نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 19-8-2018
السنة الحادية عشرة
العدد: 4005
جذور إرهاصات الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى
(من الإبداع الخاص: “ملحمة الرحيل والعوْد”)
مقدمة
لم يبق سوى هذا الأسبوع وبعض الأسبوع التالى من هذه الورطة مع تكرار الاعتذار
وهذا هو الفصل الرابع عشر
العريش
-1-
كان ممدوح موسى قد فوت له هذه المهمة ” لعله يعقل”، تزايدت الضائقة المالية على الرغم من الترجمة التى يقوم بها للمنظمة من خلال منال، وهو لم يشكُ لممدوح أصلا، لكن يبدو أن ممدوحا عنده نظر، أو بعد نظر، فجلال إن لم يكن قد جاع، فهو سيجوع. لم يكن ممدوح متأكدا من أن جلالا سيقبل، فهو يعلم من هو جلال، ويعرف شروطه للعودة إلى الصحافة، تلك الشروط التى لم يعد يقبلها أحد من رؤساء التحرير، بل ولا من القراء أنفسهم، قال جلال لنفسه مثلا خائبا أقتنع من خلاله أن يقبل المهمة، مع أنه لا يحب الاستشهاد بالأمثال، و قرر أن يقبل أى شئ حتى يجد الشئ!!.
مذبحة النخيل، سـَمَا العريش، فندق أوبروى،…
مؤتمران فى مكان واحد، والمطلوب تغطيتهما: الأول تحت رعاية مجلة خليجية، والثانى على “شرف” شركتىْ أدوية انضمتا حديثا، صدفة هى التى جمعت المؤتمرين معا لمجرد أن الفندق اسمه أوبروى، والبلد اسمها العريش، والشهر هو يونيو والحجرات خالية، والمؤتمرون يستحسن أن يـُـدَلَّـلُوا بقدر الإمكان، هذا هو النظام المؤتمراتى، الجديد، المؤتمر الأول: اسمه “المرأة والحرية والإبداع”، وحقيقة الأمر أنه يدور حول ما يسمى بـ”الأدب النسائى”، وربما هو ـ فى عمقه ـ ترويج لكاتبة شيخة، أو شاعرة بترولية، تحت رعاية “مجلة” التنوير الخليجية، بالاشتراك مع “جمعية المرأة العربية 21” (يقصدون القرن 21، فى الأغلب!!!)، أما المؤتمر الثانى فهو عن “الطب البديل”، وقد تعجب جلال فى البداية كيف تنفق شركة أدوية على ما يهددها، فأفهمه ممدوح أنها مسائل معقدة، وأنه لا يعرف إن كان المؤتمر عن الطب البديل أو نفيا لهذا الطب البديل، وطمأنه على نصاحة الشركات، وأن مهمته لن تدخل فيما وراء النيات الظاهرة، وأن المطلوب هو “تغطية المؤتمر” صحفيا بمواد كافية، يصنع منها “مطبخ الممول” ما يشاء بعد ذلك، كيف شاء.
عمل ليس جديدا على جلال، لا من الناحية الحرفية، ولا من الناحية الأخلاقية، عمل ملئ بالصنعة واللاأخلاق، المعرفة الانتقائية الموجـهة، التركيز على الأجزاء الطرفية، قلة الأخلاق أصبحت مموهة تحت أسماء حركية: مثالية، ودينية، وعلمية.. حسنة الشكل، شائعة الشهرة، يسرى سُمَّها فى اتجاه محدد ليخدم الهدف الحقيقى، و كل ما عدا ذلك وسائل إلى ذلك.
برر جلال لنفسه قبوله المهمة بنفس تبريرات زمان :” أنا مالى”، “أنا أجمع الأبجدية، وهم يكتبون ما شاؤوا بها من كلمات”، “أكل العيش واجب أخلاقى مائة فى المائة تحت كل الظروف”، “البديل هو الشحاذة” ومضاعفاتها من ذل وذهول، ها هو يعود يعبُرُ الوحل ذا الرائحة النتنة، وهو يتصور أنه رافع ثيابه، ولن يصيبه الرذاذ.
أضاف: ما أمكن ذلك.
ثم أضاف: لايمكن ذلك.
ثم عاد يسأل دون انتظار إجابة: كيف يمكن ذلك؟
كان حين يجمع المعلومات الأساسية يتصور نفسه مثل ابن البواب الذى يرسلونه ليشترى الخضار وبعض الأدوية وسما للفئران، وهو يتصور أن الخضار للطبيخ والأدوية للمريض، والسم للفئران، ثم إذا به يفاجأ ـ فى أحيان ليست قليلة ـ أن الحكاية ليست هكذا بالضبط، فالسم للمريض، والخضار للفئران، وكذا وكيت، وهو حين انتبه إلى هذه اللعبة قال هذا يكفى وجاع، ثم حين قرر أن يعمل مدرسا، كاد أن يجن.
وها هو يعود صاغرا، ليس صاغرا جدا، لكنه صاغرٌ فعلا.
يقبل القيام بأمثال هذه المهمة مضطرا وهو يقلبها اختيارا بألعاب تبريرية، التحقيقات الصحفية بما فيها تغطية المؤتمرات طول عمرها عبء ثقيل على قلبه، كان دائما يتصور أنه امتحان يتحايل لتأجيله، لكن ما شجَّعه هذه المرة، أو قل ما قلل من خجله أمام نفسه هو أن الموضوعين شائقان بالنسبة إليه: إبداع المرأة العربية، الأدب نسائى، والمجلة خليجية، والمبدعات الفاتنات وغير الفاتنات رائحات غاديات، شئ يستأهل، والثاني: الطب البديل، وهو يحب معرفة كل البدائل، بديل للمهنة، وبديل للمدارس وبديل للزواج، وبديل للمزاج، وربما بديل له شخصيا، من يدرى، ثم أضف إلى ذلك أنها مهمة عظيمة الأجر، فمن أقدر من مجلة خليجية، وشركة أدوية، تذكر الدكتورة مادلين، وغالى جوهر، وأمين عبد الحكيم، والشركة الجديدة، ولم تخطر على باله الدكتورة إصلاح فاضل.
حين قرأ برنامج جلسات المؤتمر الطبى هذا عرف من فوره أن الأمر مرسوم ليمسحوا بأى بديل الأرض، ماشى، هو ماله؟ بتغطيته الصحفية أو بدونها سيمسحون بمن يريدون الأرض وزيادة، هل يوجد أقوى من شركات السيارات، وشركات الأدوية غير شركات السلاح؟
”على الدولار القوى الاعتماد، فى التجارة والدعارة والفساد”.
حلوة هذه، الله يرحمك يامحمد يا نجيب. سمِعَها من عم إدريس وهو يسخر ”على الإله القوى الاعتماد، بالنظام والعمل والاتحاد”.
طز فى الصحافة وطز فى التدريس، وطز فى الثورة، الذين عملوها والذين سرقوها، يا ليته كان يستطيع أن يعمل مؤلف أغان.
جلسات المؤتمر الأول. العناوين ظريفة: ”المرأة وحرية الرجل”، ”المرأة وخدعة الإبداع البيولوجى”، “المرأة شاعرة الحداثة”، “النقد الأدبى وقهر المرأة”، أين أنت يامنال؟ يا ترى هل تحضر، كلام ظريف يهمها لكنها امرأة عملية “هى لا تبدع وإنما تتجمل”، يا خسارة!! ، يا اللااااه.
