نشرة “الإنسان والتطور”
الثلاثاء: 24 -11-2015
السنة التاسعة
العدد: 3007
حالات وأحوال (12) تابع: رحلة التفكيك والتخليق(8)
“أسلوب تجنب الشكوى والفضفضة”(2)
انتهت نشرة أمس دون أن تكتملالمقابلة بما يلى:
د.يحيي: (لـ: محمد) يوم الأربع ده جروب، واحنا شطّبنا دورنا معاك فى الجروب، قلنا: حاتيجى للدكتوره/ مي، ووقت ما هى تحدد لك أشوفك حاشوفك.
هذا هو النظام المتبع عادة للإشراف، أن يقابل المشرف المريض بعد كل أربع جلسات وأيضا بناء على طلب المعالج أو المريض، وبترتيب منظم.
وفيما يلى بقية المقابلة:
د. يحيى: لما انت عرفت إن الدكتورة “مى” اتجوزتمش تطمن عليها
“محمد”: حاسألها
د.يحيي: ما أنت لو كنت بتيجى كنت اطـّمنت من غير ما تسألها
“محمد”: إزاى؟
د. يحيى: حاتشوف وشها منوّر
“محمد”: أنا عايز اقولك الكلمتين اللى جوايا والله
د.يحيي: لا والنبى خليهم جواك أحسن
“محمد”: والله ما عارف انام من الكلمتين دول
د.يحيي: طيب قل لى الأول، هوّا مين فيكم اللى جايْلى النهارده “محمد بس” ولا “محمد طربقها” ولا مين؟ هوّا احنا قولنا ايه؟ هما طلعوا كام “محمد” انا نسيت، كانوا تلاتة باين
“محمد”: “طربقها” و”فركشها” و”دلوقتى”.
د.يحيي: الله يفتح عليك، طب ما أنت فاكر أهه
“محمد”: بس انا تعبان دلوقتى
د.يحيي: ما انا عارف
“محمد”: ياريت ييجى طربقها بتاع زمان..
د.يحيي: لا يا شيخ!! (لسَّه) برضه عايز ترجَّع طربقها اللى اشتغل لما هِلِكْ، وبعدين كمـِّل لحد ما طربقها على دماغ نفسه، الخايب النايب، راحت متفركشة منه
“محمد”: ولا كان خايب ولا حاجه كان شغال تمام
د.يحيي: طبعا كان شغال، وده شرف جامد لكن مادام خاب، يبقى، ما حسبهاش صح، قعد يطربقها لحد ما أٌنهك واتكسر
“محمد”: طب اتكسر بسبب ايه
د.يحيي: عشان طربقها لوحده، زى ما انت عايز تطربقها من أول وجديد وأنت لوحدك برضه، تبقى معرض للكسر تانى
“محمد”: هوّا أنا انكسرت عشان اللى حصل فى الجيش ولا عشان الست اللى انا كنت باحبها؟ ولا ايه؟
مرة أخرى نعود إلى تمسك محمد بتفضيله الرجوع إلى قديمُه، ورفضه التصديق أن هذا القديم هو المسئول عن معاناته وما وصل إليه، ومرة أخرى نرجع إلى الحذر والتحذير من التعليل الخطى المختزَلْ، بالبحث عن سبب محدد، خاصة فى حالات الذهان، وقد يكون هذا الموقف وراء افتراض أن الكلام الذى كان محمد سوف يبوح به فى هذه المقابلة مرتبط بالعودة للأسباب –كما تساءل فى نهاية الفقرة السابقة – وهذا يعود بنا إلى التذكرة بأسلوب إحلال “إذن ماذا” محل “لماذا”، الأمر الذى ناقشناه سابقا مرارا، وفى هذه الحالة تحديدا فى (نشرة 9-11-2015 رحلة التفكيك والتخليق (3) (تدعيم الاتفاق العلاجى).
