نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 9-6-2018
السنة الحادية عشرة
العدد: 3934
جذور إرهاصات الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى (من الإبداع الخاص)
مقدمة
وعدت فى الأسبوع الماضى أن أخصص يوم السبت للفصل التالى (الخامس) من رواية “الواقعة” (1) أنشره مجتمعا، لأكتفى يومى الأحد والأثنين بمحاولة الإشارة إلى ما يربط هذا الإبداع الباكر بالطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى.
ثم قمت بكتابة موجز للفصول الأربعة تمهيدا لقراءة هذا الفصل (مثل الأسبوع الماضى)، فوجدت أننى أقوم بأبشع عمل يمكن أن يلحق بمثل هذا الإبداع.
فكتبت إشارة لأكثر إيجازا لجماع الفصول الأربعة معا فوجدتها أقبح وأقبح،
فعدلت عن كل ذلك وقررت أن أنشر الفصول الباقية للرواية تباعا كل يوم سبت خاصة بعد أن لاحظت المتابعات من الأصدقاء فى بريد الجمعة.
أنا أسف.
*****
نشرة اليوم
الفصل الخامس
“عقل بالى”
أخذت المشاكل تتصاعد بعد أن خانتنى ذاكرتى فى كل موقع، بدأت أول الأمر بنسيان أشيائى الصغيرة بالمنزل، البيت ستر وغطاء، وزوجتى صابرة حتى الآن، أما فى العمل فالأمر قد استشرى حتى امتلأت الملفات بالتأشيرات الحمراء تزيـن كل الصفحات وعرفت الأوراق الرجوع إلى مكتبى حتى تصورت أنها سترجع بعد ذلك وحدها دون أن يحملها الساعى إلىّ بعد المراجعة والتأشير عليها بما لا لم أعد أفهمه، ارتفعت الهمسات حتى أصبحت تلميحات علنية، أخذت شكل القفشات ذات المغزى، ثم أصبحت التعليقات تلقى فى وجهى مباشرة ولا شىء يوقظنى من ذهولى، وحتى الحمار الجنسى فى جوفى توقف عن هز ذيلة.
ذات صباح جاء الأستاذ نصحى عبد الصادق رئيسى المباشر وجذب كرسيا إلى جوار مكتبى، بدأ حديثه معى فى وداعة وأدب ظاهر مثل طلبة مدارس الفرير أيام زمان، …. وجهه ملئ بالرقة والجـد معا، رجل طيب بلا شك.
- صباح الخير يا أستاذ عبد السلام.
- صباح الخير يا افندم.
- كيف حالك اليوم؟
أى جديد تسوقه الأيام، وكيف أرد هذا الطارق وهو يجلس قبالتى طول النهار.
- مثل كل يوم يا افندم.
- أريد أن أتحدث معك على انفراد.
انـفراد؟ هل فى الأمر سر؟ تـرى هل لاحظ مشاعرى فى تلك الفترة التى انتهت؟ ماذا بينى وبينه من أسرار؟
- أنا تحت أمرك.
قلتـها ولم أتحرك من مقعدى فاقترب أكثر بكرسيه وقال هامسا.
- أنا أعرف محللا ممتازا ساعد صديقا لى يمر بمثل حالتك وشفى على يديه تماما.
- مثل حالتى؟ مالها حالتى يا أستاذ نصحى.
- كلنا معرضون لمثل هذه الأمور، والمرض النفسى لم يعد عيبا هذه الأيام إنه علامة حضارية، من منا يستطيع أن يتحمل كل هذه الضغوط، ..؟
- أنا علامة حضارية يا أستاذ نصحى؟. أى ضغوط وأى مرض تتكلم عنه؟
- لن تخسر شيئا وأنا على استعداد للذهاب معك.
يبدو أن الوصاية بدأت تـُـفرض علىّ من الخارج أيضا، لابد من مزيد من الحذر،
- إطمئن يا أستاذ نصحى لقد ذهبت من قبل للطبيب، وتبينت أنى طبيعى تماما، لن أشل عقلى مرة ثانية باستعمال تلك الأقراص، لقد توقف عقلى عن العمل وحده يا أستاذ نصحى دون حاجة إلى كيمياء.
- لا أقراص ولا يحزونون هو محلل نفسى ممتاز، لا يعطى أقراصا.
- إذن ماذا يعطى؟.
- لا عليك من التفاصيل، ولكن صديقى يقول إنه يحسن الاستماع ويبحث عن الأسباب، وإذا عرف السبب انحلت العقد والمشاكل.
- إذا عرف السبب ؟؟ ..كان غريب أشطر.
- مـَـنْ غريب؟
- آسف، لا شئ، الأمر غريب، ولا غريب إلا الشيطان.
- لست أمزح يا أخ عبد السلام، أنت صاحب أولاد، والهمس يزداد من حولك، والحالة بدأت تهدد عملك.
مزيد من اليقظة والحذر، التهديد أصبح علنا وليس عندى ما أضمن أن ينفعنى إذا أنا وعدته بإصلاح عملى، لم أعد أستطيع أن أحتفظ فى عقلى بأى رقم إلا لمدة ثوان لا تكفى لنقله من صفحة إلى أخرى. نسيت جدول الضرب، ولابد من الرضوخ ولو من باب المناورة أو التأجيل.
- شكرا يا أستاذ نصحى. سأحاول.
حاولت الانصراف إلى ما بيدى من ملفات ولكنه أكمل برقة وأدب دون تصنع.
- ماذا ستحاول يا عبد السلام يا أخى؟ إنك لم تسأل حتى عن العنوان.
- آسف كنت سأسألك فيما بعد.
-… أم أنك نسيت ما كنا نتحدث فيه؟
يعايرنى بالنسيان، لا مفر من التسليم قبل أن يذكرنى بمصائب أدائى فى العمل.
- أيدا، .. ولكنى لا أحب أن أزعجك بشئونى الخاصة.
- إسمع النصيحة، لم يعد هذا الأمر من شئونك الخاصة، وأنت على هذا الحال، أنت تعلم أنى أتلقى الإهانات من المدير العام كل يوم بسببك، اعتبرنى صديقك يا أخى، جرب، هو أمر إدارى إذن، وليست نصيحة !!! لا مفر من التسليم.
-.. أنا تحت أمرك.
تناول الأستاذ نصحى ورقة من فوق الكتب وكتب فيها بضعة كلمات تصورت أنها إنذار بالفصل، كورها وناولها لى، أخذتها فى صمت وانصرفت بعد أن ربت على كتفى فى حنان.
جلست إلى مكتبى لا أجرؤ على فتح الورقة، حاولت أن أسترجع الحديث كله أو بعضه فلم أستطع أن أتبين إلا أن إنذارا رسميا قد وجه إلى، بدأت حالتى تهدد رزقى، فى يدى ورقة تؤكد ذلك، انتهزت فرصة أن أحدا من الزملاء لا ينظر إلى وفتحت الورقة فى هدوء.
