“يوميا” الإنسان والتطور
2-9-2008
بداية السنة الثانية
العدد: 368
حالات وأحوال:
(سوف نكرر فى كل مرة: أن اسم المريض والمعالج وأية بيانات قد تدل على المريض هى أسماء ومعلومات بديلة، لكنها لا تغير المحتوى العلمى أو التدريبى).
محاولات الوجود، فى تكرارٍ مُجهَضْ (I)
(3): الفرض!
قبل الحالة:
(1) مع بداية العام الثانى، ومع ترجيح كفة عرض الخبرة الإكينيكية من واقع ثقافتنا الخاصة، بما يتبع ذلك من احتمالات تدعيم التدريب، وفتح باب الحوار عامة، والحوار الإكلينيكى خاصة، جاءت البداية بهذه الحالة الصعبة المتحدية قبل نهاية العام الأول 26، 27 /8/2008 ، وكان عنوان الحلقتين السابقتين هو: “هل هذه الأم قاتلة“، وهو عنوان مزعج فى ذاته، وأعتقد أننى لم أكن موفقا فى اختياره، لأن الذى يثيره مثل هذا العنوان، يختلف باختلاف موقعه ومتلقيه: مثلا إذا ورد فى صفحة الحوادث فى أى صحيفة يومية فإنه خليق أن يثير حزمة من مشاعر الرفض والخوف والتساؤل، أما إذا جاء نفس العنوان فى سياق تقديم حالة عقلية، فهو غالبا ما يثير حزمة من الأسئلة القانونية، والخوف من المريض النفسى، أو الشفقة عليه، أو الابتعاد عنه.
أنا أتحدث حتى الآن عن العنوان، وليس عن الحالة، ولا يمكن أن أشترط على القارئ – كما فعلت بسخْفٍ جسوْر فى الحلقة الأولى – أن يؤجل مشاعره وتساؤلاته حتى يلم بأبعاد الحالة، ويتعرف على الهدف من عرضها، ثم الشرح اللاحق، والتفسير (ثم قراءتها نقدا وفروضا)، من هنا وجب الاعتذار والتراجع إلى العنوان الحالى: محاولات الوجود فى تكرارٍ مُجهَضْ
(2) برغم ما نبهنا إليه مع نشر الجزء الأول من التوصية بتجنب كلٍّ من:
(أ) المبادرة بالتساؤلات القانونية (طب نفس شرعى)،
(ب) الشفقة السطحية (مصمصمة شفاة)
(جـ) اللهفة التشخيصية (لصق اللافتة)
(ء) التعليل الخطى، (الحتمية السببية)
بالرغم من كل ذلك فإن أغلب ما وصَلَنَا شفاهة أو كتابة ركز على كل ذلك، وثبت أن كل المعلقين استعملوا كامل حقهم ألا يتبعوا هذه التوصيات التى بدت وكأنها وصاية على أسلوب التلقى، ويبدو أن هذا هو ما خطر لى وأنا اكتبها فأضفت دون حماس أنها توصيات غير ملزمة، ويبدو أن الأصدقاء الذين عقبوا كما شاؤوا صدّقوا أكثر هذه الجملة فى العنوان، فلم يلتزموا غالبا بأى من التوصيات والحمد لله.
(3) كانت نتيجة التحدى “بعدم الالتزام” طيّبة، فقد وردت إلينا اقتراحات موضوعية مسئولة، مثل ضرورة البحث عن أسباب عضوية لهذا الموت الباكر المتلاحق للبنات والولد قبل القفز إلى النقد (التفسير) النفسى، مع التركيز على احتمال مرض الزهرى أو أى اسباب عضوية أخرى يمكن أن تفسر ذلك. وهذا هو الذى دعانا للتأجيل أسبوعا قمنا فيه بعمل اللازم حتى فحص اختبار VDRL للزهرى، وجاءت النتائح كلها سلبية، إلا أن هذا لا يمنع من احتمالات أخرى لايمكن استبعادها وإن لم يمكن فحصها الآن لصعوبة جمع المعلومات وطول الزمن المنقضى، ومن ذلك محاولة التعرف على ما إذا كانت هذه المريضة كانت تتناول أية عقاقير، وبالذات أثناء شهور الحمل الاولى، خاصة وأن قائمة العقاقير الماسِخَهْ Teratogenic تتسع دائرتها من أول الأسبرين حتى أغلب العقاقير النفسية، وغيرها.
برغم كل ذلك، سواء وجد سبب آخر أو لم يوجد، فقد كان، ومازال، التركيز فى هذه الحالة هو على موقف الأم من الأحداث ومعنى الأعراض، وليس البحث عن السبب، أو تعليق لافتة التشخيص.
(4) قررت فى البداية أن أغامر بنشر الحالة كلها معا (الأجزاء جميعا متلاحقة) حتى يمكن للقارئ أن يلم بها دون الاضطرار إلى اللجوء إلى الروابط، والمراجعة، وإذا بها تصل إلى ما يزيد عن ثمانين صفحة، قلت لنفسى بنفس العناد السخيف، “ولو .. من يريد أن يعرف ويناقش عليه أن يتحمل”، ثم أتاح لى التأجيل هذا الأسبوع أن أتراجع عن هذا الإلحاح والرغبة فى المشاركة ، وأفضل نشر الفروض مع المقتطفات الداعمة لها، ليس أكثر. ثم أضع الحالة برمتها مع الشرح والفروض فى ملف مستقل باسم “ملاحق النشرة اليومية وإسهامات الضيوف” ، وهو الملف الذى حل محل الملف السابق الذى كان اسمه “المحررون الضيوف: الإنسان والتطور“، الذى ظل خاويا طوال العام الماضى إلا من مقالين(1) ثم إنى عدلت عن ذلك فى آخر لحظة،
وسوف أنشر المقابلة كاملة غداً وأمرى وأمركم لله.
(5) القراءة النقدية (نقد النص البشرى وليس بالضرورة تفسيره) المطروحة هنا كفروض محتملة، سوف تظل فروضا نافعة (وليست بالضرورة صحيحة) حيث لا يوجد أى دليل يحسم الموقف، وهى ليست نافعة فقط بالنسبة لعلاج الحالة، وإنما نأمل أن يمتد نفعها لفتح آفاق أرحب فأرحب لفهم أعمق للطبيعة البشرية كما هى، دون وضع شرط مستوى معين للذكاء، أو للتعليم، أو للوعى أو للمستوى الاقتصادى والاجتماعى،
(6) يظل الفرض – فى حدود اجتهادنا – قائما كفرض لا ينفيه أن نجد سببا مهيِّئا أو مرسِّباً للأحداث والمرض والموت، لأنه يتناول الحاضر الماثل أثناء الفحص من أقوال المريضة ومن قراءة الحوار معها هى وذويها.
(بهذه المراجعة لم يعد هناك إلزام بترتيب الخطوات المنهجية التى اقترحناها فى أول حلقة)
تمهيٌد للفرض:
“الوعى بالوجود الذاتى ليس بالضرورة شعوريا ظاهراً”
يظن أغلب الناس، ومن بينهم مثقفون وعلماء، أن مشكلة “أن توجد” هى قاصرة على الطبقة الذكية الفائقة الوعى بالوجود، والرؤية، والتنظير والتفكير، والتأمل. الأرجح أن هذا ظن يحتاج إلى مراجعة، ومن ناحيتى: هو ابعد عن الحقيقة، هناك فرق بين “أن توجد” وأن “تعى أنك موجود“، الوجود الفيزيقى، والاستمرار فيه ليس قرار الفرد، لكنه صراع النوع مع الأنواع الأخرى، ولكى يستمر النوع، فإن أفراده مطالبون بالتواجد، بل مقهورون عليه بقوانين حيواتهم دون اختيار، يظل كذلك طوال مدى عمر أفراد النوع، إلا أن تحدث كوارث إبادة جماعية، أو صدفة انقراض.
يختلف الوجود البشرى عن ذلك فى أن “الوجود الفردى” له معالمه الخاصة عن وجود النوع، أى أن الفرد الإنسان ليس فقط ممِّثلا لنوعه، وإنما هو كيان فى ذاته، ويبدو أن هذا قد أدى إلى أن يمتد الصراع ويحتد: ليس بين نوعنا والأنواع الأخرى، وإنما أيضا بين الذوات وبعضها، فى معظم المجالات هذا التفرد الذى يكاد يختص به النوع البشرى قائم حتى لو لم يصل إلى مستوى الوعى الظاهر، هو تميز بالتفرد، على أى مستوى من مستويات الوعى، حتى لو لم يكن ظاهرا، وهو “عملية” أكثر منه صفة.
فى مداخلتى عن “الحرية والجنون والإبداع” انتقلت مع قضية حرية اختيار الوجود “أكون أو لا أكون” إلى مستوى آخر من الحرية وهو اختيار “أكون أو أصير”، – “ أكون “أنا” أو “أصير ما يمكن أن يكون منى“.
من هنا أضيفت للوجود البشرى حركية النمو والتطور المفتوحة النهاية كجزء لا يتجزأ من تميزه بشرا فردًا.