عناوين جلسات المؤتمر الثانى أكثر رصانة، وألمع عِـلما: تقدم الطب وكفاية العقاقير، الشفافية تسمح بانتقال الدواء أسرع من انتقال المرض (حلوة هذه)، ”الوقاية بالتداوى خير من العلاج بالتداعى”. علم الاسترخاء بالكيمياء، عقاقير السعادة لعلاج ارتفاع ضغط الدم.
أين الطب البديل؟
هذا هو: ندوة نقاش: الطب البديل بين الخرافة والتدجيل، الطب البديل أم طب المستقبل، الطب البديل وخدعة العودة إلى الطبيعة، “الأعشاب الخاوية والأعشاب السامّة” يا حلاوة!! العودة إلى الطبيعة أصبحت تجارة منافِسة يخافون منها وليست انسحابا مجنونا يامحمود يا ابن المشد.
سوف يمر اليومان على خير، كل المؤتمرات تمر على خير، ليس مطلوبا منه لإتمام التحقيق غير الأحاديث الجانبية، والصور، ثم الباقى كله على الشركات المعلنة، وما قُـدِّرْ يكون.المسألة محسومة، والتوصيات مكتوبة قبل بداية أى مؤتمر.
سوف ينتهى المؤتمر الأول إلى أن المرأة مقهورة وغلبانة، وأن عليها أن تؤدِّب الرجل وتـُعـَرِّفه مركزه جزاء خنوثته وليونته التى تدل على تاريخه الملئ بالتزييف والطغيان، الأمر الذى اضطر كل النساء أن يكن رجالا.
ضحك وهو يقترح اسما آخر لمؤتمر المرأة، سماه: “المرأة العصرية : البديل لخيبة الرجل القوية” .
سوف ينتهى المؤتمر الثانى بالتوصية بخصاء كل من تسول له نفسه أن يحافظ على الأدوية الرخيصة لصالح المرضى، أو يهمس باحتمال التقليل من الاعتماد على التداوى بالعقاقير ليل نهار، طول العمر، فإذا كان المخالف امرأة فيوصى بتحويلها إلى رجل ـ بالهرمونات المخلقة الحديثة، وربما بعلاج الجينات ـ وذلك حتى يمكن خصاؤها بعد نجاح التحول.
ضحك مرة أخرى برغم أنه لاحظ سُخفه وهو يتعسف اسما قبيحا لهذا المؤتمر أيضا، اسما لا يصح نطقه (لأن كلمة الخصاء الذى فيه هى أكثر كلماته حياء). آه لو سمعه أحد ممولى المؤتمر، إذن لحرم من المائدة المفتوحة، ومن الحجرة المغلقة معا، منع نفسه من الضحك بصوت عال، واكتفى بالابتسام، وحمد الله أنه أمسك نفسه ولم يعلن هذه الخواطر لممدوح وهو يعرض عليه المهمة، كان يمكن ألا يأخذ هذه الفرصة وهو فى أشد الحاجة إلى رائحة أى طعام مجانا وملمس أوراق النقد، المشربة بحمرة مبرقشة.
يفعلون ما بدا لهم، “كل واحد يبرمج” نفسه ويستغل من يطوله من البشر، من حيث إن النقود هى الموضوعية الممتدة المفعول، لماذا يفضل العلماء والمثقفون أن تعقد هذه المؤتمرات العلمية أو الثقافية فى المصايف والمشاتى والمنتجعات؟ لماذ انتقل العلم من حول العمود (فى الأزهر) أو مدرجات الجامعات إلى قاعات المحاضرات مكيفة الهواء، لينتهى فى الفنادق ذات الخمسة نجوم، والمائدة المفتوحة، والعشاء الأخير؟ حاول أن يجد ترجمة لكلمة “جالا” التى تصف “العشاء المعتبر الذى تختتم به هذه اللقاءات فى الليلة الأخيرة أو قبل الأخيرة، عشاء “جالا” Gala Dinner فلما لم يجد ترجمة مناسبة، سماه العشاء الأخير، ليخفى الاسم الآخر الذى خطر له: عشاء الـ “جَلاَ جَلا”؟
لو أن الذين يغيرون من نمط حياتنا يفعلونها مرة واحدة، وبصراحة غير متسحبة، إذن لأمكن اتخاذ موقف بالتسليم أو المقاومة، لكن الحاصل أنهم يغيرونها واحدة واحدة، وتحت ذات الأسماء القديمة: تتغير الأماكن، ثم الأدوات، ثم المثل العليا، ثم محكَّات الجزاء، وطرق التقييم، وتختفى وراء كل ذلك ألعاب الثللية والرشاوى والتخطيط الأعلى لتسخير كل هذا للمكسب، فالمكسب، فالترويج لسياسة السوق والنظام العالمى والجات، حتى العلم، عوْلـَمُوه فى الفنادق وليس فى الأذهان، هكذا نتحول قطعة قطعة، بالتقسيط، إلى ما لا نعرف، إلى ما لم نختـَرْ.
= تفكير تآمرى؟
= تآمرى:. تآمرى: بَسّ أعيش.
قبل المهمة وهو محصن ضد كل أنواع الخِدع، وهو يحذق آلياتها جميعا، مادام قد اعتبرها فرصة، فما الداعى للغنج؟ قبـِلها والسلام، وها هو فى العريش التى لم يزرها إلا يوما عابرا من سنوات، كان يوما واحدا لا ينساه، الآن يصحبه المصور محمد عبد المقصود الذى سوف يقوم بتغطية المهمة تصويرا بما يصلح لكل الأغراض، حجرتهما فى فندق مجاور، أرخص، فندق الحاشية ، الحجرة لائقة، لكنها ليست خمسة نجوم على كل حال، أحسن.
ماذا لو أنهم صنفوا البيوت والعقول والشهادات والأديان أيضا بعدد النجوم وعلقوها على الأبواب، وعلى ياقات الحلل والقمصان مثل شارات المؤتمر؟ إذن لارتبكت الأمور وقامت المعارك بلا نهاية، هكذا أحسن، خل الطابق مستورا، ثم إنه كان يريد أن يرى العريش مرة أخرى، لم يزرها إلا مرة واحدة بعد أن غادرها أولاد الكلب ببضع سنوات. كانت آثارهم باقية، ليس فقط فى بضائعهم، ومخلفاتهم، بل فى وعى الناس وذاكرتهم، مازال يذكر دهشته فى تلك الزيارة البعيدة، المصيبة ـ التى اعتبرها كارثة ـ أن عددا لم يتوقعه من الناس كانوا يذكرونهم بخير، يذكرون أولاد الكلب هؤلاء بخير، هذا هو الاستعمار الحقيقى، الخطر الحقيقى: قد يشتمونهم أمام مذيع أو نائب فى الحزب الوطنى، لكن أمام بعضهم البعض، وأمام أمثاله إذا أمِنوا: يقولون كلاما مختلفا مؤلما، يذكر أنه عند ما كان فى “دهب” آخر مرة، وراح يتجاذب الحديث مع “فرج” صاحب مخيم “الفرس الأرعن”، حكى له حادثا حين أصيب ابنه وكـُسِرت ساقه وبانت عظامه مهشمة من خلال جرح مفتوح، حكى الإجراءات الحاسمة والعاجلة ـ الإجراءات التى اتخذها المحتلون الإسرائيليون لعلاج ابنه (ذى الخمسة سنوات)، إجراءات لم يكن فرج يتصور أنها توجد على ظهر الدنيا أصلا، تم نقل الولد إلى تل أبيب من فوره، كاد الأمر يتطلب استدعاء طائرة إسعاف مروحية إذا لزم الأمر،أسعفوا الولد بالمجان، ثم عملية فى إثر عملية، وكذا وكيت، كان فرج وهو يحكى منبهرا متحفظا معا، سأله جلال:
- إذن ماذا يا فرج؟
قال دون تردد:
ـ يارب نفضل مع مصر، على أن يأخذ “باشواتها” بالهم منا قليلا.