الدكتور “….. “.. مستشار نفسى، الإستشارة بميعاد سابق، ما علاقة هذا الدكتور بعملى بالإنذار بالفصل؟ لم أسمع عن حكاية “المستشار” هذه قبل ذلك، هل هو مستشار فى اللجنة الثلاثية قبل الفصل؟ لا أملك التراجع حفظا على مرتبى ووظيفتى ولن أعدم فائدة فى أن يكون عندى عذر دائم لأخطائى فى العمل، الأمر الذى سأرفضه حتى الموت هو التسليم لتلك الأقراص مرة ثانية، أكد لى نصحى أفندى أن هذا المحلل المستشار ليس له علاقة بالأقراص، ولكن خوفى مازال قائما، لن أفعلها ولو كان مصيرى التسول على النواصى، شىء لله يا أم العواجز!!.
مر يومان وثلاثة وأنا أحاول أن أؤجل التجربة خوفا من المجهول، إلا أن نظرات الأستاذ نصحى المتسائلة كانت تلاحقنى مع تأشيراته الحمراء المنتظمة، حالتى تزداد سوءا، يبدو ألا مفر.
- التليفون دائما مشغول يا أستاذ نصحى، فكيف أحصل على ميعاد؟
- لا بد أن تطلبه إلا عشرة، ..
- إلا عشرة؟ ماذا تعنى؟.
- إنه يرفع السماعة فيما عدا آخر عشر دقائق من كل ساعة حيث يتلقى المكالمات ويعطى المواعيد،
- ولماذا يا أستاذ نصحى.
- حتى لا يقطع أحد الجلسة أثناء العلاج، ألم أقل لك إنه عمل جاد، ليس مجرد أقراص، أو تطييب خاطر.
إذن فهو عمل جاد، قالها وهو يطمئننى، إلا أن ترددى زاد، كان فى نيتى أن أذهب لمجرد الوقاية من الفصل، أما أن يأخذ أحدهم الحكاية جدا فهذا مالا أحتمله، بدأ الشك يساورنى فى أن الأستاذ نصحى نفسه كان من بين زبائن هذا المستشار، وإلا فما الداعى لكل هذا الحماس والدفاع؟ ثم إن معلومات الأستاذ نصحى تبدو”نفسية جدا”، من أين له بها؟ هل يريدنى أن أشاركه شيئا ما، هل يريدنى أن أكون مثله حتى لا يخجل مما فعل؟ لكننى لست مثله، هو إنسان يتكلم بالحساب كأنه يقرأ من كتاب، يعامل الناس فى رقة تدعو للشك، يلمع ذقنه كل يوم حتى أتعجب كيف يفعلها بهذه الصورة، تساءلت مرة أيام نشاط عقلى الساخر إن كان يستعمل الزلطة التى كانت تستعملها خالتي”نجيبه” فى تزليط قاعة الفرن بعد دهاكتها، الفرق بين، إن كان هو يحتمل الوقوف أمام المرآة لإتمام هذه المهمة المعقدة، فهو لا بد يحتمل الخمسين دقيقة التى حدثنى عنها عند هذا”المستشار”، أنا لست هو، خاصمت المرآة منذ أخرجت لى لسانها، ليس عندى أدنى فكرة عن هذه الأمور”الجادة”، أحس أن عقلى قد تحلل بحيث لم يعد يحتمل أى نبش فى أنقاضه، أين المهرب؟
كلما زادت مخاوفى تعجلت الذهاب إلى المغامرة حتى أنتهى من هذه التخمينات والمحاذير.
* * *
أخذت موعدا عجيبا بعد محاولات أقرب إلى المناورات العسكرية، كان الموعد خمسة إلا خمسة، ما هذه المواعيد المضحكة؟ هل هذا من لزوم الصنعة؟ التليفون إلا عشرة والموعد إلا خمسة، لابد اننا لسنا فى مصر العزيزة، كيف يمكن أن تكون المواعيد بهذه الدقة فى بلد بهذه الفوضى؟ من أين لى بالأتوبيس أو حتى بالتاكسى الذى سيوصلنى إلا خمسة؟ لهجته كانت حاسمة ومحذرة فى نفس الوقت، هو شخصيا الذى أعطى الموعد بلا وسيط، ليس أمامى إلا احترامه بقدر ما شعرت منه بالاحترام.
* * *
قبل الموعد بأكثر من ساعة كنت قد وصلت إلى باب العيادة، وجدته مغلقا بعكس عيادة النطاسى السابق حيث كان المنظر أقرب إلى جميعة استهلاكية، يبدو أنى على وشك الدخول فى تجربة مختلفة فعلا، دققت الجرس، فتحت لى سيدة فى منتصف العمر ولم تدعـنى للدخول، سألتنى ماذا أريد، فلما أجبتها بأن ميعادى الساعة كذا طلبت منى فى رقة أن أحضر فى الموعد، انصرفت محرجا منبهرا.
