأفكار، وإقحام الأفكار، أما أن يوجد ما هو إدخال تأثير إلى الجسم مباشرة حين يتشحن (بتتشحن فى جسمى وجسمى اتشحن) فهذا أيضا تعبير دقيق جديد مهم يتفق مع ما يجرى من إعادة الاعتبار لدور “الجسد كوعى متعيّن”(3)، وكمحيط مشارك فى التفكير والإدراك والإبداع.
- تفاصيل بداية الذهان المفاجئة هكذا لها أهمية قصوى فى التشابه – برغم انتكاس المسار والمآل – مع لحظات بداية الإبداع بما يسمى لحظة تلقى الإلهام (وسوف يأتى الحديث عنها بالتفصيل إذا أكملنا عرض هذه الحالة).
- تعبير الاحساس بموت الجسد هكذا هو أيضا تعبير قوى الدلالة لأنه يشير إلى انسحاب فجائى وكلىّ تقريبا لما يمكن أن يُسَمَّى “الطاقة الحيوية”، وما تبع هذا الانسحاب من تفريغ متوالى حتى لم يعد يدرك عيانية وجوده.
- كل هذا يعتير ممثلا لما يسمى الضلالات الأولية التى بلا مقدمات أو مبررات أى التى تهبط من شاهق غير مرئى أو بتعبيرهم بالانجليزية Out of the blue.
- ثم ينتقل أحمد إلى ما قد يسمى الضلالات الثانوية، التى تبنى على الضلالات الأولية حين يبدأ فى الربط بين هذه البداية الصاعقة المُفْرِغة وبين رسائل الفضاء والاشعاع والأجهزة السرية والقمر الصناعى.
- ثم تتوالى الضلالات الثانوية ثم التفسيرية عن طبيعة عمل هذه الأجهزة والأجهزة دى بتعمل بالاحساس الساخن على جسمه (برغم زعمه السابق يموت جسمه وعدم بقاء إلا العظم والروح).
- ثم يضيف مستوى رابع وهو تحوله إلى جماد “بقيت آلة صماء بتعمل بالاحساس غير المستقر”
(أما وصف الحالة والمحيط الذى كان حاضرا مع وحول هذه البداية وربطه مباشرة دون سؤال الطبيب عن توقفه عن العمل فهو ما قد نعود عليه إذا استكملنا مناقشة الحالة).
- ينتقل بعد ذلك أحمد إلى الشكوى من هلاوس حسية “باشوف واحد بارك علىّ بيفطسنى” فنتذكر هلاوس محمد طربقها الحقيقية الجنسية العكسية (وقد نرجع إليها إذا أكملنا الحالة).
- ثم يصف الهلاوس السمعية بوضوح، وبالرغم من أنهم يلعبون (وهذه هى الصفة الأساسية للذوات العقلية الطفولية بداخلنا) إلا أنهم يهددون بالتضييع والإعاقة “حنضيعك مش حانخليك تشتغل” ويضيفون إنكارهم وجوده “ممكن انت مالكشى لازمة”
- ثم عزوف أحمد (برغم أننا لم ندرج كل شكواه، أنه يخاف الجلوس مع الناس لأنهم يعرفون ويقرأون أفكاره.
وبعد (ثالثة)
أنا آسف، لم أكن أنوى هذه المرة أن أعرض ما اسميته فى المقدمة عينات محدودة لبيان النفسمراضية، لكن هذا ما حدث، فلعله يكون مثالا بديلا لعرض الحالات المطولة كما فعلنا وسنواصله مع حالة محمد عبد الله (طربقها).
ثم أعود إلى أسباب مواصلة عرض بعض هذا اللقاء على الوجه التالى:
3) لم أتردد من محاولة اختراق القواعد التقليدية، فقمت باشراك محمد عبد الله فى مناقشة حالة أحمد، وخاصة فيما يتعلق بالتوقف عن العمل مع إشارة محدودة إلى زخم الضلالات والهلاوس.
4) اكتشفت الآن أن ما شجعنى على اختراق القواعد أن مشاركتى مع اثنين من المرضى معا فى حضور الأطباء الدارسين: هو إجراء قريب مما يجرى فى العلاج الجمعى حين نتصارح ونتجادل (بمشاركة الوعى البينشخصى) فنتعرف على طبيعة ما فى مريض ما من خلال السماح لمريض آخر بتعرية مناسبة مواكبة.
5) قلت انتهزها فرصة لأن أعرض جزءا من حالة أخرى كعينة محدودة للفكرة المطروحة فى المقدمة، دون أن يزيح حالة محمد تماما، كما أقترحت فى المقدمة، وهذا ما حدث رغما عنى.
تذكرة:
دعونا نتذكر أننا مازلنا نعرض لقاءات محمد عبد الله (طربقها) وأننا ما عرجنا إلى شكوى أحمد (وليست حالته) إلا كجملة اعتراضية أخذت كل النشرة.
فأكتفى بها
ونكمل غدًا.
[1] -Evolutionary Biorhythmic Theory
[2] – وهذا ما لمسناه حين أسهم الرائد الجميل النبيل أ.د. جمال التركى فى المشاركة فى بعض ما نشرناه من ألعاب باللهجة التونسية الجميلة) .
[3] -Concretized consciousness