ـ2ـ
لابد من ترتيب مع محمد عبد المقصود المصور، حتى يمكن أن يتما المهمة كما ينبغى، هذا مع أن المكافأة التى اتفقا عليها لم تشترط كمية معينة من المعلومات أو الصور، المهم هو “تغطية المؤتمرين”، حلوة تغطية هذه، لابد من التغطية، الإثم ما حاك فى الصدر وخشيت أن يطلع عليه الناس، هذه مهمة بها ثواب كبير ما دامت تقوم بالتغطية، ولا من شاف ولا من درى:
= ”هل هذا وقت الاستظراف يا بارد؟”.
= ”هذاعـزه غصبا عن حبة عينك، وإلا كيف أصبرحتى ينتهى كل شئ”.
= ” أنت أنهيت كل شئ من زمان”.
= ”البركة فى سعادتك”.
= ”إخرس يا جبان!”.
= ”تانى؟”.
راح يستعرض برنامج المؤتمرين حتى يختار بعض الجلسات وبعض المتحدثين وبعض المسئولين، وبعض ضيوف الشرف ليجرى معهم الأحاديث المناسبة فى المواضيع المناسبة، كان قد انقبض قليلا، أو كثيرا، حين قابل أحمد عبد الغفار بين الزملاء الصحفيين الذين سوف يسهمون فى تغطية المؤتمرين، ما أكثر الصحفيين الأصغر هنا، أغلبهم لا يعرفونه والحمد لله، لكن أحمد عبد الغفار هذا، لماذا أحمد بالذات؟ هكذا؟ هو لا يحبه ولا يكرهه، ولكنه لا يريده، ما معنى لا يريده؟ هو لا يريده والسلام، قد يتحمله، وقد يتبادل معه نكتة خارجة أو اثنتين، هو لا يحب النكت الخارجة، ولا يضحك لها، لكن الشئ لزوم الشئ، هو لا يريدأحمد هذا. مرة أخرى: ما معنى لا يريده؟ هل هو قدح من القهوة أو شئ بارد يريده أو لا يريده؟ ما ذنبه هو ما دام هذا هو التعبير الذى قفز إلى ذهنه، ولم يجد له بديلا، الأهم من اسم أحمد، انه وجد اسم بسمة قنديل بين المتحدثات فى ندوة نقاش، وليس فى تقدمة بحث أو محاضرة، قرر أن يحضر هذه الندوة بالذات، وتساءل: هل يستطيع أن يتحجج بحديث صحفى، ثم ينفرد بها ليعرف حقيقة رأيها؟ هو يعلم رأيها فى موضوع المؤتمر تقريبا، لكنه يريد أن يراها وسطهن، كما يريد أن يراها وحدها، هذه الأم الأنثى الجميلة التى تحيطك بكلـِّها، فلا تعود تميزها: أمًّا من أختٍ مِنْ زوجة مِنْ عشيقة مِنْ موجة حانية مِنْ شجرة ظليلة.
ـ هل قابلت الأستاذة بسمة قنديل؟ لمحت اسمها فى البرنامج؟
كان أحمد عبد الغفار هو الذى يسأل جلالا هذا السؤال، وقد استوقفه فى الممر بالحضن والقبلات الوقائية، سؤال لم يتوقعه جلال من أحمد بالذات.
ـ لا، ليس بعد… تعرفها يا احمد؟
رد أحمد عبد الغفار وهو يتلمظ:
ـ وأعرف أنك تعرفها، كانت تنتظرك عند الدكتور جميل النشرتى، و أنت لم تحضر يومها، وقد حكت لى بعد ذلك عن لقائك بها، كما أشارت إلى ظروف أخرى دون تفصيل. هى تـُكـِنّ لك مشاعر خاصة يا عمّ.
ـ معرفة قليلة، ولقاءات متباعدة، لكنها عميقة على ما أظن.
ـ إلى أية درجة من العمق وصلتما ياترى؟
حاول جلال أن يسخـِّفه ليوقفه.
ـ إلى أقل قليلا من تلوث الإبداع، وصفقات الكلام يا عم احمد، بطل يا أخى، ألا ترى نفسك؟
التقط أحمد عبد الغفار بداية الدفع الهجومى، فاستأذن دون أن يلحظ أن ورقة “برنامج” المؤتمر النسائى قد وقعت منه، الأمر الذى سمح لجلال بالتقاطها، ولم يتردد فى فتحها، فوجده قد حوط كل المشتركات الخليجيات بدوائر، وكتب مقابل كل دائرة رقم حجرتها، هكذا بالجملة !. ترمِى شباكك دون تمييز، يا رجل: الصيد بالسنارة أجمل وأرق.. عمل فردى فيه فن وصبر وانتقائية، حاول أن يفهم ماذا يلح على أمثال أحمد هذا حتى يواصلوا فرد شباكهم بالجملة هكذا طول الوقت، ليس الحب طبعا، إذن ماذا؟ إثبات ذات؟ شهوة لا تنطفئ؟ الألعاب النارية فى “سيرك” الحرية؟ يشربون الماء المالح فيعطشون أكثر.
= “…. لاياشيخ؟ كل هذا من خيبتك البليغة.”
= ”خيبة ..خيبة، هذا أشرف؟.
= ”أشرف يا جبان؟ إيش عرفك؟”.
= ”لاأريد أن أعرف”.
= ”إن شالله ما عرفت”.
صحيح!، لماذا لا يفعل مثلهم ،ويرى؟ انتبه جلال إلى أن الفرق بينه وبين أحمد، أن أحمد يبدأ من الآخر، أما هو فهو يسمح لنفسه بالتأمل، والانبهار، والانجذاب، والتخيل فالمراجعة، وبُعد النظر، فالتردد، فالحكمة، فالاستغناء وخلاص!!.
ليس من حقه أن يلوم أحمد، ولو فى نفسه، أحمد رجل عملى يوفر وقته.
ثم أضاف: ووقتهن.
ـ3ـ
ـ ما الذى أتى بك إلى هنا يا جلال؟ تكتب باسم نسائى مستعار، أم تدعى الطب؟
قالت بسمة ذلك وهى لا تخفى فرحتها بلقائه.
ـ تصغرين دائما يا بسمة.
ـ كلام قديم يذكرنى بسنى الحقيقية، خل هذا الكلام للمبتدئين، قل ما يليق بصدقك.
ـ أنت تعرفين أنى لا أكذب، تصغرين فعلا مع تعاظم أمومتك المثيرة الرائعة.
ـ هذا أفضل.
ـ لا أعتقد أن أوديب كان يجهل أن “يوكستا” هى أمه.
ـ ولا هى:
ـ ولا أنا.
ـ حذار أن تتمادى فى تصنع اليـتم طلبا للتبنى:
ضحكا فى طيبة حقيقية.