أين أقضى هذا الوقت؟ أليس عند هذا الدكتور حجرة لأمثالى من الرعية التى لا تستطيع أن تحضر فى الموعد إلا حسب الاحتمالات اللوغاريتمية للمواصلات العشوائية؟ تركت لقدماى العنان مثل أيام زمان، وكان عقلى قد كف عن الفرجة والفلسفة والنظريات، كما كف عن التفكير أصلا، وربما عن الإحساس اليومى حتى بلمس الأشياء، لم تأخذنى قدماى بعيدا فانحرفت إلى أقرب مقهى بلدى ذكـرنى بأيام تجوالى فى حوارى سوق السلاح والسيدة، طلبت شايا” كشريا” مثل أيام زمان، أخذت اتأمل مـَـنْ حولى ممن يشدون فى أنفاس الشيشة أو الجوزة فى هدوء وإتقان، أو يرتشفون المشروبات الساخنة فى تأن وتأمل، ذكرونى بعلاقة غريب زمان بفنجان القهوة، الوجوه تغيب بين الدخان والبخار ثم تظهر فى وضوح هادئ، لا حظت أن عقلى بدأ يعمل بدقة، هكذا وحده، أبعد هذه الأجازة الطويلة يصحو فجأة بعد أن كاد أن يكهن باعتباره لم يعد صالحا للاستعمال الآدمى؟ هل هى صحوة الخوف من المجهول؟ هل زال الكابوس تلقائيا، .؟ رجعت إلى القدرة على التأمل الدقيق والتربيط، يبدو أن مفعول هذا”المستشار” أكيد حتى شفانى “على الريحة”، لعل عدم السماح بالانتظار فى عيادته هو جزء من التمهيد للعلاج الذى أتى بهذه النتيجة قبل أن يبدأ، استعاد عقلى نشاطه وقدرته على الربط بين الأحداث، حاولت أن أتذكر بعض المواقف التى كان يخيل إلى أنها قد غرقت فى طوفان النسيان، نجحت بشكل ملحوظ، إلا أن أياما وأسابيع قد اختفت برمتها تحت القاع، نظرت إلى كوب الشاى الذى يكاد ينتهى وابتمست، يا سلام!! منذ زمن لم أبتسم هكذا، رجع عقلى الساخر إلى نشاطه الحاد اللاذع حتى صور لى أن فى هذا الشاى مادة كيميائية تغسل الصدأ الذهنى، وأن كوبا آخر يمكن أن يتيح لى أن أفتح بقية خزائن عقلى، ثم خطر ببالى أن أغمس فى الشاى مفتاح الشقة الذى طالما عاكسنى وأنا أفتح الباب إلى درجة كنت أخشى معها أن يلحقنى الأستاذ غريب على السلم وأنا على غير استعداد للقائه، لمحنى الجالسون وأنا أهم بوضع المفتاح فى بقايا الشاى فتراجعت سعيدا بعودتى، فلتبق تلك الخزائن المجهولة مغلقة ما شاء لها الصدأ، وليرجع عقل بالى إلى نشاطه السرى الساخر حتى لو أصيب بالفلسفة، هأنذا أكتشف أخيرا أن لى عقلين على الأقل، واحد علنى يتكلم مع الناس وليكن اسمه “عقلي”، والآخر يتكلم فى الخفاء وسوف أطلق عليه”عقل بالى” مثلما كنا نقول صغارا، يبدو أن هذا الحل السعيد يمكن أن يسهل على ما سبق أن حيرنى لما تبينت أن هناك صدقين، وكذبين، وخوفين، وحبين فأكثر تفسير مباشر، كل ذلك لأن لى عقلين على الأقل، يا حلاوة!! عقلى وعقل بالى، كنت أعلم من بعض قراءاتى القديمة أن المحللين النفسيين، مثل هذا المستشار الذى أنتظر لقاءه، يتكلمون عن الشعور واللاشعور فهل يا ترى أيهما يكون الشعور؟ وأيهما يكون اللاشعور؟ اللاشعور على حد علمى لا بد وأن يكون غير مشعور به (!!) وأنا شاعر بكل من العقلين بلا خلط ولا تردد، وفى نفس الوقت، لا بد أنى أتميز عن الناس بهذين الشعورين ياعم نصحى، كل الناس لهم “شعور” “ولاشعور” وأنا لى شعورين، فأيهما سوف يعالجه محللك المستشار يا عم نصحى، خصوصا وأنه فى الغالب مسكين مثلك ليس عنده إلا شعور واحد فقط؟! من يدرى؟ كلها ربع ساعة، ونرى.
نظرت إلى الساعة فوجدت أن الميعاد قد اقترب وحمدت الله أن يقظتى قد تمت قبل اللقاء الموعود حتى أستطيع أن أجتاز هذا الامتحان القادم بنجاح مناسب، وحمدت الله أكثر أنى انتبهت لهذه الصحوة قبل الكشف، حتى لا تختلط علىّ الأمور أكثر، فأحسب أن ذلك من مزايا التحليل النفسى وآثاره، ربما تمت الإفاقة خوفا من التحليل قبل التحليل، هذا فضل على كل حال، خشية اللقاء هى التى أجبرت عقل بالى على النشاط فجأة، ثم تابعه عقلى، أنا استطيع الآن أن اسمـِّـع جدول الضرب، ولا بد أنى أستطيع أن أؤدى عملى بكفاءة تختفى معها تأشيراتك يا أستاذ نصحى، ومن ثم تلميحاتك بالرفت إذا أنا لم أعالج،
ما فائدة أن أذهب إلى هذا المستشار بعد هذه الإفاقة؟ إجراء لن يـُـخـَـسـِّـر، أنا دفعت الكشف، من حقى أن أمارس قدرا من حب الاستطلاع، والأهم من كل ذلك إسكات الأستاذ نصحى، أسرعت الخطى حتى دققت الجرس فى نفس اللحظة التى فتحت لى فيها الباب، لعلها سمعت وقع أقدامى، يبدو من منظرها أنها ربة هذا المكان وليست ممرضة أو مساعدة، أدخلتنى إلى الصالون مباشرة، ناولتها ورقة الحجز محرجا بناء على طلبها، قالت لى دقيقة من فضلك وانصرفت.
لا يوجد غيرى فى المكان، شككت فى وجود الدكتور المحلل، هل أنا فى عيادة أو فى منزل؟ هذا الصالون وتلك التحف توحى أن هذا منزله وأن هذه السيدة زوجته، شعرت بالراحة قليلا حين أحسست أننى فى بيت، لابد أن ساكنى هذا البيت من البشر العاديين، لكن ما هذا الصمت الذى لا يقطعه إلا بندول ساعة الحائط فى الصالة، صوت البندول يقطع الصمت فى أول الأمر إلا أنه يضاعفه بعد حين، أو لعلنى فى مدفن مثل مدافن الناس الأكابر تخليدا لتقليد قدماء المصريين، كله جائز.
مع دقة ساعة الحائط فى الصالة، حضرت السيدة الفاضلة تدعونى إلى الدخول، لم أعد أطيق كل هذا النظام والدقة، راحت يداى تهتز مثل البندول وأنا أتجه إلى حجرة المكتب، تذكرت جلستى فى القهوة البلدى منذ قليل وكيف عاد لى عقلى يحسب ويفكر ويعلق، وتعجبت للفرق بين الموقفين، تساءلت: تـرى لو أنى دخلت إلى هنا مباشرة هل كنت سأصحو هذه الصحوة؟
المكتب جميل رقيق، والرجل يشبه المكتب كأنهما صنعا معا، كان جالسا فقام بنصف وقفة، لم يمد يده وإن كان أومأ برأسه نصف إيماءة، وابتسم لى نصف ابتسامة، كل شىء “نصف” حتى ضوء الحجرة، هى أيضا نصف مضاءة، مازلت مأخوذا بالنظام والنظافة والصمت والدقة، جلست قبالته عبر المكتب، قشعريرة تسرى فى جسدى رغم جو الحجرة المكيف، حاولت أن أستقرئ وجهه فلم أستطع، كل شىء بالحساب مثل الموعد والصمت وحركة بندول الساعة، يداه أيضا تتحركان بالحساب، وحتى تجاعيد وجهه مرسومة بالحساب، هبـت على ريح الشمال الباردة، وتذكرت أدب الأستاذ نصحى ورقته التى تبعث الشك، لابد أن هناك علاقة بين هذا المكان وبين ما آل إليه الأستاذ نصحى من رقة ناعمة مثلجة، لم أحتر هذه المرة فى تحديد الموطن الأصلى لهذا المستشار الدكتور المحلـل مثلما احترت سابقا مع زميله العصبى، أستطيع أن أجزم أنه من سلالة مستوردة من النرويج على وجه التحديد، النرويج دون أى بلد من بلاد الشمال الباردة، أما لماذا النرويج، فلأنى لا أعرف عنها شيئا.