الذى صعَّب المسألة أكثر هى أن هذه الخطوات، لنٍكون، ونصير، على أى مستوى من الوعى، لا تتم بجهد ذاتى، أو تنافس بقائى، بل هى تنشط وتتمادى من خلال تفاعل جدلى طول الوقت، تفاعل مع كيان بشرىّ آخر، يحاول نفس المحاولة، بل إن المسيرة (مسيرة الكينونة فالصيرورة) تبدأ من هذا “الآخر” الذى يعترف بى، (الأم عادة وبداية) فأبدأ رحلتى، لأعترف به، وبغيره ثم يكون من يكون ، ليصير إلى ما يمكن، مما لا يعرف.
من هذا المنطلق أمكننى أن أقرأ صراعات الكينونة والصيرورة فى مرضاى بشكل أوضح ، فسَّر لى كثيرا من تجليات الكينونة السلبية، والمعكوسة، والمتفسخة، والبديلة، (المرض) كما أوضح لى المسارات الإيجابية فى الاتجاه الآخر: فى العلاج والنمو والإبداع.
تطبيق هذا التمهيد على حالة اليوم
حين نتكلم فى فرض حالة اليوم عن محاولات هذه الأم المطحونة المتألمة (برغم ما وصل إلى الناس منها) أن “تكون” من خلال الآليات البيولوجية النفسية المتاحة، لا نتوقع أنها تفعل ذلك بأى قدر من الإرادة الظاهرة أو الوعى الناطق، وإنما نبدأ بفرضية التميز البشرى، الذى يعطى لكل من ينضم تحت رايته، بغض النظر عن مستوى شعوره بذلك، أو مستوى ذكائه ، أو مدى إسهام إبداعه فى ذلك، أو ظروف حياته، يعطيه هذا الحق الحيوى التاريخى، الذى تتمتع به كل الأنواع مالم تنقرض، يضاف إليه الحق البشرى فى التفرد للتحاور والتجاوز، والتكافل والتكامل، كل ذلك دون إلزام بإعلانه أو الشعور به ظاهرا.
من هنا نبدأ وضع الفرض لفهم حالة اليوم، الذى قد يتضح أكثر مع قراءة تفاصيل المقابلة غداً.
الصياغة الكلية للحالة:
استهلال:
هى سيدة فى الثانية والأربعين من عمرها، نشأت فى عائلة فقيرة (جدا) مات والدها الطيب الحانى (بلا حضور ولا فاعلية) وهى فى العاشرة، وقيل أنها لم تحزن عليه (هذا قول أخيها الأصغر الذى كان فى الثامنة!! كيف نصدقه الآن بعد 32 سنة؟) وقد نشأت مع أمها المكافحة المسئولة، إلا أنه لم يصلها منها أى تفاهم أو حنان (على حد قول المريضة، أنظر بعد)
تزوجت وهى فى العشرين زواجا تقليديا من سمكرى فى الأربعين، رضيت به حيناً وقنعت بتهدئة ما استشعرته من حركية جسدية أقلقتها قبل الزواج، لكن يبدو أن الأمر توقف عند هذا التسكين والتفريغ، ثم اقتصر دورها تحديداً وتماما على أن تكون مهمتها فى هذا الزواج هو أن تأتى له بالذكر تلو الذكر (بنصّ ألفاظها)، فمات بينهما التواصل، إنْ كان قد وُجِدَ أصلاً، وأصبحت مجرد معمل تفريخ لم تشترك فى إنشائه ولم توافق على استمراره، ومع ذلك فكانت بطبيتعها الأنثوية والأمومية، تستقبل كل مشروع جديد، وكأنه فرصة جديدة، “أن تكون هى”، يتحرك الجنين فيها، فتنسى أنه وُضَعَ فيها قهرا لتحقيق غرضٍ آخر، فتتقمصه وتتنظر أن توجد من خلاله من جديد، لكن ما أن يخرج منها حتى تنفصل عنه، إذ تجد نفسها بعيدة لا أحد يرعاها، ولا أحد يعترف بدورها، ولا أحد يهتم باحتمالات فرصتها، تنفصل برغمها عنه فتهمله أو تنساه، يحدث ذلك على مستوى من الوعى لم تدركه ولم تعبر عنه إلا بعد أن مرضت، وبشكل بسيط وعفوى ومباشر، تنفصل عنه، فينفصل عنها، ويموت، خاصة إن كان بنتا، وهى تتكلم هنا فى الحوار عن احتمال الضعف مع الاستهتار، ضعفها هى واستهتار من حولها بها، وبمن أنجبت.
يموت الولد الأول عقب الولادة مباشرة، ثم تموت البنات الأربعة ما بين شهرين وتسعة، ويبقى ولد مسخ معوق تلقى به الأم بنفسها من فوق السطح عند سن التاسعة فيموت قتيلا، ويستمر الولد الثانى حتى الآن حتى سن 14 سنة سليما برغم إصابته صغيرا بارتجاج وكسر فى الساق، لكنه نجا وأستمر.