هذه “امرأة خاصة جدا”، ليست مثلهن، هل كتابتها القصة هى التى حافظت عليها؟ أم أنها تكتب بكل هذه الطزاجة لأنها شخصية متجددة الطزاجة؟ عشرات يكتبن القصة على حساب أنوثتهن، بل إنسانيتهن، يتشنجن حتى تكاد الكلمات تتقافز منهن كفرقعات الفشار الهش، كيف احتفظت بسمة بما هى هكذا؟ لازال يذكر دعوتها إلى ما أسمته عمليات “كىّ الخرافة” عند الدكتور جميل النشرتى، الواضع عقله على زناد فكره طول الوقت، يطلق قذائفه أولا بأول، على أى ممن ينحرف عن منهجه، وعلى من يفكر فى غير محيطه، وعلى من يرفض أن يسبح فى بركة أسماكه النتنة، يمنع أية سمكة ما زالت بها حياة من أن تقفز إلى المحيط حتى لا ترى اللامتناهى؛ فتدرك أية بـِركة آسنة كان النشرتى يحبسها فيها.
يذكر جلال أن بسمة قالت له إن عمليات كىّ هذا الدكتور لم تعد تفيدها، وإنها حين انتبهت إلى أن البركة مسممة قفزت إلى اليابسة ثم راحت تعدو حتى امتطت صهوة القصة التى أوصلتها إلى أقرب “سبيل” نقى: وقالت بسمة أيضا: إنها بعد أن شفيت من آثار سموم الدكتور جميل، فتحت وعيها لكل ما يصله من أى مصدر، وخاصة أثناء الكتابة، فراحت تكتشفه أقرب وأبهى وهى تتعرف على المحيط بهدوء جسور، لم تخـَفْ أنه ليست له حدود.
ـ لماذا لم تحضر ذلك اليوم يا جلال عند الدكتور النشرتى كما تواعدنا؟ قل لى الحقيقة، لم أقبل عذرك بأنك لم تتعرف، على منزله.
ـ بصراحة لم أكن متحمسا للتعرف عليه، رجعت من منتصف الطريق.
ـ هذا ما رجـَّحته، وقد فوَّتـها بخاطرى.
ـ هل مازلت تذهبين إليه؟
ـ لم يعد تأثيره يجدى: على فكرة ميعادك هذا جعلنى أتعرف على اثنتين من مريداته من الخليجيات وهما تحضران هذا المؤتمر النسائى أيضا، وقد قابلتهما للتو، تصور؟
ـ خير وبركة، ولكنى أتساءل: لماذا لم يعد تأثير هذا الدكتور العظيم يجدى معك؟
واصلت حديثها، وكأنها لم تسمع:
ـ وأيضا فى ذلك اليوم قابلت أحمد عبد الغفار الذى رأيته هنا هذا الصباح.
تجنب أن يقول لها شعوره نحو أحمد هذا، وهو يعلم أنها ليست المناسبة، عاد إلى موضوع الدكتور جميل النشرتى، فقالت له كيف أنها حين تخلصت جزئيا من تأثيره وسمحت للمعرفة أن تدخل لها من أى باب، وخاصة من باب كتابة القصة، أخذت تكتشف جمال وروعة ما كان يصفه بالخرافة، حتى كادت فى بعض قصصها، وهى تكتبها، كادت تراه رأى العين، تصور!!!. على الرغم من أنها قصص ليست لها علاقة لا بالدين، ولا بالإيمان، لا بإثباته ولا بنفيه.
- وهل تشغلك هذه المسألة باختيارك، أم تورطتِ فيها مثلى؟ أشعر أن الذى ورطنى هى خبرة وصلتنى فى طفولتى، لم أستطع أن أميزها فى حينها، خبرة عشتها فى عباءة عمى سليمان، هو أبى الحقيقى: خبرة ملأتنى طفلا دون أن أدرى، ثم عادت تفيض علىّ بالرغم منى:
ـ تتكلم ألغازا يا عم جلال، من عمك هذا؟ وما حكاية عباءته؟
ـ أبدا، إنها تجربة خاصة جدا، كنت أتصور أننى يمكن أن أعممها، لا عليك الآن.
ـ أية تجربة وأى تعميم؟ تعلقنى؟ فسِّر يا جلال. عيب كذا.
ـ هذا أمر يطول شرحه، أنا شخصيا لا أفهمه، ولا أستطيع بيانه، ماذا يمكن أن يصفه طفل فى الرابعة يشعر بما لا ينسى، وهو داخل عباءة عمه الذى هو أبوه الحقيقى، مع أنه ليس أباه.
ـ ماذا جرى لك يا جلال؟ تـكـلم نفسك؟
ـ نعم.
سكت، فلاحظت أنه أقرب، ولاحظ هو ـ أيضا ـ أنها أقرب، وقالت له إنها ـأيضا ـ لا تعرف كيف تتكلم فى مسائل ليست وسيلتها الكلمات، وإن الإبداع عرّفها الطريق بشكل تتصور أنه من الصعب أن يشاركها فيه أحد، وأن المصيبة أن أهم شئ فى الوجود، هو أبعد شئ عن الشرح، برغم أنه ليس غامضا ولا خفيا، وأنها فهمت عجزه عن الحكى: كادت تدعوه إلى أن يكتب القصة مثلها لعل وعسى، لكن هل أحدٌ مثل أحد؟ فتراجعتُ، وسكتت.
ـ تقولين يا بسمة إنك تجدينه أقرب وأنت تكتشفين الكلمات فى تشكيلاتها الجديدة، ما علاقة هذا به؟
فوجئت بسمة، فهى لا تذكر أنها قالت مثل هذا الكلام حالا.
ـ ماذا أقول لك؟ أنا لا أذكر، ثم عموما.. ماذا أقول، جرِّب يا جلال.. ربما، حين يطغى موج الإبداع ليتجاوز الكلمات ويحتويها ويستعملها فى آن: يحدث الشئ الذى تبحث عنه.
ـ يحدث؟ أم تجدينه؟
ـ أقول لك يحدث.
ـ فاهم.. فاهم
ـ كيف أنت فاهم ما لا أفهم، وأنا التى تقوله؟ هذا كلام لا يـُفهم، هو يـُمارس.
حاول أن يستظرف:
ـ تريديننى أن أردّ قائلا : ممارِس، ممارِس.
فبدا (لنفسه أولا) سخيفا أكثر مما توقع، وعرف أنها شاركته رأيه حتى تململت.
حاولتْ بدورها أن تخفف من الموقف، ولم تستطع، فلم تردّ واستأذنت.
لم يغضب، وإن كان قد أخذ على خاطره.
ـ4ـ
هل انقلبت المسألة عليهم؟ المناقشات تمتد، والهجوم على دور شركات الدواء يتعاظم، على الرغم من أن المؤتمر تحت رعايتها وعلى نفقتها، والحوارات التى تجرى فى الطرقات وبين الجلسات أصبحت تجذب الانتباه أكثر من الجلسات؛ ذلك لأن أغلب الجلسات كانت مخصَّصة للهجوم على الطب البديل حسب رغبة صاحب الفرح، لم تخصص أية جلسات للدفاع عنه مباشرة، كان المراد أن تكون تمثيلية مظهرية ينهزم فيها المدافعون عنه، فإذا بصوت الهجوم على الطب التقليدى هو الذى يعلو، وتتكشف أوراق دور شركات الدواء فى غسيل المخ، واحتكار الصنف، ومضاعفة الأثمان عشرات، بل مئات الأضعاف بعد الانضمام والاحتكار.