انتظرت فترة طويلة بعد أن أخذ اسمى وعنوانى ومعلومات مستفيضة مثل الأستاذ الدكتور النطاسى السابق وزيادة، سأل عن عدد إخوتى وترتيبى بينهم ونوع رضاعتى، كدت أضحك إذ كيف أتذكر نوع رضاعتى إلا إن كان يقصد عبث خيالى بفردة اليمامة اليسرى لزميلتى آمال، ساد الصمت برهة حتى كدت أستأذن فى الانصراف إلا أنى نظرت فى ساعتى ووجدت أنه لم يمض سوى دقائق محدودة، مازال من حقى، وربما من واجبى أن أبقى، ماذا أفعل فى المدة الباقية يا ترى؟.
قطع هو الصمت مشكورا بصوت يكاد يخرج من بطنه، كان وجهه يحمل نفس التعبير طول الوقت، فلا بد أنه يتكلم من بطنه فعلا، قال فى هدوئه الدمث.
- الآن تفضل,عليك الدور، تكلم، .. هات ما عندك.
قلت فى دهشة.
- ماذا أقول؟ ؟
- قل ما بدا لك.
(رد عقلى بالى فجأة، وهو يلعب حاجبيه: “إحنا رجالك”).
إلا أن عقلى رد فى رزانه.
- أرسلنى الأستاذ نصحى عبد الصادق لما لاحظ كثرة نسيانى حتى أثـر ذلك على عملى، وهو رئيسى المباشر، ولكنى استعدت ذاكرتى منذ قليل والحمد لله.
خيل إلى أنه كان يعرف الأستاذ نصحى كما تصورت، لاحظت ذلك من خلجاته حين مر الأسم على سمعه ومضى يسألنى.
- متى استعدتها.
- قبل الحضور مباشرة.
سأل فى ثقة.
- هل أنت خائف، ..؟
(قال عقلى بالى سرا:” بل أنت الخائف”)
قال عقلى.
- استطعت أن أتغلب على أكثر مشاكلى فجأة، بعد أن كادت تهدد مستقبلى.
قال فى ثقة.
- أنت تحاول أن تقاوم العلاج منذ البداية.
(قال عقل بالى فى صمت وهويتذكر بعض القصص والنوادر، “هكذا خبط لصق”؟؟)
قال عقلى.
- فى الواقع أنا لا أعرف شيئا عن العلاج.
قال فى هدوء.
- أنت مصاب بفقد الذاكرة للأشياء التى لا يريد عقلك الباطن أن يتذكرها.
(قال عقل بالى “وأنت إيش عرفك بالباطن والظاهر” يا جهبذ !!!).
قال عقلى.
- لقد أدركت سر أخطائى.. وكان طمعى فى تسامح الأستاذ نصحى يجعلنى أتمادى فى الإهمال، هذه هى الحكاية.
استمر فى غير كلل.
- إذن فهى مسألة إدارية.
(قال عقل بالى: “بل، … ميتافيزيقية وأنت الصادق”).
قال عقلى.
- تقريبا، حتى اسأل الأستاذ عبد الصادق.
سكت فترة وكأنه يفكر، ثم بدا هادئا غير مكترث، ..
- على كل حال نحن تعارفنا وأنا تحت أمرك، وقتما تشعر أنى أستطيع مساعدتك.
(قال عقلى بالى: “قلنا حانبنى، وادى احنا بنينا السد العالي”).
قال عقلى:
- شكرا وآسف لإزعاجك ولكنى أريد بعض الاستفسارات عن طريقة العلاج.
قال فى وضوح:
- تأتى فى الميعاد وتستلقى على هذه الأريكة لمدة خمسين دقيقة، وتقول ما يخطر على بالك، ويتكرر ذلك مرتين أو ثلاثا أسبوعيا حتى تشفى.
(قال عقل بالى: “ياليتنى أنام الآن، أريد أن أجرب هذه اللعبه الجديدة، .)
وافق عقلى… فأعلنها بنفس الألفاظ لكنه توقف عند “أجرب”…
وافقنى الدكتور أيضا فأعجبت بديمقراطيته وصبره.
……
تمددت على أريكة لم أنم على مثلها فى حياتى، لست أدرى هل هى من ريش النعام أو من الكاوتشوك وارد الشواربى… استرخت عضلاتى وكدت أهزها إلى أعلى وإلى أسفل كما كنت أفعل حين نمت أول مرة على سرير “بملة”، طال الصمت حتى كدت أستغرق فى النوم.
جلس هو على كرسى خلف رأسى بعيدا عن مستوى نظرى، اضطررت أن أقطع الصمت لما بدأت أحس بالتوتر من هذا الوضع الشاذ.
- هل أتكلم وأنا نائم هكذا، ماذا أقول؟
- أى شىء يخطر ببالك، ..
(قال له عقلى بالى: “يا نهار أسود، هل تعنى ما تقول فعلا، لكننى أنا الذى سأدفع الثمن: الطرد أو السجن أو الرفت أو النفى، أيها أسرع).
خطر لى أنى لو تكلمت هكذا وأنا نائم فإن الكلام لابد أن ينزل فى قدمى كما كانوا يحذروننا من الشرب – صغارا – ونحن مستلقين، .. ولكن ربما كانت هذه هى الطريقة الحديثة للعلاج: أن ينتقل الكلام الزائد من رأسك إلى قدميك حسب نظرية الأوانى المستطرقة، وبذلك تثقل رجلاك ويصفو رأسك فى نفس الوقت، فتصبح “ثقيلا” و”راسيا” وكلاهما مرادف للعقل أو للدلال حسب مزاج سعاد حسنى، يا واد يا تقيل، أو حسب تعليمات مقتفى الأثر، ..
قطع المحللّ على اكتشافاتى السـّـرِّية الجديدة قائلا، ..
- فيم تفكر الآن؟
رد عقلى مباشرة بما يشغله هذه اللحظة وقد كان شيئا آخر غير شطحات عقل بالى (يبدو أن العقلين يمكن أن يفكرا فى نفس اللحظة).
- فى تكاليف العلاج.
لم يرد على الفور، هممت أن أرد أنا مع أننى أنا الذى ألقيت السؤال، همس لى عمل بالى: هو الذى سبق أن قال: “أنت تنسى مالا تريد تذكره”، رأيت كيفّ أنا لا أريد أن أتذكر تكاليف العلاج، ومع ذلك لم أنسها، خاب ظنك سيدى اللورد، هأنذا أسألك عن ماوددت ألا أعرفه.
فوجئت بأنه رد أخيرا:
- كل جلسة مثل الكشف، ولكن المهم هو الجدية والالتزام، ..