تختلفت أسباب الوفاة بعد الولادة، فهى تعزى إلى سبب عضوى أو آخر، لكن يبقى موقف الأم هو هو، وتبرر الأم هذه الوفيات إلى أنه “ماكنش فيه معاونة”، وأيضا إلى حرب مع الآخرين يعلنه خوفها الباكر منهم أن يقتلوا أولادها (حتى قبل نوبة المرض الأخيرة أى منذ 4 سنوات) (أنظر بعد).
الفرض
هذه البنت/السيدة/ الأم/ لم توجد أبدا، لا بذاتها بنتا، ولا زوجة فى بيت من يقال له زوجها، ولا فى ابنها الأول أو بناتها، وهى لم تكف أبدا عن توقع وأمل “أن توجد” بمجرد أن تشعر بالجنين فى رحمها، وكأنها تحمل بنفسها، وليس بآخر قادم من خلالها، كان هذا هو نص تفسيرها لسبب قذف ابنها المسخ المعوق من على السطح، قالت أنها ألقت به لتتفرغ للنونو الجديد الذى تحرك فى بطنها (والذى لا نعرف إن كان قد أسقط أم كان وهما خالصا)، وأيضا لتصلح ما بينها وبين زوجها (لعله يراها لذاتها، لا كمجرد معمل تفريخ).
وحين تفشل كل المحاولات على مستوى ما من الوعى، لا يبقى أمامها إلا تفعيل “عدمها” شخصيا بأن تحاول أن تتخلص من حياتها نفسها. ونستطيع هنا أن نضع احتمال أن موت كل هؤلاء الأطفال كان انتحارا مُزاحاً بشكلٍ أو بآخر.
وحين تكرر الاحباط فى أن “يوجد” بذاته أو فى امتدادته، هذا المشروع البشرى الهش “حميدة”!! تفجر داخله، فتعرت بدائيته، (ومن ثَمَّ المشاعر المحارمية) وتباعدت ذواته (ومن ثَمَّ الأفكار الاضطهادية من ضلالات وهلاوس) وتجمدت مشاعره برغم الاحتفاظ بالطيبة، التى لاحتْ وراء نوعُ شديد الدلالة من الألم تجلى بالذات فى إلحاحها المتكرر على رغبتها فى العلاج.
ينهار هذا الكيان الهش، إثر ضغط عادى عابر، إذْ حدث الانهيار عقب أزمة اقتصادية صعبة نتيجة سوء تصرف الزوج فى ميراث لها محدود. هنا نتصور أن الميراث الصغير كان أيضا أملا جديدا فى الحصول على وسيلة يمكن أن تساهم فى دعم مسيرة وجودها، مهما كان رمزيا، و لما كان سبب ضياع هذا الميراث هو سوء تصرف نفس الزوج الذى لم تكن تمثل له إلا أداة إنجاب، تجسدت الخسارة المادية تعلن خسارة الحياة بأكملها، وبدأ المرض.
استجابة المريضة لجلسات تنظيم الإيقاع فى النوبة الأولى هى دليل آخر على صلابة محاولاتها للوجود من خلال هذا التكرار العنيد (الفاشل) من ناحية، كما أنه يشير إلى ثورة المخ الأقدم وعشوائيته من ناحية أخرى.
أما إصرارها على الاستمرار فى الحياة حتى الآن، وإلحاحها على طلب العلاج برغم كل هذا التفسخ، فهو دليل آخر على استمرار محاولات الوجود وهى تأمل أن تعطى الذى تبقى لها (ابنها عبد الرحمن) ما حُرمت منه، إذْ تعترف به، وتكمل تربيته، وتجهز له دكانا، وتُزوجه. (أنظر بعد)
والآن:
هل هذه الأم قاتلة حتى بعد اعترافها بإلقاء ابنها المسخ من على السطح؟
هل هى ذاهبة العقل لأنها قالت مالم نفهمه ببساطه لأول وهلة؟
هل هى متبلدة المشاعر حتى قبل المرض لأنها لم تحزن (ظاهراً) لفقد والدها وهى فى العاشرة، كما لم تتأثر (ظاهراً) لفقد ابنها وبناتها الواحدة تلو الأخرى؟
أظن أن نشرة اليوم لا تحتمل أكثر من ذلك، والمقابلة المطولة كلها معروضة غداً لمن شاء أن يحضرنا.
[1] – هذه الفرصة التى أنشأت هذا الملف، قد تتيح لنا أن نخف من حجم رسائل ضيوف وأصدقاء “بريد الجمعة”، سواء بالنسبة لآرائهم المطولة، أو لإبداعهم الموازى، أو المستقل.