د.يحيي: احنا مش قلنا بلاش نقلِّب تانى لحد ما نبقى جامدين؟
“محمد”: انا عايز اسألك سؤال
د.يحيي: استنى بس، هات ورقه وقلم عشان نتفق على الاتفاق الجديد، الأول، أنا خايف لتكون بتكذب علىّ، انت بتاخد دواء ولا لأ؟
“محمد”: باخد الدواء
د.يحيي: كتر الف خيرك، إنت بتعمل حاجتين من أشرف ما يكون، بتاخد الدواء وتشتغل، بالشكل ده نكمل سوا سوا من غير إنهاك، واحنا مع بعض على سِكِّتنا.
حين أقوم بشكر المريض فأنا أعنى ذلك تماما وعادة ما يستغرب المريض، وكذا بعض زملائى الأصغر، فالمعتاد أن المريض هو الذى يشكر الطبيب على خدماته وإخلاصه وإسهامه فى شفائه، علما بأننى حين أشكر المريض (هنا أفضل تعبير: كتـَّر ألف خيرك) فإننى أفعل ذلك لأننى بهذا أُشْرِكُهُ فى مهمة شفائه، كما أشركته من قبل فى مسئولية مرضه حين أوصّل له أنه اختار هذا الحل المرضى فى مستوى أعمق من وجوده (وقد سبق أن تناولت ذلك بالتفصيل فى نشرات سابقة (فى اختيار الجنون) (نشرة 13/7/2008) و(نشرة 20/7/2008) فإذا كان المرض اختيارا، فإن الخروج منه من باب أوْلى هو تصحيح لهذا الاختيار، باختيار لاحق حيث إنه فرصة لاختيار جديد، ونحن نحفز “محمد” هنا أن يختار “محمد دلوقتى” الذى يتخلق من جدل المحَمَّدين الذين تحركوا وقبلناهم معا، وقد سبق أن قدمنا عينات من موقف المجموعة والمعالجين تـُبين ذلك، لكن يبدوا أن محمد مازال يساوم فى هذا الاختيار طول الوقت، فهو حتى هذه المقابلة وحتى بعد العلاج الجمعى: مازال يلوّح برغبته فى العودة إلى “محمد طربقها”.
“محمد”: هو الدواء بيعمل ايه معايا
د.يحيي: يابنى، الله يطول عمرك، بيعمل اللى بتحس بيه
“محمد”: هو بيريحنى نفسيا، …
د.يحيي: يعنى أنت أول ما الدواء يريحك نفسيا تنقطع عننا، إنت بقالك أكثر من 6 أسابيع ما ظهرتش؟
“محمد”: لأ ما يخشش فى 6 – 7 اسابيع، اقل من كده
د.يحيي: مش عارف هو يا 6 يا 7 ، لما تيجى د.مى حانشوف
“محمد”: المهم
د.يحيي: لأ مش المهم، أنا مش حاخليك تقول المهم اللى فى مخك، اللى انت جاى عشان تقوله
“محمد”: طب ليه؟
د.يحيي: انت جاى عشان تشوفنى ، ولاّ عشان “تقول”
“محمد”: عشان الاتنين
د.يحيى: جاى عشان تصدق ان انا عايش، ولا عشان تحكى
“محمد”: ربنا يديك طولة العمر
د.يحيي: طب وحا عمل إيه بطولة العمر إذا ما كنتش أعمل ولاد وبنات، اللى انت شايفهم دول، هما اللى بيساعدونى عشان نحمى بعضنا ببعضنا معاكم، يالاَّ مع السلامه تيجى الاسبوع الجاى فى نفس الميعاد وتدعى لـ د.مى ان ربنا يسعدها فى جوازِتها.
“محمد”: هيّا اتجوزت، طب ما تخلينى اقول الكلمتين
د.يحيى اللى أوّله شرط اخره نور حاتيجى الجمعه الجايه، ونشوف، ماشى؟
“محمد”: طب انا عايز اقول الكلمتين
د.يحيي: قلنا حاتيجى الجمعه الجايه ونشوف
“محمد”: انا عايز اقول.
د.يحيي: حاتيجى وتقول زى ما أنت عايز، الجمعة الجايه حاسيبك تقول اللى أنت عايزه، بس تكون رجعت الشغل من النهاردة، إنت عارف إن الشغل من غير ما تطربقها هو عمود اللى احنا بنعمله سوا سوا
“محمد”: انا كنت قلت حاجى الاربعاء، وعايز اقولك على اللى تاعبنى وبتاع
د.يحيي: دا كان الأربع القديم بتاع الجروب، أنا مش حاسيبك تتكلم النهاردة، الكلام بيبعدنى عنك، احنا عايزين نشوف فيه علاقه ولا مافيش علاقه، مش أنت “تقول” وانا “اقول” وخلاص!! ما ينفعش، هوّا انت إما “بتطربقها” وإما “بتقول”!!
“محمد”: ما انا لسَّه باطربقها
د.يحيي: ما أنت زى ما تكون راجع لزمان وماسك الفرشه وقاعد تكلمها، وما فيش غير الحيطه تكلمك، والسلم يقع من تحتك: تِنْكَسر.
“محمد”: آه فعلا: هى بتكلمنى وانا بكلمها
د.يحيي: شفت إزاى! إنت بتجرجرنى غصبن عنى عشان تقول اللى انت جاى بيه
“محمد”: وبتجيب لى نسوان
د.يحيي: يا راجل مش كده، مش قدام الجماعة، يلا امشى، مستنيك الجمعه الجايه الساعه كام؟ وماتنساش الدوا، ياللا سلم عليا ياللا، حاتيجئ الساعه كام؟
من أهم آليات احتواء الهلاوس والخيالات هو التوقف عن الحديث عنها، وتكرار وصفها إلا فى أضيق نطاق،ومع معالجين محدودين تماما، وهذا الأسلوب هو ما اسميُتُه: أسلوب الضمور بعدم الاستعمال (1) وهنا ينبغى أن نوضح تناقضا ظاهراً فى أسلوب هذا العلاج عامة، لكنه تناقض مكشوف، وحين نستوعبه لا يعوقنا، بل يوجهنا :
- نحن ابتداء: نقبل الواقع الداخلى على أنه حقيقة، وبالتالى نتعامل مع هذه الهلاوس باعتبارها “حقيقة الداخل” الماثل، وليست نتيجة حيلة إسقاطية، ونتعامل معها مثلما نتعامل مع الواقع الخارجى.
- ثم إننا بعد ذلك نجنّبها ونكف عن وصفها أو الحديث عنها أو حتى الشكوى منها ما أمكن ذلك.
- ثم نواصل تنمية بقية مستويات الدماغ من خلال التداخل، والعمل، والمشاركة، ويتم ذلك تلقائيا وعلى جميع المستويات بما يشمل الدماغ الأحدث والدماغ الوجدانى التواصلى والدماغ الحدْسى الفطرى وغير ذلك، وكل هذا يجرى فى تكامل وجَدَل من خلال حركية الوعى البينشخصى والوعى الجمعى المتد إلى المابعد !.
- وبمرور الزمن مع تواصل المواكبة والتأهيل، لا يعود لهذه الهلاوس وظيفة، فتعجز أن تقوم مقام الواقع، أو أن تلغِى الآخر الحقيقى مرة أخرى.
“محمد”: (ردا على: حاتيجى الساعة كام) زى دلوقتى يعنى، ولا إيه، الساعة 7 يعنى؟
د.يحيي: خلى بالك ان فى رمضان انا موجود بس يوم الاربعاء، مابدرّسشى الخميس، إنت حتيجى يوم الخميس اللى جئ الساعه 7، انا حجيلك مخصوص يابنى عشان اقعد معاك مده اطول
“محمد”: ماشى، اجيلك يوم الخميس انشاء الله
د.يحيي: الساعه سبعة مش سبعة وربع عشان لو عندك شغل تروح شغلك، الخميس الجاى تروح الشغل بعد ما أشوفك، كل سنه وانت طيب، عارف عشان ايه؟
“محمد”: عشان رمضان طبعا، حايكون عشان ايه يعنى
د.يحيي: يالاّ: رمضان كريم.
“محمد”: الله أكرم
التعقيب:
فضّلت أن يكون التعقيب الأخير هو مقتطف من المناقشة التى دارت بعد خروج محمد
د.يحيي: هوّا ايه اللى حصل دلوقتى؟ إيه اللى وصل لكم من المقابلة دى، يا رب تكون حاجة وصلت غير اللى تعرفوه، غير اللى اتعودتوا عليه
د.محمد: وصلنى علاقة الصداقة اللى بين حضرتك وبينه.
د.يحيي: اسم الله اسم الله أظن كلمة الصداقة لوصف اللى جرى دا كله مش كفاية، انت عامل زى بتوع التليفزيون: سيداتى سادتى: “على الطبيب ان يحب مرضاه”.
د.محمد: بصراحة الحوار كان غريب شوية
د.يحيي: إنت فاكر يا ابنى لما قلت لكم عن “لاكان”، “جان لاكان”، والنقد اللى قدمه لرواية: “إدجار آلان بو”. اللى اسمها “الرسالة المفقودة”، وإزاى وضّح من خلاله العلاقة بين الدال والمدلول، وإنه فى القصة قدِر يتوصل للسارق عن طريق فحص تصرفه ودراسة موقفه وحركته وتوجهاته ثم تمثله،، مش عن طريق كلام قاله السارق أو المتهم.
د.محمد: مش فاهم
د.يحيي: عندك حق، يعنى لو انا ركزت مع “محمد” على إنى أعرف الحاجة اللى هوّا جى عشان يقولها، وقعدت أفسر اللى شافه، ولاّ أطمنُه، يبقى أنا بهتم بمحتوى كلامه أكثر ما أنا بهتم بحضوره وبالعلاقة اللى بيننا، واللى انت شفته من حركية العتاب والخناقة والهزار والاختلاف، ما هو المحتوى اللى كان مصر إنه يقوله ده لماً ما دخلناش فيه من أصله، قدرنا نتواصل أحسن حول طبيعة العلاقة، وذكريات الجروب والعِشْرة، والحرص على بعضنا، والإلتزام، والنظام، من غير ما أعرف هوّا كان عايز يقول إيه من أصله، اخدت بالك؟
د.محمد: خدت بالى، بس مش قوى
د.يحيي: عندك حق، حاحاول ما استعملش الكلام المجعلص ده، المقابلة دى فيها “إشارات” و”رايح جى” و”مقاومة” و”معاكسة” و”هزار”، و”دعاء”، كل ده عبارة عن “التشكيل لمحتوى المقابلة” أكثر من اللى بتقوله رموز الكلمات، من غير التشكيل ده والحركية الطبيعية دى يبقى مافيش علاقه، ومن غير علاقه يبقى ما فيش علاج، يعنى أنا لما شفت محمد جاى بغرض محدد جدا عشان يقول كلام فى ذهنه بعد ما غاب 6 اسابيع، وفى نفس الوقت حسيت إنه بيتخلى، حاولت أرجع للأصل وأعزم عليه إننا نحافظ على العلاقة الأول، وقررت – من غير ما اقصد طبعا، يعنى بالخبرة- إنى أمنعه إنه يقول الكلام اللى هوّا جىْ عشانه، يبقى بالشكل ده بنفتح الباب لفحص أصل العلاقة، وهيّا وصلت لحد فين، وحانكّمل ازاى.
الكلام ده عكس الشائع عن التحليل النفسى، وأطلـّع اللى جوايا، وهات يا تفسير وتأويل وتحليل، اللى جرى دلوقتى لَمَس العلاقة الحيوية الطبيعية اللى بتحصل بين الأحياء وبعضها من غير كلام، الأول بين أفراد نفس النوع، وبعدين حتى بين الأنواع وبعضها، وده المستوى اللى بيعمله العلاج الجمعى، وفى الغالب هو ده الأصل فى التركيب البشرى، وهو اللى بيحضَّر الحضور بوعى متبادل يحفز المشاركة لتكوين وعى جمعى، الظاهر البنى آدم خد مقلب لما بقى حيوان ناطق، فهمت يا ابنى؟
د. محمد: فهمت شوية بس الكلام صعب
د.يحيي: واحدة واحدة، مع الأيام والتدريب والإشراف ربنا يسهل.
……………
…………..
ثم نلتقى الاسبوع القادم فى اللقاء المطول الخاص مع “محمد”، بدون حضور الأطباء المقيمين أو الدارسين، وهو الذى جرى يوم الخميس التالى حسب الموعد المتفق عليه.
[1] – Disuse atrophy