قفزت من فوق الأريكة كالملدوغ وقد تأكدت من عودة جدول الضرب إلى ذاكرتى
- أربعة وعشرون (2)جنيها فى الشهر، ؟
(ذكرنى عقل بالى بأن مرتبى يزيد عن ضعف هذا المبلغ بقليل)،
قال فى هدوء .
- هذا إذا حضرت مرتين فى الأسبوع فقط.
قلت فى انزعاج.
- هذا إذا كان الشهر أربعة أسابيع فقط.
(لعب عقل بالى حاجبيه وأخرج لسانه لأنه خدعنى وتكلم هو نيابة عن عقلى).
استمر عقلى وهو يستعبط وكأنه ليس هو،
قال:
- آسف لابد أن أدبر أمورى أولا.
قال فى ثقة وتفهم:
- وأنا آسف كذلك، ولكنى لا أستطيع خداع الناس، أو ظلم نفسى، وعلى أى حال إذا كنت جادا فى العلاج فسوف أضع ظروفك الاقتصادية فى الاعتبار.
(قال عقل بالى:” لا تقل له إننا اثنان، حتى لا يطلب ضعف الأتعاب).
يبدو أننى قلت بعض الجملة الأخيرة بصوت مرتفع سمعه الدكتور فحسب أننى أوجه له الحديث وقد كنت جالسا على الأريكة بعد لدغة العقرب، وكان هو مازال جالسا على كرسيه فى اتزان يرسل إلى نسمات من ريح بلاد النرويج، ..
قال:
- عفوا؟ ؟
قلت معتذرا:
- لا، أبدا، كنت أختبر قدرتى الحسابية ووجدتها على ما يرام،
قال متفهما:
– ما عليك لم تكن تنوى من البداية، فضلا عن الاستمرار،
(قال عقل بالى: لابد أن له عقل بال ينبئه بنوايا الناس)،
قال عقلى:
- أنا عاجز عن الشكر، ولن أنسى لطفك ما حييت.
قال مودعا فى رقة حقيقة:
- أنا تحت أمرك، ليس عندى شك أنك سوف تجد طريقك، ولكن أرجوك أن تقدر طبيعة عملى.
شكرته واحترمت صدقه واعتزازه بمهنته وانصرفت مطمئنا بعد أن مد لى يده بالتحية، إذ يبدو أنه لا يسلم إلا مودعا إلى غير رجعة.
قبل أن أغادره لمحت وراء وجهه الأملس إنسانا رقيقا وربما محتارا مثلى، كانت الساعة “إلا عشرة”، خرجت مندفعا، خشيت أن أخل بالنظام، قابلت على السلم رجلا منمقا لامعا يتمهل الصعود خطوة خطوة، أغلب الظن أنه صاحب الموعد التالى، وأنه يتباطأ حتى لا يصل قبل خروجى، أحسست من رائحة العطر التى تفوح منه لتملأ السلالم، ومن مدى أناقته وهدوء خطواته، أنه الرجل المناسب للمكان المناسب، كما طاف بخيالى منظر وأناقة الأستاذ عبد الصادق، لكن هذا الخيال لم يمكث سوى ثوان، وأنا؟ أين مكانى المناسب؟ ربما فى القهوة البلدى أو فى السجن، أو فى مستشفى المجاذيب، المؤكد أنه ليس هذا المكان، يبدو أن الأستاذ نصحى حين أرسلنى إلى هنا كان يظن أنى مستور أو ابن ناس بشكل ما، ..، أو يبدو أنه تصور أن حديثى عن بلدنا أحيانا يعنى ثراء ريفيا يسمح لى بهذه المغامرة، إن كل ما أتلقاه من أمى هو بعض “الزيارات” العينية التى تعيننى على غلاء الأسعار، ولا أظن أن هذا المستشار يرضى أن أدفع له أتعابه بقدر من “البيض” أو ” أقراص الكعك” مثلما كنا نفعل زمان مقابل الحلاقة.
ما علينا، رجعت إلى لعبتى القديمة وسوف أدبر أمورى ثانية بعدما تأكدت أن لى عقلين وشعورين، كل المطلوب هو أن يلتزم كل منهما باختصاصاته حتى لا تعود الأمور إلى الاضطراب، ليختص عقلى بالمكتب والأعمال المنزلية، وللعقل الآخر الفرجة والفلسفة واختراع النظريات والخيال الجامح، جاءت سليمة هذه المرة والحمد لله.
* * *
- حمدا لله على السلامه يا عبد السلام، هكذا وإلا فلا.
- الله يسلمك يا أستاذ نصحى البركة فيك.
- هكذا تتحقق النتائج بأسرع مما حسبتُ، ولكن حذار أن تنقطع عن الذهاب، وإلا كنت مثل الراقصين على السلم.
أية نتائج، وأى سلم يا رجل؟ لن أحدثك عن شئ، وسأدعك سعيدا بأوهامك.
- ربنا يسهل يا أستاذ نصحى.
– أنا تحت أمرك ومادمت قد سمعت النصيحة فسأقول لك سرا، لقد كنت أنا الذى ذهبت إليه للتحليل والعلاج، وليس صديقى.
نظرت إليه، ولم أحاول أن أعقب حتى لا تفلت منى أننى كنت عارفا تقريبا، فمضى يؤكد بلهجة أقرب للزهو:
- وبالتحليل وبالتفسير تخطيت كل الصعاب،
لم أستطع أن أمنع نفسى من الرد هذه المرة متعجبا.
- كل الصعاب؟؟
- حللت كل العقد، وفهمت مدى الكبت الذى كنت أعانيه منذ الطفولة حتى أصبحت “هكذا”.
كدت أسأله “هكذا، ..ماذا، يا هذا؟ ” لكنى آثرت السلامة،
* * *
استطعت فى الأيام التالية أن أنظم أمورى أثناء النهار، أما فى الليل فما زالت المعارك تنتظرنى، مع كل مساء امتحان صعب، يبدأ أول الليل ونادرا ما أنجح فيه، ولكن نادرا ما يعلن فشلى فيه أيضا، كنت أذكى من أن أترك الأمور تخرج من يدى، المعارك مستمرة مع الهوام والوحوش متى ما غلبنى النعاس، وحين يشتد الصراع بلا حول لى ولا قوة يصبح النوم أملا وتهلكة فى نفس الوقت – أظل يقظا حتى الصباح خوفا من أن أفقد عقلى إذا أنا أغلقت عينى.
