الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / جذور وأصول الفكر الإيقاعحيوى (4) مقتطفات: من كتاب “رباعيات ..و.. رباعيات”

جذور وأصول الفكر الإيقاعحيوى (4) مقتطفات: من كتاب “رباعيات ..و.. رباعيات”

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت: 10-6-2017

السنة العاشرة

العدد:  3570    

جذور وأصول الفكر الإيقاعحيوى (4)4-6-2017

مقتطفات:

من كتاب

 “رباعيات ..و.. رباعيات”

 

المقدمة

أمس الجمعة ، الرابع عشر من رمضان سلـَّمت المطبعة أربعة كتب معا للنشر الورقى بعد أن راجعتها، وحدَّثت ما لزم فيها وهى “رباعيات، و، رباعيات،” & “تداعيات يحيى الرخاوى” (تجريب إبداعى)، و”ملحمة الرحيل والعوْد” (الجزء الثالث من ثلاثية المشى على الصراط)، و”أغوار النفس”  (الديوان بالعامية أساس العمل الجوهر الثانى الذى نشر تفسيره تباعا بعنوان فقه العلاقات البشرية فى هذه النشرات (من نشرة 10-6-2009) إلى (نشرة 15-9-2010).

لن أملّ من تكرار أننى مازلت أفاجأ بهذا التأصيل التلقائى فى كتاباتى القديمة البعيدة عن ما يسمى العلم التقليدى، أو الطبنفسى السائد Mainstream Psychiatry ، وبالذات فى كتاباتى النقدية، وأننى أفاجَأ أُكثر فأكثر بأنها تصب فى نفس المصب، وهى تتوجه إلى نفس التوجه.

لعل فى هذا ما يؤكد لى موقفى من فضل اجتهاداتى النقدية فى كل المجالات على فكرى ممارسا للطب، وطالبا للمعرفة.

 سوف أواصل ممارسة الاقتطاف من هذا الفكر السابق لدعم موقفى المعرفى والوجودى من قضيتى مع الفطرة ومهنتى التى أصبحت أوجزها بأنها حرفة  الإسهام الإبداعى والفنى والعلمى للتعرف على طبيعة، وتنقية، ما يسمى  “الفطرة البشرية”، كما خلقها بارؤها إلى ما خلقها له، ثم تصحيح ما انحرفت إليه بتعديل المسار بفن الطب وغيره، بديلا عن تخميد الحركة  بقهر الكيمياء عشوائيا على طول الخط، وهذا هو الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى.

نواصل اليوم مع ما بدأناه الأسبوع الماضى مع الكتاب الأول “رباعيات ورباعيات”:

مع عمر الخيام

بعد صحبتنا لصلاح جاهين  نجد أنفسنا اليوم ونحن مع عمر الخيام، وأستطيع أن أوجز وجهة النظر الأخرى الواجب توضيحها وهى ما وصلتُ إليه من خلال النقد الذى  قمت به  فيما يخص الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى: وهو أن تعرفى المتأنى على الخيام من رباعياته قد أكد لى أن الوجود البشرى الحقيقى  له مقاييس أخرى غير المطروحة فى السوق المعاصرة ، بما فى ذلك السوق النفسية، وأن وسواس السعى إلى تحقيق الرفاهية واللذة خالصتين هو ضد الطبيعة البشرية، وأن الله امتحننا بحمل الأمانة وما أثقلها، وعلينا أن نحترم كل ما يعنيه ذلك، ونفرح به، ونظل نأمل فى عفوه،وعونه، ونحن نحمل مشقته.

المقتطف (1) الفرض:

وضعتُ فرضا شاملا لقراءة رباعيات الخيام  يقول (على لسانه):

إنى أتقلب على جمر الألم، واليقين أقرب إلى المستحيل، الحيرة مؤلمة شريفة، والموت ذو وجه قبيح، ولكنه حقيقة راسخة، والخمر غسيل الروح، وما دام الأمر كذلك، فاللذة واجبة إذا كان عندكم، يا خلق الله: نظر، فافعلوا ما لم أستطعْه، والله غفور رحيم على الرغم من أنف الكاس والطاس والكُهـّان، والوصاة جميعا“.