كان جلال يرجو، أو ربما ينتظر، أن يكون لشركة أمين عبد الحكيم وغالى جوهر دور فى هذا المؤتمر، لماذا؟ ليس يدرى، لكنه قال: “تبقى كملت”، وابتسم، ثم أردف: “تصبح لعبة دوارة متداخلة”، وأقسم أنها ليست صدفة، إذن ماذا هى؟ رد على نفسه أنه لا يدرى: لمح فى البرنامج اسم الدكتورة إصلاح فاضل، لم يكن يذكر اسمها جيدا، لكنه كان يعرف اسم الشركة بالتقريب، أراد لو يكلمها مباشرة؛ فقد عرف عنها ما يثير، ولا يكفى، من بنت أخت غالى جوهر الدكتورة مادلين، ومن أمين عبد الحكيم. مازال يذكر مداعبات أمين عبد الحكيم، وهو يحكى دورها فى زواجه من فاتيما، وهربهما من تخطيط والده، بضربة واحدة: بلياردو.
هو يذكر ـأيضاـ تلميحات أمين عنها، وعن استاذه غالى جوهر، قال لنفسه مرة أخرى: “ليست صدفة، ثم تساءل : إذن ماذا؟”.
رتـَّب هو ومحمد عبد المقصود معها مقابلة لحديث صحفى، باعتبارها ممثلة لإحدى الشركات الممولة للمؤتمر.
ـ …المحرر العلمى (لم يقل: بالقطعة!) لمجلة “الأنوار” الخليجية.
ـ أهلا وسهلا.
بدأ بالأسئلة التقليدية، وهو يتأملها أكثر منه يسألها، ليس يدرى لماذا. أجابت الدكتورة إصلاح فاضل- بكل اليقين- بالأصالة عن نفسها وبالنياية عن شركتها، قالت وأفاضت، وأسهبت، وأفتت: فأدانت أى علاج خارج الأدوية التقليدية المعروفة التى لا تخرج إلى التداول، إلا بعد أبحاث علمية دقيقة، بمنهج صارم مقارن، ثم اختبارات تطبيقية مؤسسية مسؤولة، تتكلف مئات الملايين، وأضافت بيقين نهائى أن كل ما عدا ذلك نصب واحتيال.
ـ والناس؟
ـ مالهم.
ـ لماذا يفضل كثير منهم ـ أحيانا، أو كثيرا ـ النصب والاحتيال؟
ـ لأن النصابين مهرة وأذكياء، ولأن هناك الكثير من الأمراض المستعصية والغامضة، مما يترك لهم مساحة حركة يبدأون منها، ثم يعمِّمون هذا الخبط العشوائى على كل الأمراض، على كل الأمراض، حتى السرطان، تصور.
لم يعرف كيف يستدرجها إلى ما يريد، ولم يستطع إلا أن يتصور أنها غير مقتنعة بما تقول، وكلما زاد تشنجها وحماسها اطمأن أكثر إلى فرضه، هو لا يستطيع أن ينكر أنها لم تجذبه كامرأة، ليس يدرى لماذا؟ مع أنه يتصور أنه جاهز دون تمييز، وقدّر ـ وهو يكاد يبتسم وسط الحوار الحاد ـ أن ما أنقذ أمين عبد الحكيم من أبيه هو هذا، ولم يقل لنفسه:”هذا ماذا؟ “، مع أن جسدها كان يبدو جائعا يتضور بشكل ما.
لا يعرف جلال كيف استطاع أن يستدرجها إلى الكلام عن الطب النفسى كبديل للتداوى، وهو يضمر أملا قد يؤدى إلى الحديث عن علاقتها بوالد أمين عبد الحكيم، وأنه كيف ولماذا تركت تخصصها إلى “هذا” هكذا؟ يبدو أنه نجح جزئيا فى ذلك حتى أوصلها إلى أن تجيب غاضبة، وكأنها تصيح فى الأطباء النفسيين الذين يتنكرون للدواء أو يهمشونه بأنهم يساهمون ـ بالضرورة ـ فى شيوع التفكير الخرافى حين يبالغون فى قدرتهم على تغيير الناس، وأن بعضهم يتصور نفسه نبيا، ولولا القانون لادّعى النبوة.
ـ ماذا؟ آسف، لم أسمع جيدا. تقولين يدعون النبوة؟ !
ـ بل هم يتصورن أنهم آلهة يصنعون البشر.
قال بصعوبة مصطنعة، ليبدو سؤاله غير مقصود:
ـ تتكلمين عن خبرة شخصية؟
شعرت أنها اندفعت أكثر من اللازم، فنظرت إليه لتتأكد من أنه لا يظن بها الظنون، ولم تكتشف أنه يستعبط، فقررت أن تغلق ما انفتح منها.
ـ لا يهم، المهم هو أن الطب كله باطنى ونفسى وجراحى أصبح واحدا، داء ودواء، داء ودواء، هذا كل ما فى الأمر، والعلم سيرد على كل شئ بالتحديد وبمنتهى الدقة، وكل من يخرج عن نتائج الشركات العلمية، سيلفظه التاريخ، ويرفضه العلم مثلما لفظوا الجان والعفاريت.
لم يقل لها إنه سمع مؤخرا هذه الأيام أن “الجان بداخلنا هو الحل” وأن التفاهم ممكن، لم يكن يريد أن يفتح موضوعا هو لم يحسمه أصلا.
انتهت المقابلة، ليس على خير تماما؛ ذلك أنه راح يكتب فى خياله مقدمة التحقيق المكلف به، فجاءه كلام غير كل ما أعد لتغطية المهمة، راح يقرأ بعض ما لاح له أن يكتبه.
”تناسق الكون، الأصل فى صحة البشر، لا يتم برش مسحوق النقود الزائفة على جروح الروح”.
لو فعلها فسوف يرفعون عليه قضية لإثبات أنه مسؤول عن ثقب الأوزون، أو قد يصفونه جسديا دون محاكمة؛ باعتباره إرهابيا.
= “وأنت ما لك أنت؟ أنت البعيد مالك؟ بصفة ماذا تتكلم؟”
= ”بصفتى المختص بتسهيل نبض خلايا الوجود نحو المطلق”!!.
= ”نبض الـ ”ماذا” يا روح امك؟ “
خاف ـ فجأة ـ ألا يحصل على أجره، بل إنهم قد يطالبونه بنفقات السفر والإقامة قبل أن يسلموه لمستشفى الأمراض العقلية.
ابتسم وهو يعتذر لنفسه، فهو لا يعنى ـ بالضبط ـ حكاية نبض خلايا الوجود هذه، هى جاءت هكذا، ثم إنه حل بوعيه جيدا بما يشبه الإحياء، لا التذكر، كل من: المرحوم عبد المعطى، ووردة، والرجل صبى القهوة، وعم صابر فى عزبة البكباشى، والبشر الغطاسين فى دهب كما ولدتهم أمهاتهم، والشراعيين المتوحِّدين بالبحر والرياح، وليلة المطعم الطليانى مع فاتيما، وليلة صلاة الموجة السويسرية سباحة فى سماوات الكون، ومنال الحقيقية، لا الخائفة ولا الباردة ولا الناشطة لحقوق المرأة والإنسان، وموسيقى الجبال، وحوار الزلط والسمك المختلفة ألوانه،…
فلا هو استطاع أو حاول أن يفهم، ولا هو أراد أن ينسى، كل ما قدر عليه هو أنه رفض أن يعترف بخيبته، وطرد مشروع خجل طفيف، وتراجُع محتمل، واتهم الألفاظ بالقصور. قال : من هنا ينبغى إحياء اللغة القادرة على استيعاب المطلق، وليبدأ ذلك من سن مبكرة، ابتسم وهو يقر بعجزه عن إصلاح ما فسد، ولم يشعر بالذنب.
أفاق فجأة ليجد الدكتورة إصلاح مازالت واقفة تنتظر إكمال الحديث، كيف صبرت كل هذا الوقت؟ وكم طال وقت سرحانه؟ سارع بأى كلام وهو لا يذكر أين توقفا.
ـ أقصد أن للعلم مناهج كثيرة، وأن شركات الدواء التى تروّج وتدافع وتغسل أموال الطب التقليدى تتبع منهجا واحدا فقط، ربما لا يكون كافيا.
ـ تغسل ماذا؟ قلت غسيل أموال …؟
ـ لا أقصد.
قالت له إصلاح فى ضجر نصف نصف، إنه يبدو أنه محرر علمى مبتدئ، ومع ذلك فهى تفضل هذا النوع من التحقيقات الصحفية عن النوع التقليدى: أعطته بطاقتها وفيها عنوان الشركة، وليس عنوانها الخاص، وطلبت منه أن يمر “عليهم” فى القاهرة بعد انتهاء المؤتمر، وأنهم سيمدونه بالأبحاث والأوراق اللازمة التى سوف “تُـفـَتـِّح مخه”، وأنهم تحت أمره، وتمنت له التوفيق.
فشكر، وابتسم، وانصرف يتمتم، ولا يسمح لنفسه أن يتمادى فيما خطر له.
-5-
لا تستطيع أن تعرف العريش إلا إذا زرت السوق العامة، ثم رفح، ثم أكلت على أرض مزرعة بها نخيل قديم يناغى بعضه بعضا قرب السماء، العريش ليست سما العريش، ولا فندق أوبروى:
فى السوق تحدث جلال مع الأكبر سنا، وكان يتعجب قليلا؛ لأنه كان يعرف من قبل أن هؤلاء مصريون، ومع ذلك عاد يتعجب من اللهجة والغترة (العقال) والطباع، كلها فلسطينية، شامية، الكهول يذكرون اليهود بحذر، لم يعودوا يترحمون ـ سرا ـ على أيامهم مثلما كانوا يفعلون فى زيارته الأولى، لكنهم ينبهون إلى الفرق، شئ أشبه بحكاية فرج العسلة، وما حدث من اليهود هناك نحو ابنه المصاب الذى نقلوه إلى تل أبيب، و هم هنا ـ أيضا ـ يعلنون بعض تمنياتهم المخففة لآثار المقارنة مثل ” خل الحكومة: تأخذ بالها منا أكثر قليلا”.
العربات المرسيدس الديزل ذات الركاب السبعة هى العلامة الظاهرة التى مازالت تلح على وعى الناس من بقايا اليهود، الذين ليسوا من العريش هم مستوطنون، يسمونهم “أهل الوادى”، لم يفهم جلال ـ فى البداية ـ ماذا يقصدون بالوادى، ثم عرف أنهم يقصدون وادى النيل، وادى النيل شئ، وسيناء شئ آخر. وحمد الله فى سره، ثم جهرا، وترحم على السادات، وهو يتعجب لماذا شوَّه نفسه هوالآخر قبل أن يموت؟ ماذا لو كان قد تلكأ أو خاف على صورته وليس على مصر؟ إذن لظلوا جاثمين على أنفاسنا، وهم لايكفون عن تشويه وفبركة التاريخ حتى يثبتوا أن حدود مصر تنتهى عند حدود الوادى، وادى النيل، بأمارة أن أهل العريش يميزون بين العرايشية وأهل الوادي!!. وربما نجحوا فى استصدار قرار من مجلس الأمن بذلك.
المنظر فى رفح على الحدود ما زال صعبا، أسهل كثيرا من المرة السابقة، لكنه مازال صعبا، هؤلاء الكلاب، لماذا السباب؟ هل السباب هو كل ما نمتلكه لطردهم أو لتحجيمهم؟ الخوخ الـعـرايشى صغير الحجم، فائق الحلاوة، متميز الشخصية.
سوف تنقلب الصورة بعد ثلاث سنوات،حين تشتعل جهنم المواجهة، وسوف يفهم أكثر، ويتألم أكثر لكنه الآن يكتفى بالمرارة، لم يكن يعرف أن ثمة مرارة لها ثقل الرصاص الذى يكتم الأنفاس، ويحجر الدموع فى المآقى، فلا تظهر ولا تتراجع، سوف يعرف ذلك فيما بعد، وسوف يزداد مرارة ويقظة معا، سوف يشعر بطعم ورائحة الدماء الزكية، وهى تنبهه أنه لم يكن مجنونا، ولم يكن مبالغا، سوف يجمع أشلاء الشهداء حتى بعد دفنهم ليخلق منهم الوعى الجديد، والأمل الجديد، والكرامة.
-6-
بصعوبة شديدة كان جلال، ومحمد عبد المقصود يتنقلان بين المؤتمرين بشكل “مكوكى”مثل دينيس روس والمأسوف على دبلوماسيته كيسنجر (لم يكن تشينى وميتشيل وبنيت وزينى قد ظهروا بعد)، لم يستطع المحافظ أن يوفق بين حضور المؤتمرين، ونجحت المبدعات الفاتنات أن يكسبن الجولة فشارك معهن أكثر، يبدو أن المحافظ كله نظر. مؤتمر الحريم مطعَّم بعدد كبير من الرجال المهتمين بالنساء، يعنى بقضية النساء، يعنى بالمرأة، لمن يستطيع منهم، ولا مؤاخذة، لعن أفكاره ولم يرفضها، هو مؤتمر أكثر أنوثة، على الرغم من أنه ليس أخف دما.
كثير من المبدعات مقشفات بفعل فاعل، غير الإبداع النسائى: الغريب أن هذاالمؤتمر النقيضى (هو أسماه هكذا) كان منعقدا بواسطة الأديبات الحريمى للهجوم على فكرة ما يسمى بـ الأدب النسائى: وقد سـُرَّ ـ هو شخصيا ـ لذلك سرورا شديدا، و سـُرَّ أكثر؛ لأنه كان يتصور عكس ما وجد، كان يتصور أنهن سيتصايحن مطالبات بحجز مساحة معينة فى دور النشر للمبدعات الفاتنات، لكن يبدو أن شرط “الفاتنات” هذا هو الذى عقـَّلهنـ هذا اقتراح مثل اقتراح حجز مقاعد خاصة للنائبات فى مجلس الشعبـ وتذكر منالا، لماذا لم تحضر؟ هل هى أعقل من أن تشارك فى هذه المهرجانات؟ حقوق الإنسان لا تتجزأ، والمرأة أكثر تمتعا بحقوق الخداع اللفظى، يارب نوّر بصيرتهن (حلوة نون النسوة هنا) ليحررن الرجال معهن بالمرة.
عرّفته بسمة قنديل على “حصة”، تلك الشاعرة الخليجية جدا، فوجدها خليجية فعلا، ما هى المحكات الواجب توافرها فى رجل أو امرأة حتى يمكن تشخيصه على أنه خليجى أو خليجية؟ لا يكفى أن تكون من بلاد الخليج حتى تصبح خليجيا، ولا بد من استثناء إيران، ليس ـ فقط ـ بسبب الثورة الإسلامية، ولكن ـ أساسا ـ بسبب تميزهم فى الإخراج السينمائى حتى الآن، ترى كيف حل أهل الخليج بكل ما لهم من إمكانات هذه المسألة التى تشغله؟ لابد أن الغنائم البترولية، والأخلاق البدوية، والثقافة المحلية، والبضائع الأمريكية، قد أغناهم كل هذا عن التفكير فى هذه المسألة من أصله.
ـ فعلا يا أستاذ جلال، كما قالت بسمة، أنت مهموم بأمر ما، ليس واضحا على ما يبدو، أرجو أن يكون أكثر وضوحا لك على الأقل، أكثر منا يعنى:
هذه ـ حصةـ امرأة شاعرة جدا، شعرها أسود، وجميل، هو فاحم السواد، أفحم سوادا، هو لا يحب هذا التشبيه، لا يستطيع أن يمنع إحساسه بتسويد كفيه وهو يملس على هذا الشعر الجميل إذا وصف أنه فاحم جدا، شكر بسمة فى نفسه أن عـرفته بـ ”حصة” هذه قبل أن يرد، وهو يتغافل تلميحاتها:
ـ بسمة إنسانة رائعة.
ـ هى كذلك، وقد حثتنى عنك وما يهمك، وهى تكاد تراك من الداخل حتى أنها تلمس مسألتك دون تحديد، ما هى هذه المسألة؟
ـ بسمة نفسها تقول إنها مسألة لا يصلح فيها الحديث بالكلمات.
ضحكت حصة وهى تقول:
ـ إذن يصلح بماذا؟
لم يقل ما قفز إليه: لا بالأجساد ولا بالقبلات ولا حتى بالصلاة وإنما قال :
ـ اسأليها.
بدا لجلال أن صدق بحثه، وعمق حيرته، يجعلانه أقرب إلى الناس “هكذا”، وتصوّر أنه لو وُجـِدَ ناسٌ يبحثون ويـَصْدقُون مثله، فلابد أن يلتقوا فى “نقطة ما من الزمن”، وهناك فى هذه النقطة التى يلتقى عندها كل الناس، كل الناس الذين يبحثون (أضاف بعناد: والذين لا يبحثون) سوف يجدونه فى هذه النقطة تحديدا، نقطة بلا حدود.
قالت حصة:
ـ أسألها عن ماذا؟ كأنه لغز يبحث عن اسم غير مسبوق.
ـ هو ذاك، ليس له اسم برغم كل الأسماء التى أطلقوها عليه.
ـ أى أسماء يا أستاذ جلال؟
أفاق بسرعة، لم يعرف بم يجيب، وعاود طريقة الهرب ذاتها وهو يكرر.
ـ بسمة إنسانة رائعة.
وافقت حصة على أن تفوت هذه أيضا، وأن تدخل العطفة التى هرب إليها.
فسألته:
ـ هل تحبها يا أستاذ جلال؟
ـ طبعا، وهل يمكن لواحد أن يعرف بسمة حقيقة دون أن يحبها.
ـ صحيح، برغم أنى، لا أخفى أننى، أغار منها، ليس من كتاباتها البديعة فحسب، ولكن منها كلها.
ـ أظن أنك تحبينها أنتِ أيضا.
ـ صحيح، بها ألم عميق، تستطيع أن تقترب منك بسهولة، وعمق، بشرط ألا يقترب أحد منها.
ـ أنا لا أعرف يا أستاذة حصة كيف تستطيع أن تكمل حياتها هكذا، السن تتقدم بها، فتزداد نضارة وشبابا، حتى أنى أتصور أن الكهولة ستنقض عليها فجأة، من شاهق.
ـ لماذا؟ لـِمَ تذهب إلى هناك بعيدا هكذا؟ دعنا نعيش كما نحن الآن، حتى ينقض علينا ما ينقض، لا يوجد ما يبرر ما تقول.
ـ ياليت!!
ـ يا ليت ماذا؟
ـ لا أعرف، ربما الزمن.
ـ الزمن فى صالح من يعرف كيف يعيش.
خاف أن يسمح لنفسه بالانطلاق بكلامه الغامض المتشعب، وخاف أكثر أن تعتبره حصة كلاما فارغا لا لزوم له، (مع أنه يعرف أنه يبدو للجميع كذلك)، وخاف أكثر وأكثر أن تعتبره حصة مجنونا، هو يقسم بالله العلى العظيم أنه ليس مجنونا، وأنه لو جن فإنه سيعالج بالطب البديل، وليس بأدوية الدكتورة، إصلاح أو الدكتورة مادلين.
ـ ما رأيك يا أستاذة حصة فى جيراننا هنا فى الفندق، فى موضوع المؤتمر الثانى، أنا أغطيه أيضا؟ لقد خطر ببالى أن أسأل بعض المشتركين فى كل مؤتمر أسئلة عن المؤتمر الآخر، أليست فكرة طريفة: رؤية الآخر؟ أصل حكاية الآخر هذه أصبحت بدعة حديثة، حتى يوسف شاهين أخرج فيلم اسمه “الآخر”.
ـ إيش أدخل يوسف شاهين هنا، أنا أحب أعماله
ـ حلال عليك، ليس قصدى، أنا أردت أن أبين لك أن خلط أسئلة المؤتمرين هو عمل إبداعى، وليس شطحا.
ـ فكرة طريفة، لكننى أشك أن سكرتير أو رئيس تحرير أية مجلة أو صحيفة يمكن أن يقبلها أو ينشرها، وقد يلومك أو حتى يخصم من مكافأتك.
ـ أنا قبضت مقدما، ثم بينى وبينك كثير من رؤساء التحرير قد لايميزون مثل هذا الخلط، هذا بعض ما جعلنى أقرر أن أترك الصحافة، أصارحك أكثر؟ لقد تركتها فعلا.
ـ تركت الصحافة؟ فماذا تعمل الآن؟
ـ ليس لى عمل محدد، أقوم ببعض الترجمة للمنظمة.
ـ أية منظمة؟
ـ منظمة حقوق الإنسان.
ـ آه!! هل أنت منهم؟
ـ هل يبدو على شئ من ذلك.
ابتسمت ولم ترد.
فرح، وكأنها وفرت عليه شرح موقفه، وكيف أنه يعرفهم، ويتعامل معهم، وأنه على الرغم من ذلك ليس منهم، وليس ضدهم، وأن أكل العيش له ظروفه القاسية، وأن المضطر أصبح يكتب الصعب لايركبه، عادت تسأله وكأنها نسيت شيئا مهما.
ـ أنت لستَ منهم، ولستَ صحفيا، ولستَ ولستَ، أنت من من؟ هل يمكن أن تقول لي: أنت مِنْ مَن؟
ـ لا، … هل يمكنِكِ أنت؟
ـ أنا ماذا؟
ـ أن تقولى لى أنتِ مِنْ مِنْ؟
سكتتْ طويلا، وكأنها تفاجأ بالسؤال، وكأنه لم يخطر على بالها ألف مرة، وكأنها ليست هى التى سألته أولا.
وجد جلال نفسه يلعن أباهم جميعاً، لم يحدد من هُم، لكنه يلعن أباهم جميعا والسلام، أضاف: إنهم لا يتركونه فى حاله، وإنهم يريدون خصاءه، لماذا لا يدافع الرجال عن حقهم فى منع الخصاء، كما تدافع النساء عن حقهن فى منع الختان؟ أفاق على سؤال حصة.
ـ ماذا؟ ماذا؟ ماذا تقول فى سرّك؟
انزعج وخشى أن تكون قد سمعته، أو أن تكون قادرة على قراءة الأفكار، قال لها :
– أقول ما وصلك
ضحكت حصّة وقالت له:”لولا أنها امرأة، لوصفت هذه اللقاءات الخائبة وصفا يليق”، لم يكذب حدس جلا ل أنها قرأت أفكاره، وهو يكاد يكون متأكدا أن لفظ الخصاء العقلى هو الذى تعنيه حصة برغم أنها لم تقل خصاء، ولا هو تلفظ به، هذا ما وصله.
أكملتْ:
ـ نحن نحارب للتخلص من عصر الحريم، فنجد أنفسنا ندخل فى عصر الأغوات.
صاح فرحًا بها حتى كاد يحضنها:
ـ رأيتِ كيف!! أنتِ التى قلتِ.
عاد يهدئ نفسه وهو ينفى لها أن شيئا كبيرا يحيّره فى حدود علمه، وأن بسمة هى التى قلبها كبير، وتنظر أبعد من صاحب الشأن، وقال كلاما تافها حول حيرة الإنسان المعاصر، واهتزاز القيم، وتعتيم الوعى، وعن العولمة، وعن النظام العالمى الجديد، وكلاما آخر من السائد هذه الأيام، لكن يبدو أنه كان مكشوفا، كان يتكلم مثل مذيع قديم يستضيف مختصا ليست عنده فكرة أكثر من فكرة المذيع عن الأزمة التى جرت بسبب جهل رئيس سيراليون بشروط الجات الجديدة.
ما أروع أطواق النجاة التى تلقيها إليه هذه الخليجية الرائعة، سألته:
ـ ما رأيك فى الشاطئ هنا؟
ـ شديد السوء.
ـ موافقة،وجدتـُه كذلك.
ـ ومع ذلك، فله عشاقه ومريدوه.
ـ ماذا يكون شاطئ العريش بدون نخيل؟
ـ تصورى أننى رأيت بعض النخيل يبكى، مثلما رأيته فى وادى فيران، هناك سمعت نشيجا مكتوما مع أنات البكاء، هنا سمعت احتجاجا غاضبا من مجموعات النخيل، كأنها على وشك ثورة لا تملك أدواتها.
ـ شعـرٌ هذا يا أستاذ جلال، هل تكتب الشعر؟
ـ ياليت، لا الشعر ولا القصة، مع أن بسمة أوصتنى بضرورة محاولة ذلك؛ إذا كنت أريد أن أصل إلى ما أبحث عنه.
- ضرورة ماذا؟ تصل إلى ماذا؟
كاد يقول لها، أو لنفسه (كالعادة)، “إنه يحبها”، ويكتفى بذلك، لكنه قال:
ـ بسمة تقول إنه لا يتجلى إلا إذا تجاوز حضورُه الكلمات واحتواها.
ـ هذا شعر، أرجِّح أن هذه كلماتك أنت، ليست كلماتها.
ـ لا أقصد الكلمات، أنا أعنى الكلمات الـ… الكلمات التى هى بداخل الكلمات.
ـ ماذا تقول يا جلال، أين ذهبت؟ حاسب حاسب، الشعر إذا زاد تقطّع ،
ـ اسألى صاحبتك، بسمة أقدر على التعبير، هذه صنعتها، تقول إنها حين تكتب تجده، وإنها لا ترتبك إلا لو لاحقتها هذه الرؤية بعيدا عن الكتابة، وإن حلمها اللحوح هو أن تجده هو هو فى واقع وعيها الكونى، بعيدا عن الكتابة، مثلما تجده فى الكتابة.
ـ لا تزيد الأمور تعقيدا ياجلال، لا تذهب بعيدا داخل البحر المترامى هكذا، إنك تخوض المحيط بلا سفينة، كل ما نستطيعه هو جمع القواقع الفارغة من على الشاطئ، علاقتنا بالمحيط لا ينبغى أن تتعدى تلك الأصوات التى تسمعها، وأنت تقرِّب صدفة متوسطة الحجم من أذنيك.
تصور، وهى تصل إليه هكذا بنعومة حانية، أنها احتضنته وهمَّت بتقبيله، واكتشف لأول مرة أن شفتيها مكتنزتان يزينان سمارها، وماذا فى ذلك؟ أسرع بحسم الموقف، وهو ينظر فى ساعته، ويستأذن ليلحق بجلسة مهمة عليه أن يغطيها.
سمحت له حصة، وظلت ابتسامتها الحانية تتابعه حتى دخل القاعة.
-7-
ـ أعرف رأيك فى حكاية الأدب النسائى، وأنا فرح به، إما إبداع، وإما لا إبداع، نسائى رجالى، أزرق أحمر، لا تفرق، أليس كذلك؟
ـ أنت لا تسألنى، أنت تطلب توقيعى:
ـ أنا أمهد لأسألك عن المؤتمر الآخر.
ـ مالى أنا وللمؤتمر الآخر، أنا ليست لى علاقة بالطب البديل، ولا بالطب الأصيل.
ـ الطب الأصيل، حلوة هذه، تصورى كدت أسميه الطب “الأصولى”.
ـ تصور يا جلال أننى بدأت أتبين أن الأصوليين موجودون فى كل المؤسسات، وبالذات المؤسسات التى تزعم التصدى للأصولية الدينية خاصة، تصور أننى اكتشفت أن الأصولية هى أخطر ما تكون فى مؤسسات البحث العلمى، والفكر الذى يقول إنه تنويرى: حتى الفلسفة، وعىْ التساؤل المتفرِّع، قلبوها علما وشهادات!!.
ـ جاءك كلامى؟ أنت تتكلمين عن المؤتمر الآخر أفضل من كل ما يدور داخل قاعاته، هل لاحظت يا بسمة أن المناقشات فى الأروقة والممرات أكثر جدية وصدقا مما يجرى داخل القاعات.
ـ لعلى التقطت بعض ذلك وأنا أعبر دون التفات، خيل إلى أحيانا أنهم يكادون يتشابكون بالأيدى: كنت أشم رائحة النقود لا العقاقير، كلما اقتربت من قاعاتهم.
ـ هل تابعتِ الجلسة التى تحدثوا فيها عن حركة تسمى المعالجة المثلية، أصبح لها منهج بحثى مقارن، وصيدليات خاصة بها عشرات الآلاف من العقاقير؟
ـ تقول المعالجة المثلية، أم الجنسية المثلية؟
- نعم. نعم؟
ـ أداعبك يا أخى، ماذا تعنى هذه البدعة الجديدة؟
ليست بدعة على ما أظن. هم يقصدون أن جرعات شديدة الضآلة من مسببات المرض، قد يكون فيها الشفاء، شئ أشبه بـ “دَاوِنِى بالتى كانتْ هىَ الدَّاءُ”.
ـ حلوة هذه، لماذا تبتعد هكذا يا جلال وتختلق المواضيع التى لا تهمنا معا؟
ـ لأننى أحبك.
ـ وبعد؟
ـ لا شئ.
كان هذا الحديث فى حجرتها، والساعة متأخرة، والأنفاس دافئة، وكانت أمومتها الأنثوية طاغية، وكان هو ضعيفا جدا، طيبا جدا، وهى كذلك، وخيل إليه أنه يريد أن ينام على حجرها، ولعله طلب ذلك، ولعلها كانت أقرب من أن يطلب ذلك، لأنها أيضا ـ ربما ـ طلبت مثل ذلك.
وهو لم يتأكد أبدا من الحد الفاصل بين هذا الواقع الذى اقترب، وبين حقيقة ما حدث.
* * *
[1] – يحيى الرخاوى: رواية “ملحمة الرحيل والعوْد” الجزء الثالث من ثلاثية “المشى على الصراط” (الطبعة الأولى 2007، الطبعة الثانية 2017)، والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net .