يبدو أننى حين حاولت أن أشرح حالتى أكمثر للأستاذ نصحى استعملت بعض التعبيرات التى كانت تدور بداخلى، وكان عادة يتعجب، ثم قاطعنى ذات مرة قائلا:
أنت تسمى الأشياء بأسماء غريبة، إنها حالة نفسية اسمها القلق…
- هل أنت متأكد من أن اسمها “القلق”؟
- طبعا، وهى من الأمراض العصابية الناتجة من الصراع بين “الأنا والهو”…
”يانهار أسود” ذهبت إلى المختصين فلم يذكروا لى كل هذا العلم، ولكن الأستاذ نصحى شىء آخر، لابد أن هذا الـ “أنا”، هو عبد السلام المشد، وأن الـ “هو”، هو “عقل بالي”، ولكنى شخصيا لست عبد السلام المشد، “والهو” ليس عقل بال شخص مجهول الأصل والهوية، ثم إنه ليس “هو” واحد ولكنه عشرة أو عشرون أو مائة، ما هذا يا أستاذ نصحى، إسمح لى يا رئيسى العزيز: الله يخيبك، أسكتُّ عقل بال بحسم وسألت مباشرّ.
- من أين لك بهذا اليقين يا أستاذ نصحى؟
- من خبرتى من التحليل وقراءاتى، ثم دراستى فيما بعد.
- هل تدرس حضرتك ما أنا فيه الآن؟
- يعنى، لقد أنهيت الليسانس وأحضر الآن الماجستير.
- وهل تترك التجارة والمحاسبة.
- ليس بالضرورة.
ترى هل يراد لى نفس المصير، أن أقلب كل مشاعرى هذه إلى أسماء وتحاليل ولافتات تلغى كل شىء حين تضعه تحتها؟ هل هذا هو الطريق لذلك العلاج المقترح؟ وهل لابد من الدراسة بنفس الحماس والتعصب؟
- هل لابد من مثل هذه الدراسة، حتى أشفى يا أستاذ نصحى؟
- لا، أبدا، هى مجرد هوايتى الخاصة.
حمدت الله أن جهلى حمانى من دراسة هذا التحليل النفسى الذى يبدو أنه أصبح من هوايات العصر الحديث، ما للتحليل النفسى وقيام القيامة؟ سمعت عن العقد والشعور بالنقص، ما أنا فيه ليس له علاقة بكل هذا، ليس له اسم، إنه انفجار مدمر تضيع فيه المعالم وتختلط الأسماء، ليس فيه نشاط معروف إلا الفرار، حيث يفر المرء من كل حوله، أمه وأبيه، صاحبته وبنيه، الفرار الفرار يا غريب ويا صبحى أفندى ويا كل الناس، أنا لا يعنينى إلا ما أنا فيه، وهو ما لا أستطيع تحديده، ما إن أخرجت الأرض أثقالها حتى تطايرت أفكارى كالحمم وغلت عواطفى كالبركان التدميرى، ترى هل عند نصحى أو محلله أو أى كائن كان اسم مناسب لهذا الذى حدث يوم “إيصال النور”؟ يوم نفخ فى الصور؟ مزيد من الاستفسار لن يضر.
- هل يشمل ما تسميه القلق يا أستاذ نصحى أن ينقلب كيانك كله وتزدحم رأسك بالأسئلة مثل النافورة التى تقذف ماء النار؟
- نعم هو القلق، لكن وصفك له هو الغريب.
قلت فى تسليم ظاهر، ..
- قلق، أرق، كله مثل بعضه، أشكرك على اهتمامك.
- لا شكر على واجب يا عبد السلام، نحن زملاء، أصدقاء.
تراجعت عن التسليم ورجعت أسأل فى تخابث:
- أنت خير صديق، وأطيب رئيس يا أستاذ نصحى، هل يمكن أن تخبرنى كيف سيكون حالى حين يأخذ الله بيدى، كيف سأكون أنا؟
قال فى فخر وثقة .
- ربما ساعدك الحظ وأصبحت مثلى.
أخرج لى عقل بالى لسانه فى شماته وغنى:
”تعالى يا شاطر، نروح القناطر”.
قلت لعقل بالى.
“إخرص يا غبى قد يسمعك”
رد عقل بالى:
= لا تخف، إنه لا يسمع ولا يرى ولا يحس،
= إنه رزين عاقل، .. وأنت تغار منه يا أرعن،
= إنه أسطوانة مشروخة لن أسكت حتى أكسرها.
= إخرس يا قاتل، أنا أعرف جبنك.
= أنا لست قاتلا، أنا أحاول أن أريك الحقيقة.
= أية حقيقة؟ لقد أحس بى ونصحنى بالذهاب إلى المختص.
= لما كثرت التأشيرات الحمراء وابتدأ المدير فى لومه.
= بفضل نصيحته تحسنت الأحوال وتحسن أدائى الوظيفى.
- لم لا يكون هذا بفضل الشاى الكشرى، لا بفضل صاحبه المحلل النرويجى.
- يهيئ الأسباب.
لم أسمح بالتمادى فى هذا النقاش العقيم خاصة بعد أن لعب لى عقل بالى حواجبه وهو يهم بتسفيه الأسباب ومهيئها، خشيت أن يسألنى، من هذا الذى يهيئها.
دأبت بعد ذلك أن أوثق أواصر الصداقة بينى وبين الأستاذ نصحى، وكأنى أحتمى به من عقل بالى، يستقبل الأستاذ نصحى ذلك بترحاب شديد، ويسألنى بين الحين والحين إن كنت مازلت أذهب إلى صاحبه، فلا أستطيع إلا أن أكذب عليه بطريقة تحتمل الصدق، فأشير من طرف خفى إلى أن هذه – على العموم – أسرار لا يصح التحدث فيها إلا بعد الشفاء، أعجب بقدرته على التصديق والتمادى فى استعمال هذه اللغة طول الوقت، أتعجب من مثابرته وإيمانه بهذا الذى يقول وأحاول أن أجد فيه ما يغرينى على بيع حلى زوجتى لأخوض هذه التجربة كاملة بشكل ما، أحسبها فأجدنى سأتوقف فى أول الطريق، أحاول أن اتغلب على صعوبات الليل بالصبر والتدخين، وعلى صعوبات النهار “بالفرجة” واصطناع الفلسفة، صحبة الأستاذ نصحى أصبحت مصدرا جديدا للتأمل والتعجب، كانت محاولاته لإقناعى بالاستمرار لا تتوقف وهو يشرح لى أسرارا جنسية تتصل بحكايات إغريقية عن ملك اسمه أو ديب، وواحدة أخرى لا أذكر اسمها، وهو يتكلم عن جسم المرأة بطريقة غريبة إذ يقول أنه رمز للقضيب لأن البنت تحسد الولد على أن له قضيبا، وتثور أعماقى حين أتصور جسد البنت قضيبا، هذا علم جديد به قدر مريح من المسخرة اللذيذة!!
كان الأستاذ نصحى ينسى أو يتناسى أنى أوهمه بالذهاب إلى ذلك المحلل فيأخذ فى ممارسة هوايته فى التفسير والتأويل، ذات مرة حاول أن يسألنى عن أحلامى فلما ألمحت له عن معارك الوحوش لم يعر الأمر اهتماما، ولكن حين ظهرت الثعابين فى الحلم قفز فى سعادة وكأنه وجد مفتاح القضية، فالثعبان “قضيب” بلا جدال، هكذا قال بيقين، تذكرت وأنا ابتسم كيف كنت فى طفولتى قد وقعت فى مثل هذا الخلط حين كنت أحس بأن قضيبى قطار الدلتا المار ببلدنا ليسا إلا ثعبانين لا أول لهما ولا آخر، ولما كبرت وواتتنى الشجاعة على لمسهما عرفت أنهما من الحديد، ولكنى أذكر أنى اضطررت للمشى عليهما أكثر من ساعة حتى أتبين أنهما لا يلتقيان مثلما كان يخيل إلى من بعيد، يومها كاد القطار يدوسنى وأنا منهمك فى محاولة إثبات أنهما ثعبانان يلتقيان فى مكان أبعد من مدى نظرى، هذه هى كل معلوماتى عن العلاقة بين الثعابين والقضبان، كنت أحيانا أخشى أن يفلت منى الزمام وأنا أستمع إلى الأستاذ نصحى وهو يقسم الناس إلى شخصيات “شرجية” وأخرى فميه، إلى آخر هذه التسميات العجيبه، أمنع خيالى بصعوبة أن يقفز منى وأنا أمام سيارة المدير “الشرجي”، أو وأنا أحدث أسعد أفندى “الفمي”، لعبة جديدة لا تخلو من طرافة.
لست أدرى لم خطر ببالى أن الأستاذ نصحى لو حاول التحقق من أوهامه بنفس الطريقة التى حاولت بها التحقق من أوهامى حول قضيب قطار الدلتا، إذن لداسه قطار آخر لا أعرف معالمه.
سألته فجأة:
- هل فى بلدكم قطار دلتا؟
أجاب فى دهشة:
- أى دلتا؟
قلت مستعبطا:
- دلتا النيل.
قفز عقل بالى فى عناد يعرض نظرية تتناسب مع مقتضى الحال: راح يثبت لى أن الوجه القبلى ”ذكر” لأن النيل فيه فرع واحد، أما الوجه البحرى فهو أنثى – وماعليك إلا أن تنظر فى الخريطة لتتأكد من ذلك، وإذا كنت رجلا مثلى، من وجه بحرى فقد يعتريك الخجل، ثم قد تـُـسـْـتـَـفــَـزّ لتحاول إثبات رجولتك بالتاريخ الطبيعى مادامت الجغرافيا قد شرعت فى وجهك هذا الاتهام، لوح لى عقل بالى ساخرا بأن مشكلتى ربما تنتهى بطلب نقلى إلى الصعيد، ..!!
سألت الأستاذ نصحى عن ذلك، فأجاب فى استغراب:
- ولماذا الصعيد، ..؟
أجبت بإحراج بادى.
- أظن أنى معقد من قطار الدلتا من صغرى، حتى أنى أتصور أن حالتى ستتحسن لو انتقلت إلى الصعيد.
انتبه صبحى أخيرا إلى تزايد شطحى دون أن يعتبر ذلك سخرية أو استهانة بنظرياته، نصحنى بحدة، بالقدر الذى تسمح به رقته، أن أكمل العلاج وكان مازال يخيل إليه أنى بدأته أصلا، خجلت من التمادى فى لعبة الكذب، وأحسست أن الأمور كادت تفلت من سيطرتى مثلما كان الحال فى بداية البداية، وبدأت أتمادى فى الحذر عند الحديث معه، وكنت ألاحظ كثرة تعاطيه لبعض الأقراص فى أوقات غريبة وحين سألته عنها وعن شحوب وجهه أجاب أنها أقراص للهضم وحموضة المعدة ولا علاقة لها بالأعصاب، زاد فضولى لأعرفه أكثر بعيدا عن الكلام والنقاش والتحليل، لم أتوان عن تلبية دعوته لزيارته فى البيت والتعرف على أسرته الصغيرة، ذهبت وفى نيتى التى لم أعلنها أن أتأكد من نتائج هذا العلاج السعيد.
* * *
فتحت لنا زوجته الباب بنفسها، سيدة نحيفة رقيقة تتحرك فى هدوء كأنهاتخاف على شعور الهواء وهى تخترقه، تعجبت من حضورى مع زوجها أو هكذا خيل إلى، إذ يبدو أن الزيارات تعتبر لديهم حدثا استثنائيا على حسب معلوماتى من حديثى معه، انحنت السيدة بأدب ظاهر ونظرت إلى الأرض، فغلبت الظن أنها تخجل من رفع عينيها فى وجهى من باب الحياء، إلا أن نظراتها تركزت على حذائى، أنقذ الموقف الأستاذ نصحى بأن تلكـأ وهو يخلع حذاءه بجوار الباب ويرتدى أحد” المنتوفليات” القابعة تحت الشماعة فى واجهة الباب، ترددت مع أننى فهمت أن المطلوب هو أن أحذو حذوه ولكن ترددى زال حين انحنى وهو يقدم لى فردتى منتوفلى آخر بدا لى جديدا، قررت أن أنفذ التعليمات فى صمت وهو يكرر أنه ما فعل ذلك إلا لأنه يعتبرنى كأحد أفراد الأسرة، وأن المنزل منزلى، وعليه فإن من حقى، حسب تعبيره، أن أفعل مثله تماما، تلكأت أكثر خوفا من المفاجآت، فأنا لا أذكر متى غيرت الجورب، فعلتها أخيرا وأغمدت قدمى فى المنتوفلى بسرعة مناسبة يمكن أن تخفى أية روائح خاصة.
دخلت وكأنى أزور معبدا من معابد العصر التحليلى النفسى، قادنى إلى الصالون وهو سعيد بى سعادة التقاء زملاء السلاح فى الحياة المدنية، راح يحدثنى عن زوجته التى استأذنت بعد أن اطمأنت لإنهاء الطقوس اللائقة، انهال عليها بالمديح وهو يقوم بإضاءة أنوار وإطفاء أخرى حتى يحسن توزيع الضوء حسب جلستنا الموقوفة عن التنفيذ لحين حضورها، ترددت فى الجلوس فعلا تحت زعم أنى أنتظر حضور “المدام”، فمازالت عندى فكرة عامة عن الذوق، ولكنى فى الحقيقة كنت أخشى على “الكرسى الفخم” من بنطلونى، نبهنى عقل بالى أن آخذ حذرى حتى لا يطلب منى أن أخلع بنطلونى تحت زعم أن المنزل منزلى أيضا، عادت زوجته بالسلامة تخطو بنفس الرقة.
بدأنا الحديث عن الطرق الحديثة فى تنشئة الأطفال، بدا الأستاذ نصحى أقل حماسا وأكثر خوفا، وكان ينظر إلى زوجته مستأذنا أو متسائلا عن الخطوة التالية، وجهه يزداد شحوبا أو احمرار حسب إيماءاتها، كان حضور زوجته مثالا للصمت المثقف والذوق الرفيع معا، أخذت تشير إلى بعض محتويات الحجرة من تحف ولوحات وتذكر لى أسماء لا أعرفها، وحين ذهبت لتحضر “الليموناده “بنفسها كان الأستاذ نصحى يستدعى الأولاد للسلام علىّ والتعرف بى، أحسست أنى أستطيع أن أسحب نفسا عميقا من الهواء لأول مرة منذ دخولى وكأنى قد توهمت أن التنفس أيضا هنا بالحساب والأصول، ذكرنى الصمت المخيم على المنزل كله بذلك الصمت الذى شعرت به فى عيادة صديقه المحلل، وإن كانت زوجة المحلل أكثر حيوية ونشاطا وبساطة، تذكرت فكرة المدافن المصرية القديمة، وأحسست كأنى فى مقبرة عصرية فى وادى الملوك الجديد، وأخذت أنتظر تشريف الأمراء من وادى الملكات.
عادت السيدة الفاضلة تحمل أكواب الليموناده فأغلب المشروبات والمأكولات لابد أن تصنع بالبيت كما قدرت، ثم عاد الأستاذ نصحى ووراءه ولدان متشابهان كأنهما توأمان لولا أن أحدهما أطول من الآخر، وعرفنى بهما ” لمعى، وجميل”، انحنيا معا ثم استقاما وجلسا على طرف الأريكة وبدأ الحوار: هذايقول وذاك يرد، ثم يصدر صوت من أقصى القاعة، فيتردد الصدى فى الجانب الآخر ويبدو أن ذلك كان عرضا لنموذج من التربية الحديثة وآثارها، وحمدت الله أنهما انصرفا بسرعة، ونهرت عقل بالى خوفا من تعليقه.
زادت البرودة فى مفاصلى وانتقلت إلى كل جسمى وكأن رياح الشمال تهب من النرويج مباشرة فى أدب اسكندنافى، تمنيت لو أنهم يوزعون علينا بطانيات مثلما يفعلون فى برنامج الصوت والضوء فى ليالى الشتاء، الاختناق يزداد رغم رقة نسمات الهواء لكننى أجد صعوبة مع كل شهيق، هل لا بد أن يستأذن الهواء منهم قبل أن يدخل إلى صدرى؟ حين طلبت الانصراف لم يتمسك أحد ببقائى ادعاء لمزيد من الكرم والحفاوة، هكذا الحضارة وإلا، ..، خرجت إلى الشارع أكاد لا أصدق أنه أطلق سراحى.
قال عقل بالى فى شماته.
- هل صدقتى.
ثارت فى رغبة التحدى فقلت له:
- وأى عيب فى هذا البيت النموذجى، كفى عبثا وتذكر قصر ذيلك وخيبتك.
= إذن فأنت تريد أن تكون ” هكذا” بإذن العلم والتحليل.
- لم لا؟ سوف أفعلها لو اضطررت يوما، أليس هذا أفضل منك ومما تخبئ لى؟ هو أفضل حتما من أن أعيش تحت رحمة شطحاتك وسخافاتك ومفاجآتك.
قال عقل بالى وقد بدا عليه أنه يخشى هذا الحل السعيد:
- أقتلك لو تفعلها، أو فى القليل سأعلن جنونك على الملأ، دعنا نستمر أصدقاء فى السر أفضل.
قلت فى شماتة نسبية.
- إظهر على حقيقتك، أنت وغد تضحى بكل شىء فى سبيل استمرار شطحك، حتى لو كان الثمن هو الجنون ذاته.
= الجنون أفضل من برامج الصوت والضوء المعادة فى مقابر البيوت الحديثة .
ثار غيظى وأنا أرد:
- أنا الذى أقتلك لو خرجت عن طوعى
= دعنا نمضى مثلما كنا: كل فى إختصاصه.
- ولكنك تتدخل فى اختصاصى أثناء الليل دون استئذان.
= الليل مملكتى أنا، وأنا أسمح لك بالتواجد فيها أحيانا.
قلت فى تحد:
- أنا وراءك والزمان طويل.
= أنت رجل طيب لا حول لك ولا قوة.
قلت فى عناد:
- أنا لا أقبل شفقتك، إحتفظ بها لنفسك ودعنى أراجع حساباتى.
لعب لى حاجبيه فهاجمنى صداع ثقيل.
* * *
لم تمض هذه الزيارة بسلام،
لم أعد أطيق سماع أحاديث الأستاذ نصحى وتفسيراته وتعليقاته، بالنسبة إلىّ بدالى أنه قد زادت تجاعيد وجهه كما شحب لونه أكثر، زادت رتابة صوته، لم أحاول أن أواجهه أو أجرح شعوره، ولكنى كنت دائم السؤال عن ” لمعى، وجميل، والمدام”، وكان هو مطمئنا بصفة عامة، طالما أنا أدعى الذهاب للعلاج.
وكأنى أذهب نيابة عنه، .
* * *
لم يعد فى مقدورى أن آمل فى أى حل من الحلول التى لاحت لى هنا أو هناك، نشاط عقل بالى الساخر كان يبالغ فى تشويه هذا المآل الذى انتهى إليه نصحى وعائلته، أغلقت خلفى كل الأبواب منذ سمعتهم يغلقون باب شقتهم ورائى، إذا كان الشفاء هو أن أدفن حيا فى إحدى مقابر الملوك العصرية، فيفتح الله.
…..
أنا لا أستطيع الزعم أنه كان لدى أمل حقيقى فى التحليل أو غيره، تعمدت أن أنهر عقل بالى حتى لا ينفرد بى وأنا أفهمه ألا يبالغ فى التعميم، فلعل بيت الأستاذ نصحى فريد هو نتيجة لطباع مختلفة لم آلفها، ولا علاقة لها بالتحليل، رحت أعزو مقاومتى أن أسلم نفسى لعملية التجميل التحليلى هذه لاختلاف موطنى الأصلى، أنا لم أستطع أن أتخلص من قريتى بعد، أنا أحملها تحت جلدى، هذا الذى شممت رائحته عند الدكتور المستشار التحليلى ثم رأيته فى بيت الأستاذ نصحى لا يصلح لعلاج أمثالى ممن يقيمون فى المدينة كزائرين حتى لو مكثوا فيها قرونا دون الرجوع إلى قريتهم التى يحملونها معهم حيثما كانوا.
لم أزر أمى منذ لست أدرى متى.
* * *
انتظروا “الفصل السادس” السبت القادم:
“الزيارة”
[1] – يحيى الرخاوى: رواية “الواقعة” ثلاثية المشى على الصراط: الجزء الأول. الطبعة الثانية 2008 (الطبعة الأولى 1977) والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم.
[2] – المفروض أن تاريخ هذه الأحداث هو أوائل الستينيات.