هذه الرباعيات أعلنت لى أن جرعة الأمان الأوّلى” عند الخيام كانت ناقصة منذ البداية (بداية النمو)، فأصبح ذلك دافعاً ملحاً لتعويضٍ واعدٍ باللذة والراحة، كما ظهر فى شكل هرب متواصل، تجنبا لألم مواجهة الواقع، مما ألهب السعى المستمر إلى الاستزادة من اللذة (الأمان)؛ فتتجلى من خلال هذا وذاك مظاهر ذلك  الجوع الملِحّ إلى طلب أمان اعتمادى نكوصى جاهز، يسمى أحيانا “الحب”، وهو يتجلى فى مظاهر الجوع العاطفى فى صوره المختلفة، كما يتبدى فى صور أخرى معاصرة مختلفة، لكنها فى النهاية لا تحقق إلا أنواعا من الهرب بالتسكين المتاح غالبا، وهذا يستدعى عادة، غلبة الميل إلى “إلغاء الموضوع”، اللهم إلا فى صورته الظاهرة المنضبطة الورقية الشكلية، أما الموضوع الحقيقى  الذى يمثل صعوبة وجدل الوجود البشرى إذ يتطلب تحملا ومثابرة، فإنه أكبر من احتمال المتسرعى النكوصى، فلابد من الإسراع إلى إلغائه بالانسحاب اللحوح  بعيدا عن عمل علاقة حقيقية، وذلك  بـالتـثبيت على الموقف الذاتوى المنغلق الساكن،  وهو ما يسمى بموقف “اللاموضوع”، أو الموقف الشيزيدى، لكن الخيام قد زين هذا الموقف بكل وسائل التجميل والتزويق، وهو يعلم فى قرارة نفسه، ويقر فى صلب رباعياته، بأنه عَجَز، وعاجزٌ، عن تسويغ ذلك بما يبرر وجوده الأرقى، ويُرضى بشريته، المتوجهة به، وبالرغم منه، إلى خالقه الذى لم يخلقنا لنلتذ، وإنما لنتناسق مع دوائرنا ودوائر كونه إليه ونحن نعمِّرها معا.

المقتطف (2)

نار الألم وأمل الغيبوبة

هكذا يبدو أن الخيام  (كما بدا فى رباعياته على الأقل) لم يجرع من كأس الأمان الأّولى، ما طمأنه إلى قدرته على الاستمرار فى جدل الأخذ والعطاء، وفى الوقت ذاته، لم يلجأ إلى سيف التوجس العدوانى كبديل يعلن به حرمانه؛ (مثلما فعل نجيب سرور: أنظر بعد)، فظل يلح فى محاولة “الرجوع” لإعادة الكرّة وأخـْذِ حقه مما أسماه  وصوّره على أنه “اللذة”، فلم يستطع دائما (أو: لم يستطع أصلا)، فراح يدعونا إلى ذلك بالنيابة، ثم تحمس حتى كاد يرى أن  اللذة هى الترياق والحل، مع أنه لم يتردد فى إعلان فشل هذا الحل أولا بأول.

يقف الخيام وهو يمسك بكأس الخمر كأنه مصنوع من جمجمة الشاة، وساق الفقير معا، وهو يطلب أن يرتوى من اللذة (بالخمر) قبل أن يحل أجله.

1 ـ رأيت خزافا رحاه تدور

يجد ّفى صوغ دِنان الخمور

كأنه يخلط فى طينها

جمجمة الشاة بساق الفقير.

***

أفق وهات الكأس أنعم بها

واكشف خفايا النفس من حجبها

وروّ أوصالى بها قبلما

يصاغ دنّ الخمر من تربها

التعقيب:

الدراسة النقدية التى قمت بها جعلتنى أكتشف أكثر فأكثر هذه الخدعة المسامة “اللذة”، (والتى لها أسماء تدليل عصرية مثل “السعادة”، أو “الرفاهية” أو حتى “الحرية” (السائبة) أحيانا، أظهرت لى هذه الدراسة جرعة الألم الرائع المريع الذى يكمن وراء هذا السعى اللحوح نحو اللذة ، وقد كتبت فى نفس الدراسة ما يبين ذلك قائلا :

المقتطف (3)

يقف الخيام على منبره “البار” المصنوع من شوك الألم، وخلاصة الأحزان ليخطب فى الناس ألا يضيعوا وقتهم فى الحصول على ما هو زائل، بل  هو يكاد ينصحهم ألا يتألموا أصلا (إن أمكن). فإن فعلوا أو هـُدِّدُوا، فليشربوا لينسوا، وليشربوا ليفيقوا، وليشربوا لينطلقوا، وهنا يجدر بنا أن نلاحظ ابتداءً:

أولاً: إن الدعوة إلى اللذة لا تعلن أن صاحبها يعرفها أو يعايشها بالضرورة، ولكنها قد تعلن أنه يتمناها ويرجوها، وتكرار مثل هذه الدعوة كما هى الحال فى رباعيات الخيام؛ قد يؤكد أن هذه الأمنية لم تتحقق، وربما لن تتحقق له (على الرغم من فرط اشتياقه لها)

 ثانياً: إن الخيام لم يدعُ نفسه إلى اللذة بقدر ما دعا الناس إليها فى شكل الواعظ النديم، وكأنه يئس – شخصيا- من الحصول عليها، فأمـِل أن يتعظ غيره من عجزه عن التمتع بها؛ ربما نتيجة لفرط حزنه وتراكم آلامه، بل إن دعوته لنفسه بدت لى وكأنها – أساسا- دعوة لنا دون نفسه.

