نشرة “الإنسان والتطور”
الثلاثاء: 5-1-2016
السنة التاسعة
العدد: 3049
حالات وأحوال (22)
تابع: رحلة التفكيك والتخليق(18)
حوار “بلدى” نَفْسِمْراضى!! (سيكوباثولوجى) (2)
تفعيل فاعلية الوجدان فى الوعى البينشخصى
المقدمة:
ما زال الحوار غير مألوف، وأرجو أن يصل إلى المتابعين الفرق بين استعمال كلمة “الحب” بالمعنى الشائع، وكذا استعمالها بمعنى “الطرح” (1) التحليلنفسى، وبين استعمالها هنا لفحص وتدعيم التواصل البينشخصى، كما آمل أن يتضح المفهوم النفسمراضى الذى يبين مباشرة ومن واقع استقبال المريض أو على هامش وعيه كيف يكون ظهور الواقع الداخلى سواء فى شكل هلاوس أو تخيلات هو نتيجة -بشكل ما- لغياب الموضوع الخارجى، وبالذات الموضوع الإنسانى الخارجى، (مع فقد المعنى والحركية والإبداعية والدلالة).
نشرة اليوم: (تكملة من نفس المقابلة بتاريخ: 28/8/2008)
انتهت نشرة أمس بالمقطع التالى:
……
“محمد”: أنا فاهم
د.يحيى: (يشير إلى الحضور) إمال ليه الدكاترا دول مش فاهمين، هما أحرار، ما هما حايروحوا فى داهيه لو ما اجتهدوش معانا …. أنا بقالى 40 سنه كدهه، ولا ييجى 50 سنة عمال باحاول، أنا لما كنت قدهم ما كنش فاهم زيهم، بس تصدق بالله، أنا عرفتها شوية شوية من محمد طربقها ومن كل المحمّدات.
ونكمل الآن:
“محمد”: (يضحك) إنت عارف أنا باضحك ليه
د.يحيى: ليه؟
“محمد”: مش عارف،…. أنا باكلمك بجد والله
د.يحيى: أنا شايف إنك مبسوط من كلامنا وقعدتنا، يمكن بتحبنى
“محمد”: مش عارف
د.يحيى: إلا قل لى: هوّا أنا باحبك؟
“محمد”: آه
د.يحيى: على فكرة، تصدّق إن ده مهم عندى من غير ما نقوله، أصل المهم هوّا اللى بيوصل لك صح، مش اللى أنا باقوله، تعرف: أنا حاصعـّبها عليك، أصله لو واصل لك إنى باحبك فعلاً، يبقى ماتطلعش لك خيالات تانى، يعنى لو مِصَدَّق إنى انا باحبك زى ما وصلك فى الجروب مننا كلنا، حاتلاقى مافيش لزوم للخيالات.
“محمد”: بس أنا باحبك بصحيح
د.يحيى: ما انا عارف إنك بتحبنى، زى ما أنت عارف إنى باحبك
التعليق: الكلام عن الحب هكذا ليس مطلوبا عادة، وهنا لا تبدو فيه فرط الاعتمادية، وهو من ناحية متبادَلٌ، وهو من ناحية أخرى يبدو امتدادا للتواصل الذى حدث فى الجروب “زى ما وصلك فى الجروب” وكأن الطبيب يحاور (يتواصل مع) المريض بالأصالة عن نفسه، والنيابة عن الوعى الجمعى مرة أخرى إلى الوعى الجماعى… الخ لكن التحذير من استعمال لفظ “الحب” بالذات أثناء المقابلة والعلاج لا يأتى من أنه بعيد عن وصف العلاقة الجارية، وإنما لأن كلمة “الحب” كما غلبت فى ثقافتنا، وربما بصفة عامة، كادت تفقد معادلها الموضوعى ومصداقيتها، الذى جرى فى هذا الحوار لا يتصل مباشرة بما يسمى “حب” عادة، بقدر ما يُظهر سلاسة ودرجة التواصل عبر الوعى البينشخصى، كما أنه لا يصح أن يـُترجم إلى ما يسمى “الطرْح” بلغة التحليل النفسى، لأن هذا الوجدان المُتَخَلِّق ليس مجرد نقلة لمشاعر سابقة إلى موضوع آنىّ (الطرح!)، وإنما هو تخليق لتواصل وعيين “هنا والآن” من جديد.
“محمد”: لو انت بتحبنى…
د.يحيى: (مقاطِعَا) الخيالات ماتجيش
“محمد”: دى حاجة يعلمها ربنا بقى
د.يحيى: طبعاً ربنا بيبارك فى الصَّـح، نعمل حاجه صح كده زى ما خلقنا، تروح كـَبـْرانه برضاه ورحمته، هنا ودلوقتى.
“محمد”: تصدق وتآمِنْ بالله:
د.يحيى: لا إله إلا الله
“محمد”: أنا باحبك أكتر من أبويا
د.يحيى: ما أنا عارف
“محمد”: أنا ماباحبش أبويا أصلاً
د.يحيى: ما أنا عارف، بس….
“محمد”: (مقاطعا) بكلِّمَك بجد والله
د.يحيى: خلّى بالك، إنت كده بتخففها: أصل لو ما باتحبش أبوك خالص خالص، يبقى بتحبنى اى كلام، يعنى أى شوية حب يبقوا تمام التمام
“محمد”: أنا ماباحبوش كده، بكلمك بجد
د.يحيى: بصراحة أنا مبسوط من حكاية “كده” دى، “ما باحبوش كده”، زى ما يكون الحب أنواع
“محمد”: أنا صريح
د.يحيى: دا واصلنى من غير ما تقول
“محمد”: طب ليه ماباحبـِّش أبويا
د.يحيى: أوووه!! دى حدوته تانية بقى، خلينا فى النهارده
“محمد”: بس دى حكاية..
د.يحيى: برضه خلينا فى هنا ودلوقتى
“محمد”: هيّا ليها تفسير عندكم فى علم النفس والكلام ده
د.يحيى: تانى!!؟ نَفْس إيه ونيلة أيه؟ إنت معلق على حكاية نَفْس ونَفْسِية، ما احنا قلنا مافيش حاجة اسمها “محمد نفسية” تعلق عليها كل خيبتك، عشان كده نبعد عن حكاية النفس دى خالص، خلينا فى ربنا، وعلاقتنا، والخيالات، والجوع، والدكاترة، والشغل.
نلاحظ: رجوع المريض إلى محاولة التبرير والتفسير باستعماله تعبير “علم النفس” – وما إليه- كما يتصوره، وكأن كل الذى يطلبه هنا هو: “هيّا لها تفسير عندكم”، ولعلنا نذكر كيف رفض الطبيب وبشدة محمد “نفسية” فى الوقت الذى قبل فيه كل المحمديِنْ، (نشرة 30-11-2015)، وبديهى أن رد الطبيب هنا عرض بديلا مكثفا صعبا حين قال: “ربنا، وعلاقتنا، والخيالات، والجوع، والدكاترة، والشغل” فهل يا ترى وصلت هذه الجرعة بكل هذا الازدحام إلى المريض، وكيف؟
المريض : آه، صحيح، الظاهر كده
د.يحيى : لو الحاجات دى تلمها على بعضها، الأمور حاتمشى، ولا تقولّى لى نفسيه ولا مانفسياش
المريض : إنت عارف انا عايز أقول لك، عايز أقول لك الكلام ده من أمتى
د.يحيى : من امتى؟
المريض : من فتره
د.يحيى : ما أنا عارف
المريض : من فتره وانا باتخيل إن أنا هنا، وباقول، وقاعد أتكلم عادى، مفيش اى حاجه، وعادى عايز أقول حاجه للدكتور يحيى، أتخيل إنى قاعد كده وحاطط رجل على رجل، وباتكلم، وأنا جاى فى المواصلات وأنا فى البيت وأنا نايم وأنا صاحى مش فاهم يعنى أنا الحاجات دى بتتعبنى ساعات.
د.يحيى : يعنى أنا بقيت ضمن الخيالات يالَهْ
المريض : ههه؟ أيوه
د.يحيى : بس إوعى تكون بتتخيل خيالات جنسيه عنى، إعمل معروف هههههه (ضحك)
المريض : (ضحك) هههههههههه لأ دى خيالات تانية
د.يحيى : بينى وبينك الظاهر فيه علاقة بين الخيالات دى والخيالات دكهه، أهه ده جوع وده جوع، هى واحده فى أًصلها بينى وبينك، يعنى
المريض : مش فاهم
د.يحيى : ما هو الجوع لبنى آدمين ساعات يظهر فى شكل جنسى، وساعات يظهر فى شكل علاجى، وساعات يظهر فى شكل ودّ وحنّيه، واحنا بقى ندور على المصدر الحقيقى المناسب اللى بيِسدّ الجوع ده، لأن لو سبنا الحكاية كده راح تتملا بأى حاجة مِنْ جُـوَّه والسلام
المريض : آه، باين كلها واحد
د.يحيى : بتقول إيه؟ يا راجل دانا مستصعب الكلام ده على الدكاترة، وساعات ألاقيه صعب حتى علىَّ شخصيا، يقوم يوصلك كده بالسهولة دى.
المريض : ما هو صحيح كلها واحد
د.يحيى : يا راجل دانا باجرجرك فى الكلام، تروح واخدنى على قد عقلى وتقول لى كلها واحد، يا رب تكون بتقصدها بصحيح عشان الدكاترا يفهموا
التعليق: كانت مغامرة أن تطرح كل هذه الجرعة من النفسمراضية التركيبية ومالها من أهمية لاختبار نوعية “العلاقة البينشخصية” (التى تسمى أحيانا “العلاقة بالموضوع” حسب المدرسة المسماة بهذا الاسم)، كانت مغامرة أن تطرح بهذه المباشرة على مريض بهذا المستوى التعليمى والثقافى والاجتماعى، لذلك ظهر الشك على الطبيب أن المريض يوافقه “والسلام”.
لكن لم يتم الربط هذه المرة بين ظهور الخيالات وبين غياب الموضوع أو جفاف العلاقات، ويبدو أن الجرعة فعلا كانت زيادة، إذ أن المريض راح يتراجع تقريبا عن أن “كلها واحد”، وربما يكون قد اكتشف دون أن يقترح الطبيب – أن الخيالات أو الهلاوس قد ضـُمّنت فى “كلها واحد” فأردف:
المريض : بس الخيالات الجنسيه دى حاجه تانية
د.يحيى : ليه بقى؟ ما انت لسه قايل كلها واحد
المريض : خيالاتى معاك إنت حاجه تانية
د.يحيى : يعنى مش واحد؟
المريض : لأ مش واحد
د.يحيى : أمال قلت واحد ليه من شويه
المريض : ماكنتش مركِّز
د.يحيى : ولاّ بترجع فى كلامك، ولا يمكن الاثنين موجودين جنب بعض، زى ما قلت قبل كده: “مش فاهم” و”فاهم” (نشرة 28-12-2015)، يمكن هنا برضه “كلها واحد”، و”مش واحد”، بصراحة المسألة دى صعبة ومن حق الدكاترا إنهم ما يفهموش، عشان كده بيتلخبطوا، إنما المجانين اللى زيك بيفهموها دى بالذات.
المريض : ازاى بقى؟!!!
د.يحيى : ما هو كله جوع،….. جوع للبنى آدمين
المريض : جوع إزاى؟
د.يحيى : جعان بنى آدمين، وعطشان كمان، يا إما تتغذى وتشرب خلق الله، يا إما تشرب من كيعانك(2) وبعدين لما يزيد الجوع والعطش: تنشف من جوّه: تروح مشقق ومتفركش زى ما حصل واتجننت وبقيت محمد فركشنى
المريض : (ضحك) بس انا مش مجنون أوى يعنى
د.يحيى : هوّا فيه مجنون قوى ومجنون نص نص
المريض : مش مجنون اوى زى زمان
د.يحيى : هوّا أنت يخرج من يدّك تتجنن تانى؟ ما خلاص راحت عليك! كتك نيله
المريض : طبيعى برضه، مفيش اى حاجه.
نلاحظ أولاً أن إقرار الطبيب بحق المريض (أو الحق عموما) فى أن نفهم ولا نفهم فى نفس الوقت، أو أنها كلها واحد وكلها مش واحد فى نفس الوقت وهو ما يسمى بحركية التناقض، وهو أقرب إلى ما تتصف به حركية الإمراضية، وهو مرحلة مشتركة بين المجنون والمبدع،
لكن فى حين أن المجنون يفهمها ويقبلها ولو نسبيا ثم يتوقف عندها أو يشكو منها، فإن المبدع يحتويها ويشغـِّلها فى جدل خلاق حتى تتضفر إلى وُلاف أنضج، وبهذا يمكن أن نقبل إقرار محمد بقبول التناقض هكذا، وفى نفس الوقت صعوبة ذلك عند الشخص العادى (الممثل فى الحاضرين مثلا) نفهمه على حقيقته ودلالته بالنسبة للمريض فى هذه المرحلة.
ثم إن هذا المقطع يرجعنا أيضا إلى قضية “اختيار الجنون” وهنا إشارة إلى “اتخاذ قرار الجنون”، والعجيب أيضا أن المرضى وخاصة الذهانيين يقبلون هذا الاحتمال أثناء العلاج دون شعور بأنهم متهمون أو متمارضون، وهم يقبلونه بالمعنى الذى سبق شرحه (نشرة: 29-12-2015) أكثر مما يقبله أو يفهمه الأشخاص العاديون، وأكثر من الإعلاميين، وأكثر من كثير من الأطباء النفسيين والمعالجين، ويمكن الرجوع إلى الحوار حول هذا الموضوع فى “حوار بريد الجمعة” مع د. رفيق حاتم (نشرة: 25/7/2008)
وذات مرة أثناء علاقة طويلة مثل هذه قال لى مريض حميم بعد أن تطورت علاقتنا هكذا، “الله يجازيك يا دكتور، إنت قفِّلت علىَّ السكك، ما عنتش قادر اتجنن”.!!
وإلى الأسبوع القادم
إذ مازلنا فى نفس المقابلة.
[1] – Transference
[2] – “تشرب من كيعانك” تعبير بالعامية المصرية، شائع فى هذه الطبقة ويعنى يصيبك الأذى والحرمان والاحباط (تقريبا).