ثالثاً: نظراً إلى أن الخيام لم يخاطب نفسه بقدر ما خاطبنا نحن، فهو لم يعلن أبعاد وعمق داخله (مثل جاهين)، وإنما راح يعلن استقباله للواقع كما يبدو فى الخارج أساساً، كذلك هو لم يحم ذاته وصورتها بالاستغراق فى الفخر بها (مثل سرور)، فجاء حديث النفس إما تبريرا للذة، وإما استغفارا لذنب، وإما إعلانا لحزن، وإما تململا من حيرة، وكأن “الألم” من هذه المواجهة كان أكبر من السماح بمواجهتها أو اختراقها، كما أن “الخوف من الألم” كان أضخم من السماح بالفخر بالذات.

رابعاً: إن الخيام كان يسابق الزمن، وبالذات يسابق الموت، فهو يريد أن يعبَّ قدر ما يستطيع، مما يتصور أنه يستطيعه، قبل فوات الأوان:

1 ـ إشرب فهذا اليوم إن أدبرتْ

به الليالى لم يُعـــِدْه القدر.

(30/48)

2 ـ الموت حق لست أخشى الردى

وإنما أخشى فوات الأوان.

(102/72)

خامسا: إن الدافع الآخر بعد الهرب من الألم لدعوته إلى النهل من نهر اللذة هو الجهل (الشريف) بالمصير، فما دمنا لا نعرف، فلننهل مما نعرف من هنا تضخمت عنده قيمة ” الهنا والآن” النرجسية،(عكس “هنا والآن” الموضوعية) بما يفيد اللذة الأضمن

المقتطف (4):

فرط الألم، والخوف من زيادته

… الملاحَظ فى رباعيات الخيام، أنها تكاد تعلن أن فرط الألم، والخوف منه، هما نتيجة مباشرة لنقص جرعة الأمان الأساسية، كما نلاحظ أن أيا من طلب اللذة أو الدعوة إليها، يبدو باعتباره التصور النابع من هذا الافتراض المبدئى، وأحسب أن انتشار هذه الرباعيات على مساحة العالم، وكذا خلودها طول هذا الزمن إنما يرجع جزئيا إلى احتمال غلبة هذا الموقف الدفاعى الذاتوى المعاصر الذى يبرر الهرب المؤقت، والنكوص الآمِل عند معظم الناس كما ساد فى الحياة المعاصرة المغتربة.

المتجول فى بستان الخيام، بعنبه وحصرمه، إن صدقت المحاولة، وأحسن صحبته ولم يكتف بظاهر قوله، سوف يضرس من حصرمه المرّ، قبل أن ينتشى من عصير عنبه المُخمـّر، فألم الخيام وحزنه هما الأساس، بل إننا نكاد ندرك أنهما الأساس والفروع جميعا على الرغم من دعوته المتكررة إلى عكس ذلك.

1- ـ … ولم أصِب فى العيش إلا الشقاء

(2/35)

2- …ولم أذق فى العيش طعم الهناء

(48/54)

 وبعد

الطبنفسى الإيقاعحيوى لا يقدس اللذة، ولا يلوّح بالرفاهية، بل إنه  يؤكد المرة تلو المرة بأن الحياة السوية هى التى تعرف قيمة الألم كدافع للتطور، وتعايش قيمة القلق كطبيعة للوجود ، وهذا هو السبيل إلى شرف الرؤية التى تكرمنا بشرا، فنواصل السعى إلى المصب ونحن نستلهم المنبع،  الذى يدقق فى رباعيات الخيام سوف يكتشف أنه عرف ويعرف الألم بجرعات تكاد تغلب على تصفيقه للذة والدعوة لها، إن الذى يقتطف من الخيام موقفه من اللذة ويركز على تمجيده للشرب والقصف،  يكاد لا يعرفه ، وأعتقد أن ما شاع عنه على هذا الجانب (جانب اللذة) فى المجتمع المعاصر جدا، هو رؤية جزئية تساير بعض الجوانب الهروبية فى الثقافة المغتربة التى نحرص على استيرادها سابقة التجهيز والتفسير؟.

موقف الخيام من الله سبحانه هو موقف المؤمن الراجى المعاتب الساعى إليه، وهذا جزء جوهرى على مسار التطور عامة ، لا يمكن لمبدع حقيقى أن يفلت من مواجهته، وهو بعض أصول وجذور الفكر الذى يقدمه الطبنفسى الإيقعاعحييوى التطورى

 وهو بعض ما سوف نكمل فيه غدا وبعد غد مع الخيام أيضا (غالبا)

النشرة السابقة 1النشرة التالية 1

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *