نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 30-6-2018
السنة الحادية عشرة
العدد: 3955
جذور إرهاصات الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى (من الإبداع الخاص)
مقدمة
نواصل اليوم نشر فصول رواية “مدرسة العراة” (1) تباعا فى هذه الأيام الثلاث (السبت/الأحد/الأثنين من كل أسبوع) وهى الجزء الثانى: من ثلاثية “المشى على الصراط”.
وهذا هو الفصل الرابع
“ملكـَة مـَنـّاع”
= إلى متى تظل تذهب إلى هناك يا غالى؟
- إلى أن أعرف ماذا أريد؟ وماذا يريد هذا الرجل منى؟ أو لى.
= لقد عرفنا ماذا نريد من زمن، وانتهى الأمر، أما هو، فما هو إلا طبيب يسترزق، وهو يريد نقودنا ونقود أمثالنا.
- أعرف ذلك، لكنى أعرف أيضا أنه يمكن أن يحصل عليها بطريق آخر، ربما أيسر، وربما أكثر.
= أعتقد أنه مضطرب مثلهم، هذا ما يدفعه لسلوك هذا الأسلوب، هو لا يعدو أن يكون برجوازيا مدعيا رغم ما يتظاهر به من حسن نية، وزعم الشعور بالناس.
– قد يكون كلامك صادقا، ولكن عليك أن تواجهيه لتعرفيه أكثر.
= هو لا يهمنى فى شئ، أنا أذهب معك لأنك حبيبى، ورفيق طريق كفاحنا، هذا كل ما هنالك.
- لست أدرى ماذا كنت أفعل بدونك.
= حبنا أقوى من أى اهتزاز، لم نعثر على بعض مصادفة جمعتنا المبادئ والإصرار على رفض ظلم الكادحين واستغلالهم.
-…. طبعا، كفاح الشعب هو الذى سينتصر.
= أحيانا أشك أن هذا الطبيب يأخذ عمولة من القوى الرجعية والامبريالية لتحطيم الثورة التى تعتمل فى صدرى وصدرك وصدور الطبقة العاملة، هو يحاول جاهدا أن يقلب كل شئ إلى “مشكلة شخصية”، مع أن المجتمع هو المريض.
– يجوز…. ولكن.
= لا تلغى فكرك يا غالى، الامور تتضح كل يوم، هو رجعى هارب جبان، لا أكثر،
-عبد السميع يعتقد أنه عميل لنا، ويحاول اتهامه بين الحين والحين بالإلحاد.
= إلحاد؟ إنه أجبن من أن يلحد، حديثه ملئ بكلمات الإيمان والخير والتوحد، يضرب اليمين واليسار فلا يبقى إلا نفسه.
- بصراحة رجل محيـّر.
= ليس تماما، “الذى تغلب به العب به” هذا هو مبدؤه الذى لا يفتأ يردده.
- لو ثبت ذلك، فهى أكبر خدعة قابلتها فى حياتى.
= ليس هناك أدنى شك يا غالى يا حبيبى.
-…. ما الذى يدفع كل هؤلاء المختلفين أن يذهبوا إليه بكل هذا الإصرار،
= نفس الذى يدفعنا: ورطة، وأمل مجهول.
- لا بد أن شيئا ما بداخلنا يطلب بضاعته.
= بضاعته ليست سوى الخرافة فى صورة عصرية.
- سنرى.
= متى؟
- لست أدرى.
= أحيانا أدعو على صديقك الذى أشار عليك بالذهاب اليه.
- كنت أيامها لا أنام الليل.
= ياليتك أخذت أقراص الطبيب الآخر، وخلـصنا.
- كانت تقتلنى بلا نوم حقيقى، أنت تعلمين أن صاحبنا هذا قد عرض على أقراصا فى أول الأمر، أنا الذى قلت له أننى ما جئت لمثل هذا، أنا الذى فضلت حضور “المجموعة العلاجية” بنفسى.
=…أذكر ذلك، لم أكن مرتاحة أبدا، قلبى حدثنى.
- هذا ما جعلنى أحترم شجاعتك أكثر وأنت تصرين على الحضور معى من أول مرة.
= وسوف أكون أشجع حين نتوقف عن الحضور معا أيضا.
- تعجبت وهو يوافق، بل يرحب بحضورك وأنت لست مريضة.
= زيادة الخير خيرين، كله مكسب.
- لا تبالغى هكذا، ودعينا نرى.
= مالنا ومالهم؟ نحن ثوريون، وهم مرضى، ولا سبيل إلى الالتقاء.
- أحيانا، أعتقد أنهم ثوريون أيضا، بل إنى أحيانا أظن أنهم هم الثوريون ونحن الأدعياء، ياملكة.
= غالى !!.
- أقول ما أشعر به.
= بدأت مخاوفى تتحقق، حافظ على ثقتك بنفسك وبمبادئك.
- لا خوف إطلاقا، طالما نحن معا، فلا تهديد بالتغيـر.
= نفسه طويل، وطريقه يبدو بلا نهاية.
- الثائر لا يخاف المغامرة..ما دام على حق.
= … وهل يوجد حق أحكم مما نحن فيه، هذا معمار صنعنا به وجودنا بعرق عقولنا.
- من يدرى؟
= أنا أدرى.
- صبرك يا ملكة، أحيانا أقارن بين هؤلاء الناس وبين جماعتنا الثورية، وأتردد.
= إنتبه يا غالى، عقيدتنا أغلى مافى حياتنا، فكيف نقارن هؤلاء المجانين الذين يتذرعون بالمرض بجماعتنا وكفاحنا.
- لا تنكرى حقيقة ما يدور هنا، فلا أحد منهم يعتذر بالمرض أو يستجدى الشفقة، أشعر أنها دعوة لمواجهة الحياة بشكل آخر.
= واجهناها وعرفنا أولها من آخرها، الكفاح الكفاح، رفع الظلم والمساواة، ماذا هناك غير ذلك؟
- طبعا..طبعا، لم أقل شيئا.
= هذا الرجل خطير، أشعر أحيانا أنه ليس إلا عميل مهمته تمييع مواقف الناس لإجهاض الثورة بأن يلصق عليها لافتات طبية؟،
- يجوز،
= مؤكد.
- مؤكد، إن كان هناك أى شئ مؤكد.
= ماذا جرى لك يا حبى ؟!!!.
– 1 -
قلبى يحدثنى أن غالى يتغير فى السر، لن أفرط فيه ولو دفعت حياتى ثمنا لذلك، مسكين، طيب القلب، استدرجه هذا الرجل ليبتزه ويشوهه، لا أنسى كيف استقبلنى ببرود أول يوم حين فرضت عليهم نفسى دون استئذان، لم أصدق أنه رحب بمشاركتى كما يقول غالى، صدق ما ادعيت بعد ذلك من شكاوى أبرر له بها ما يلهفه منى كل جلسة.
ثقتى بنفسى لا يزعزعها شئ على الأرض، أريد أن أنهى هذه الورطة بأسرع ما يمكن، غالى مـُـصـِـرّ، لو عارضته فسوف يعاند كالأطفال، سوف أتركه حتى يمل هذا التكرار السخيف، نضالنا أشرف وأصدق من كل هذا، ماذا يفعل شيخ المنسر هذا إلا أنه يجهض النضال ويثير الشكوك حول كل حل شامل، زوجى يوافقنى غالبا على أرائى ولكنه ينقاد له بلا مبرر، فوجئت بوجود كمال نعمان، معرفة قديمة، سوابقه فى الهرب تبرر وجوده هنا، كمال زميل نضال قديم، خاف السلطة فأصبح فنانا، حين التقيته هنا تعجبت، لا أنكر أنى أحسست فى قرارة نفسى بالشماته، هذه هى نهاية الانسحاب من المسئولية الجماهيرية، المرض وعيادة الأطباء بدلا من الناس وإرادة التغيير، إدفع يا كمال الثمن حتى لو استمرت سخريتك لاذعة، وشكك قاتل.
لا أستطيع أن أخفى عن نفسى تساؤلا مذلا: إذا كان كمال قد مرض لأنه انسحب من ميدان النضال فلماذا حضرنا نحن هنا إذن؟ لابد أن تنتهى هذه القصة سريعا حتى أتخلص من هذه المذلة، لا أحتمل هذا الموقف الذى يذكرنى كل ساعة أنى مريضة، أو أن غالى مريض، أى مرض هذا الذى نضيع فى البحث عن اسم أو مبرر أو شكل له؟ لماذا نمضى هذه الساعات الطوال فى النقاش والعراك و”محاولة” الإحساس؟ كل إنسان يحس بكل شئ فما الداعى للتشكيك؟
حتى أنجح فى إقناع غالى بالكف عن كل ذلك؟ لابد من خطة مضادة، المسألة تحتاج إلى تنظيم وتكاتف لكسر هذا الوهم المحيط، أبدأ بكمال، أعتقد أنه أوهى الحلقات، صديق قديم أعرف مداخله وأحب فنه، لو نجحت فى إقناع كمال فلسوف يستجيب غالى أسرع.
= هذه المناقشات تذكرنى ببعض ما كان يدور بيننا فى اجتماعات الإعداد لمجلة الحائط، هل نسيت يا كمال؟
- ربما لهذا أنا هنا، يا ست ملكة.
= تسخر من جديد، “ست” فى عينك، أنت هنا، لأنك نسيت؟
- بل لأنى لم أنجح أن أنسى.
= ولماذا تريد أن تنسى.
- لابد للانسان أن ينسى الفشل حتى يستطيع أن يستمر.
= مازلت تتحدث عن الفشل كالقدر، وهو اختيارك، نحن لم نفشل يا كمال، الشعب لا يفشل.
- لقد فشلنا جميعا.
= أنت انسحبت، فلا تحكم علينا.
- ليكن،… لكلٍّ رأيه.
= تحاول أن تبرر فشلك بأن تثبت على واجهتك “لافتة مرضية” تعفيك من تحمل مسئولية الناس.
- أفضل من لافتة “ثورية” توهمنى بتحمل مسئوليتى فضلا عن مسئولية ناس لا أعرفهم.
= نجح الرجل أن يفسد عقلك، هذا هو ما حسبت حسابه.
- لا أحد يفسد عقل آخر إلا باختياره، الفشل اختيار، وفساد العقل اختيار.
= واختيارك الآن هو أن يـفسد عقلك؟
- خير من أن يفسد ضميرى وأخدع الناس تحت عناوين ثورية.
= ماذا جرى لك يا كمال، أنت فنان حساس، ولابد من عمل نضالى بين الجماهير.
- جماهيرك يا ملكة فى عقلك، لن تعرفى الجماهير إلا إذا كنت أنت الجماهير، إلا إذا عرفت نفسك، هذا هو ما أحاوله.
= من أين نبدأ يا كمال؟ قصة قديمة، الفرد أولا أم المجتمع؟
- لن أنخدع ثانية بمناقشة القضايا العامة قبل أن أحدد موقفى.
= أكبر خداع هو ما أنت فيه الآن، ماذا بك حتى تتردد على طبيب كهذا؟
- عاجز عن فعل أى شئ.
- أوهمك الطبيب بالعجز والمرض، ولو لم تستسلم لهذه الإشاعة العصرية لكنت مستمرا معنا الآن.
= من أنتم؟ وأين انتم، الآن؟
- نحن مع الطبقة العاملة.
= ولكن الطبقة العاملة ليست معكم.
- الكادحون مسحوقون، والنضال مستمر، والعمال بدأوا يدركون حقوقهم.
= كلامك يوحى بأن القتال يدور من بيت لبيت ليل نهار، ولا أرى إلا تأجيل مواجهة الذات لأجل غير مسى.
= نترك الناس ونواجه أنفسنا؟ فى عيادة طبيب أرزقى؟
- أفضل من أن نترك أنفسنا ونضحك على الناس.
= حتى لو صح اتهامك، فالناس أقوى من أن يضحك عليهم مثلى ومثلك إلا بعض الوقت، ماذا جرى لك يا كمال؟
- لابد أن نعرف من نحن، من هو “أنا” “الآن”؟ وإلا..
= نوقف مسيرة العالم والتطور حتى نعرف من هو “أنا”… ومن هو “أنت”؟
- حتى لا تباع الثورات لغير أصحابها.
= الثورة للمطحونين من سواد الشعب.
- أنت لا تعرفين سواد الشعب ولا بياضه يا ملكة يا مناع، كل ما تفعلينه أنك تحافظين على “قلعتك الخاصة” بأسلوب أيديولوجى عصرى، أنت وغالى من مستحقى “وقف” الثورات، أما صانعوا الثورات فأنت لا تعرفينهم.
= ليس لى قلعة ولا بيت، حتى أمومتى ضحيت بها من أجل مبدئى.
- أنت لم تضحى بأمومتك، كل ما فى الأمر أن الحمل والرضاعة لم يعودا لازمين لممارسة الأمومة لديك، أنت تتبنين غالى سرا وعلانية، ملكية أضمن تكفيك وزيادة.
= خبيث، مهزوم تشوه الناس لتبرر انسحابك، كله من تأثير هذا الرجل المجنون.
-… لا تبالغى، لقد جئته مهزوما جاهزا.
= كنت تهرب منا فى الفن، والآن تهرب من الفن فى المرض.
- الحياة كلها تأجيل لمصيدة القبر، وعلينا أن نختار الشكل المناسب للهرب، قبل أن تطبق المصيدة علينا يوما ما.
= حكمة اليوم هى إضفاء صفة الشرعية على الهزيمة، ما أبشع ما يجرى هنا.
- ألا تحاولين النظر داخلك، ولو قليلا؟
****
يبدو أننى أخطأت الهدف، غالى أهون من كمال ألف مرة، شعرت أن كمال انتهزها فرصة ليسوى حسابا قديما، أردت أن أستقطبه فكاد يهزنى وأنا لا تهزنى قنبلة ذرية.
= أنا لست مريضة يا كمال كما تتمنى.
- تحضرين للفرجة؟ أليس كذلك؟
= زوجى يحضر وأنا مع زوجى للنهاية.
- تخافين أن يضيع وهو راجع إلى البيت، أو يخطفه أبو رجل مسلوخة؟
= شيخكم هو الخطاف الذى أخشاه.
- ليس لى شيخ.
= ينتهز ضعف الناس ليستولى عليهم لحساب جنونه الخفى.
- حتى لو….. فهو يعملها علانية، وعلى من يستسلم له أن يدفع الثمن،
= كذب، كذب.الطب سلطة خبيثة، الرهبان يمارسون الدعارة مع أطفال.
- إلى هذه الدرجة تخافين منه، أم تكرهينة.
= هو يقتل وحدته بإلغاء كيانهم.
- هو لا يخدع أحدا.
= أنت أول المخدوعين به.
- لا أنكر أنى احتاج لرعايته بعض الأحيان.
= غالى له من يرعاه.
- تريدين أن تحتكرى رعايته حتى يظل طــفلك الكبير ملكك وحدك.
= أنا أكثر أمانة عليه من شيخ المنسر هذا.
- ملكة يا غالى، قوى التملك تتنازع زوجك مثل الحدود الصينية السوفيتية.
= سخريتك سخيفة، أنت لا تعرفه، غالى سيد الرجال.
- هل تتصورين أننى لا أعرف متى رفع الراية البيضاء بعد زواجه بك.
= وغد لا تريد أن تنسى أنك كنت غريمه، ألم تعرض على الزواج قبله.
- قـَـدّر، ولطف.
= مازلت تريد الانتقام.
-…. أنت تحلمين.
= هو سعيد بحبى.
- أراه يسير ويداه مرفوعتان، وفوهة حبك مصحوبة طول الوقت إلى ظهره.
= ترسم له صورة مثل صورك الباهتة وهو ظفره برقبتك.
- ها أنت تتشطرين فى تسعير الرجال بعد تسعير الطبقات.
= لن تستطيع أن تسخر حتى النهاية.
- أنا لا أعرف النهاية ولا أسعى لها.
= خيبت ظنى… إلى متى تنوى الاستمرار.
- حسب التساهيل، أنا أول الهاربين فى أى اتجاه، وكل اتجاه، أكره التحديد كرهى لعماك.
= وغد، تفخر بجبنك.
– أحسن من ادعاء غيره.
= لابد من وقف هذا العبث.
- تخافين المواجهة.
= قلبك ممتلئ حقدا.
- …. ألم يكن الحقد ثروتنا التحريضية؟ فلماذا تتنكرين له الآن.
– 2 -
الخوف يتزايد ويحيط بى من كل جانب، لو تركت نفسى استعمل لغتهم لاكتشفت مصدر التهديد من داخلى، أنا لا أخاف على نفسى، كل ما أخشاه أن يتغير غالى بالرغم منه، لو تغير بإرادته فقد أتحمل النتائج مهما كانت، أما أن يتغير تحت وهم العلاج وتأثير “شيخ الطريقة الصحية لتمييع الثورية” فهذا ما يهددنى.
غالى يكرر إعلان أنه لا يتغير ولكنه يستزيد من المعرفة، يقول إنه بذلك يستطيع أن يختار، أنا أتساءل هل سيختار من أول وجديد، لقد اخترنا طريقنا بعد طول عناء، لقد أجابت “النظرية” على كل شئ، ماذا بقى أمامنا لنختاره ونحن نتعرض لهذه الخدعة الامبريالية الجديدة، أحس أننا نستدرج إلى مجالات ميتافيزيقية ألعن من كل المخدرات التى تعاطتها الشعوب عبر التاريخ، هذه الخدعة العصرية تلبس مسوح العلم وتدعى الطب لقد اخترنا طريقنا بعد أن أنهكنـا البحث، فما الداعى لأن نعيد الاختيار، لقد بدأنا النضال من زمن بعيد وقطعنا فيه شوطا أعطى لحياتنا معنى، فماذا نريد أن نختار بعد ذلك يا غالى الله يهديك؟ وأنا..؟ هل أنا من ضمن ما سوف تعيد النظر فيه؟، يا غالى.
- أما آن الأوان أن نكف عن الحضور لننتبه إلى ما وراءنا من واجب تحرير الناس.
- نحرر الناس، دون أن نتحرر نحن يا ملكة؟
- نحن أحرار تماما، وأنت تعرف ذلك يا غالى يا حبيبى.
- مم تخافين إذن؟
- أنا لست خائفة.
أعلم أنى كاذبة، كل ما حولى يؤكد لى أن أخطر الخطر هو ما يقع دون سابق إنذار، هنا خطر متسحب، شئ ما يتحرك فى داخلنا ويقترب من السطح دون إذن.
لا أستطيع أن أنسى ذلك اليوم، لم أكن أتصور أبدا أن ذلك يمكن أن يحدث لغريب أو من غريب بالذات، ذلك الإنسان الهادئ المثقف، كيف فقد كيانه هكذا فى لحظة، مازلت أذكر كيف رعبت، وكيف تحرك داخلى يكاد يقفز ليحتويه ويحول دون تماديه، كنت أريد أن أحميه من كذبهم وادعاءاتهم “المحبة”، لو كان رحمى عباءة لفردته عليك يا غريب ساعتها، لو كان فكرى حصانا أشهب لاختطفتك عليه من وسطهم حتى أحميك من هذه المهانة يا غريب، فخورة بك أنا، سرعان ما رجعت محصـَّـنا أكثر من ذى قبل رغم محاولات نجوى التى لا تيأس، تلك السيدة المدعية لا تكتفى بإغراء مختار، أو الكذب على إبراهيم، هى لا تكف أيضا عن ملاحقتك بكل الصور، حتى الطبيب نفسه لم يسلم من محاولاتها، لا، لن أفرط فى “غالي” أبدا، لن أخدع فى أحاديثهم وتمثيلياتهم، ما أدراهم بالحب والمساواة والعدل التى يتكلمون عنها ليل نهار، صورة جديدة ليوتوبيا المأفونين، مقاعدهم وثيرة وكفاحهم بالألفاظ، يتعاطون أفيون العواطف فى حجرة مغلقة، لابد أن يتغير المجتمع من أساسه أولا، المادة أساس كل شئ، أما العواطف الإنسانية فلابد وأن تصان من هذا العبث والتشويه، الذى ينبغى أن نسارع بتحطيمه هو الملكية الفردية لا الكيان الشخصى، أما العواطف فهى شئ آخر، هذا هو التركيب البشرى الذى ينبغى احترامه، العواطف أمور هلامية ليس لها علاقة بالتطور المادى، العواطف ملكية خاصة لا ينبغى أن يقترب منها أحد، فما بالك بما يجرى هنا؟!.
-…. أصحاب الأملاك يقولون أيضا أن ملكية النقود والأشياء من طبيعة البشر.
= يدافعون عما يملكون بتشويه طبيعة الإنسان.
- لعلنا نفعل ذلك أيضا حين نصر على خصوصية العواطف.
= ألم أقل لك يا غالى إن هذا الرجل يتسحب إلى خلايا عقلك من الباب الخلفى.
- أنت تعرفين أنى أحب أن أفحص كل الاحتمالات مهما كان الثمن،
=…. حتى لو كنت “أنا” الثمن.
- أنت فوق هذه القاعدة…. بالنسبة لك…. استقرت الأمور من زمن.
= عماذا تبحث إذن بعد أن استقرت الأمور..؟
- عن أى احتمال يوصل للحقيقة، ربما للقدرة، أو للفعل.
= نعم، نعم..؟ وهل ستجد ما تتحدث عنه هنا عند هذا الرجل؟
- ربما.
= هذا الرجل لا يقدم إلا احتمالا واحدا، هو: ذاته.
-… أحس أنه هو ذاته لا يعرف من هى ذاته، فكيف يقدمها، لعله يبحث مثلنا، معنا، كل شئ جائز.
= هذا الرجل عنده جواب لكل سؤال، رؤيته حادة مثل السكين، تقطع كل من ينحرف عن حدودها.
- إذا كانت كذلك، فما هى؟
= لا أراها بوضوح.
- كيف إذن هى حادة كما تصفين.
= سألته مرة عنها، فقال إنها: “الحياة”.
- كلمة مائعة مثل “الفطرة”، كلمة تصلح لكل العصور، تختبئ وراءها كل الحيل.
= ها أنت تفهم أحابيله، مازلت غالى حبيبى اليقظ الثائر.
- لا أنال منه، المسألة أصعب من هذه البساطة، فلا تبالغى فى تجسيم اعتراضاتى.
= تدافع عنه ثانية.
- أنا لا أدافع عنه، ولا عن أحد، وإنما أنا أسعى إلى المعرفة.
= وفى سبيل ذلك تنسانى، وتغفل حبى يا حياتى.
- ما دخل حبك يا ستى الآن؟
= لا حياة لى بدونـك، لقد وجدنا الطريق من زمان فلا داعى لضياع الوقت.
- أى طريق؟
= هل نسيت يا غالى: الحرية للشعب، والسيادة للطبقة العاملة…. هذه هى المقدسات الحقيقية لأنها واقع الناس، مالك؟ هل كفرت بكل هذا؟
- لم أكفر ولا يحزنون، أنا انتهز هذه الفرصة لكى نتعرف على هذه الألفاظ من جديد، “الواقع”- “الناس”، ربما تكون مسئوليتها أكبر من احتمالنا، أو ربما عشنا أصدق.
= نتعرف على “الواقع” و”الناس” من فوق هذه الكراسى الوثيرة؟
- حيرتنا هى التى دفعتنا لهذه الكراسى الوثيرة، وهى جزء من واقعنا، وهؤلاء “ناس” من لحم ودم بغض النظر عن عدد “السست” التى تهتز من تحتنا.
= حيرتنا انتهت من زمن.
- فما الذى أرقنى تلك الأيام؟
= كل الناس تصاب بالأرق أحيانا.
- ليست المسألة بهذه البساطة، أنت تذكرين جيدا كيف أنى فجعت فى صديقنا المسؤول؟
= خطأ عادى وما نحن إلا بشر.
- عادى؟ ، أسوأ استغلال وأبشع سرقة، خادمة قاصر!!.
=…. لكل واحد هفوته.
- دفعنا حياتنا لمحاربة الاستغلال، وهو يعلمنا الدرس تلو الدرس، ثم أكتشف أنه يمارس أبشع استغلال.
= كفاحه المقدس لا تلغيه زلة عابرة.
- كفاحه أم صياحه؟
= زلة شخص واحد لا تهز المبدأ.
-..دفعتنى للتفكير فيمن يقدر على حمل مسئولية المبدأ.
=…. نحن قدرها يا غالى، حتى لو أخطأ أحدنا.
-…. بدأت أشك فى كل شئ حتى فى ما هو نحن.
= مازلت تغلى بالغيظ.
- بدأت حكاية الأرق من يومها دون ربط ظاهر.
= أزمة وعدت، أنت تنام هذه الأيام مثل القتيل،
- أغمض عينى فحسب، أشعر أن داخلى لا ينام، لابد من حل.
= وهل الحل فى هذه المسرحية المعادة بلا نهاية فى عيادة طبيب مجنون.
- الحل فى الحصول على حريتى الداخلية.
= داخلية ماذا، وخارجية ماذا؟ كلنا أحرار إلى قاع القاع.
- القاع ليس فيه أحرار مالم يسعوا إلى القمة المسؤولة، هل نستطيع؟
= نحن نستطيع، ونصف، استطعنا ونستطيع.
- ليس بهذه البساطة.
ماذا جرى لك يا غالى؟ شكك يتزايد بدرجة لا تطاق، حتى حريتك التى لا جدال فيها، أصبحت مجالا للشك والمراجعة، أنت حر مادمت معى يا حبيبى، ماذا لو كنت زوجا لامرأة أخرى ليست “ثائرة” مثلى؟ امرأة تضيق عليك الخناق وتحاسبك على نظراتك وسكناتك، إننى لم أصر على حقى فى الإنجاب حتى لا أقيد حركتك، ماذا تريد بعد ذلك؟ فكر قليلا، ماذا لو أنك زوج ست البيت المتصابية فردوس هانم، أو ست الحسن المغرورة نجوى شعبان، ضبطتك آخر مرة متلبسا وأنت تتأمل جسدها ولم أفتح فمى، أنت حر حتى النخاع، مالذى أدخل إليك الشك بعد كل هذا؟ الحرية هى أن تحبنى كما تشاء وأن أحبك طول الوقت، أنت إبنى وأبى ودينى وعقيدتى، تستطيع أن تفعل بى ما تشاء من واقع حريتك، أنا أحبك يا غالى وليس لك سواى.
****
= كل شى تم تحديده بصفة نهائية يا كمال.
- نهائية !!؟ نهائية جدا طبعا، أفيدينا يا ملكة الحسم أفادك الله.
= تسخر منى؟
-…. أحاول أن أتذكر ما كنا نقوله ليل نهار.
= المادية، والحرية، والحب، ماذا تريد أروع من ذلك.
- بضائع الرصيف المستوردة.
= سخريتك قبيحة.
- كرشك يسع عشرين رجلا وطفلا بلا تمييز.
= لقد اكتفيت بغالى، فلا تحرك أمانيك القديمة.
- مجنون أنا إذا تمنيت أن أتمتع بعصارات هضمك الملتهبة.
= غيرتك تقتلك.
- غيرة ماذا يا ملكة؟ أنت أين؟ غالى يريد أن يتملص من سجن حبك قبل أى شئ.
= غالى ليس جبانا مثلك وهو لا يتمتع بحريته إلا بين أحضانى.
- حرية أن يختار إن كان يؤكل مسلوقا أو مشويا جدا أو نصف نصف؟
= تحقد عليه، مازلت أنت كما أنت، أنت لا تكف عن الحقد عليه.
- لا تحلمى، لا أحد يحقد على من يـُـشوى فى أتونك.
……
……
أفسدكم يا أغبياء إلى هذا الحد؟ ماذا لو انتهى غالى إلى ما انتهيتَ إليه يا كمال، سوف لا أتعرف عليه.
كيف السبيل إلى إيقاف عجلة هذا العبث البرجوازى القبيح؟
- 3 -
كان غريب هو الوحيد الذى يتعاطف مع مشاعرى العدوانية تجاه هذا الطبيب سرا وعلانية، حين يدخل فى نقاش معه، أو حين يتحوصل وينظر إلى هؤلاء البله فى تعال، أحس أنه يقوم عنى بما أود أن أفعله، حين يتكلم أحس أنه يستخرج الألفاظ من وجدانى، ها هو ذا ينقطع عن الحضور فيتركنى وحيدة تماما، كنت أحس به سندا قويا فى إدراكه لحقيقة ما يجرى، فرحت لغيابه، تماسك وقرر ونفّذ وغاب، طمأننى أننا يمكن أن نخرج من هذه الورطة ونحن أكثر صلابة وتماسكا بذواتنا وعقائدنا عن ذى قبل، ليس معنى أن يصاب إنسان ما بالأرق لبضعة ليال أن يفرض عليه التنازل عن كل تاريخه ومكاسبه لمثل هذا الطبيب الذى ينتهز الفرصة ليدعى أن ظهور الأعراض ما هو إلا طلب للتغيير، يشترط ضمنا أن يكون تغييرا فى اتجاهه، هذا الجاهل الذى لا يكف عن الكلام عن العلم وعن الحرية وعن التطور يخلط بين ذاته وبين العالم بطريقة بلهاء، العجيب أن أحدا غيرى وغير غريب لا يكتشف ذلك، أكاد أشعر أن قانونا غير مكتوب يحكم هؤلاء الناس، غاية أملى أن يفهم غالى خبث هذه اللعبة قبل أن ينساق إلى مالا يدرى، لماذا التغيير؟ ليس فى الإمكان أبدع ولا آمن من القوانين المادية الراسخة العظيمة، ما جدوى البحث فيما انتهينا من البحث فيه؟ أريد أن أحتفظ بغالى كما هو، لا يخالجنى شك فى أنه سيترك هؤلاء الناس يوما ما ويعود إلى هو، هو، متى؟ لماذا تطول هذه المسرحية كل هذا الوقت؟ ماذا ينقصه وأنا معه؟،
الرجال لا يحمدون النعمة.
كمال هو الذى أحذره أكثر من شيخهم نفسه، حين يكلمنى يعرينى دون استئذان هل يعيبنى يا كمال أن كل همى هو أن أحافظ على زوجى؟ غالى إنسان صادق، تألم بما فيه الكفاية واضطهد بما فيه الكفاية، أنت تعلم كيف تعامل الأقلية من الأكثرية بغباء لا نظير له، يكفيه ويكفينى ما كان من آلام.
= أليس الأفضل يا غالى أن نكرس حياتنا لتخفيف آلام المسحوقين بدلا من اجترار آلامنا الخاصة.
- لا نستطيع أن نكف عن معايشة الألم بقرار يا ملكة.
= الحب يخفف الآلام.
- الخطورة أنى بدأت أتساءل حتى عن الحب، اختلف معناه، أحيانا يعاودنى سؤال قديم يقول: هل ثم من يحبنى “أنا”، فعلا؟
= نعم؟ نعم..؟ ماذا أفعل أنا إذن؟ هل ألغيتنى يا غالى؟
- لا أقصد، أنت حياتى، ولكن….
= لكن ماذا؟ هل تشك فى حبى أيضا؟ أو أنه لا يكفيك؟
-….. أخاف منه أحيانا.
= فيم الخوف؟ نحن على وفاق حتى فى أفكارنا.
- ربما هذا هو سر خوفى، لقد ضحيتِ بكل شئ من أجلى، حتى حقك فى الأمومة، أخشى ألا أستطيع دفع الثمن.
= لا أطلب منك ثمنا إلا استقرارنا وسعادتنا.
-…. ماذا كنت أفعل بدونك؟
= آن الأوان للانسحاب من هذا الذى تسميه علاجا.
- ما بالك منزعجة هكذا؟
= هذا رجل صاحب دعوة سرية، هى تسرى فينا تحت شعار الصحة، لا تنس أننا أقلية ولابد أن نحمى أنفسنا بكل وسيلة.
- لا أشعر هنا معهم أنى أقلية.
= نحن أقلية مهما انتمينا إلى أعضاء هذا السرك الجديد.
- أريد الحقيقة، حتى ولو كنت وحدى.
= قوانين المادة تفسر كل شئ حتى التاريخ، لماذا نعود لطرق أبواب الخرافة؟
- لست واثقا إن كان ما نحن فيه علم أم خرافة.
= هذا الرجل يستغل ظروف المجتمع وآلام الناس لترويج أفكاره.
- أحيانا أشعر أنه عالم حقيقى.
= وهذا سر خطره.
- أى خطر؟
= خطر أن ننسى عقيدتنا وواجبنا إزاء نضال الشعوب.
- المواجهة الداخلية هى الضمان لاستمرار الشعلة التى تشعل نضال الشعوب.
= تقول داخلية، هلى سنغير العالم من الداخل؟ هذا العبث يكاد يلهينا عن بيتنا الذى أسسناه لنكمل النضال من أجل الشعب العامل.
- هل تخافين على الشعب العامل، أو على بيتك؟
= تنسى تضحيتى بأمومتى لنتفرغ للكفاح؟،
-…أنت لم تحبى الأطفال أبدا.
= لا أحب تعريضهم لخطر حياة كلها ظلم واستغلال.
- الخطر الحقيقى هو أن نخدع أنفسنا.
= نحن نعرف طريقنا.
- أحيانا أعتقد أننا نهرب فى الناس من أنفسنا، بلا انتماء حقيقى لنا.
= صرت تتشكك فى كل شئ، ما الحكاية!!.
- نتحدث عن حتمية التغيير، أرعب من تغيير بعض من سبقونا ممن أتيحت لهم فرصة أن يختبروا بكرسى السلطة.
= ماذا جرى لك؟ هذا الكلام أشبه بهمس رجال المباحث.
- أراجع مواقفنا، أتساءل وأرعب من تصور منظرنا على كراسى الحكم يوما.
= نتركها لهم بالسلامة يمصون دم الشعب حرصا على نقاء داخلك، ماذا تكون النتيجة إذا توقف الجميع عن النضال نتيجة لمثل أفكارك؟ سيقيم الطغاة الأفراح، وتسحق الأقليات بلا هوادة.
- هذا يرعبنى أكثر.
= من إذن سيغير المجتمع؟ أصحابك المجانين، وشيخهم الأرزقى؟ فى هذه العيادة السرية.
- هذا ما يزعجنى أيضا.
= يخيفنى !!! يرعبنى !! يزعجنى !! أهذا ما نجنيه من صحبة هؤلاء المعوقين داخل عيادة مجنون؟
- عجز هؤلاء المعوقين كما تقولين، لا يبرر كذبنا نحن.
= نحن لا نكذب.
- ضرر هذا الرجل إن وجد لا يتعدى عشرة أو عشرات، أما نحن، فثقة الناس لو ملكنا أمرهم ترعبنى وتلزمنى بمواصلة طريق المعرفة الشائك ضمانا لى ولهم.
…..
أنا لا أستطيع أن أوقف تدفق الشلال، بيتى مهدد، حريتى مهددة، عقيدته تهتز، كل هذا نتاج عناده وإصراره على الاستمرار فى لعبة حمقاء ليس لها معالم، أنزعج حين أفكر فيما وصل إليه من عـَمَى، ماذا يريد منى؟ أحيانا يعرض على أن أدلو بدلوى فى العلاج، وأن أتوقف عن موقف الفرجة ؟ هل يريد لى أن أكون مثل فردوس العروس الحلاوة الحمقاء، تلك المرأة لا تخجل من وصف نشوتها الجديدة، وكأنها عثرت على كنز قارون، كيف تجرؤ على هذه الوقاحة أمام طفلة مثل بسمة؟ أنا امرأة مثلها ولا أعرف تلك الأحاسيس التى تخترعها فردوس هذه اختراعا لتثبت لنا شفاءها الشبقى، وكأنه النجاح الأعظم فى حياة البشرية المشمولة برعاية زوج متفرغ، كيف لا تخجل من تصابيها المنفـر؟ كلامها يثيرنى أحيانا لدرجة تشككنى فى أنوثتى، ما هذه القمم المجهولة التى تصعد إليها مع زوجها؟ ما تلك الغيبوبة التى تصفها وكأنها انتقلت إلى الجنة فى كل مرة؟ لن أشك فى نفسى مهما كان، ممارستى الخاصة هى الطبيعة ذاتها، أنا أعطى غالى كل ما يرضيه وأنام راضية مسترخية أغلب الأوقات، أرفض، وأخاف من هذا الحديث العابث الكاذب عن الأجنحة التى تطير بها هذه المرأة متعبدة فى فحولة زوجها راقصة تحت سمائه، أراهن أنها تعد له خفية وصفات رجب العطار مع توصيات سحرية سرية.
هل هذا هو ما تبحث عنه يا غالى فى روضة أطفال الدعارة هذه؟ هل هذه هى حقيقة الداخل الذى تريد مواجهته؟ هل هذا هو طريق المعرفة الشائك؟ هل أصبحت فردوس مثلك الأعلى فى المرأة ؟ أم أنك تريد نموذجا آخر مثل نجوى المغرورة بجمالها وهى تريد أن تكمله بالديكورات العلاجية الحديثة، والإكسسوارات الثقافية المناسبة؟ إلى متى أظل محكوما على بتأمل “غرائب الطبيعة” هنا على هذه الصورة؟ نجوى التى كانت لا تفهم معنى كلمة أيدلوجية تتحدث الآن عن الصدق والحرية والناس، هى تروج بضاعتها الجديدة عند مختار وإبراهيم بعد أن هرب غريب بجلده، ليس أمامى خيار، علىّ أن أستمر فى التمثيلية إلى النهاية حتى أسترده وأرجع به إلى مكانه الطبيعى، كيف أستطيع أن أتحمل كل هذا الذى يجرى هكذا؟ كيف أسيطر على مشاعرى إلى النهاية؟ كيف أمنع شكى فى أنوثتى من خلال تفجـرهم الصناعى؟ هؤلاء المجانين يخلطون بين كل شئ وكل شئ: الجنس والـله والحب والناس، كلام خطير يحرك خلايا الحجر.كيف أتحمله؟ وإلى متى؟ هل أنا باردة حقا؟ هل هو يرغبنى هكذا، إن كان يعرف أصلا، ما هذا، هذا يكفينى، هذا الرضا يخفف آلام الاقتراب الجنسى ذاتها.
أحيانا تساورنى رغبة مجرمة للتحدث معهم فى موضوع هذه الآلام وخاصة بعد أن أكد لى طبيب أمراض النسا سلامة أعضائى، لن أسمح بذلك ولو بعد ألف سنة،
– 4 -
بوادر خير تلوح فى الأفق.
بدأ غالى يفكر فى لعبة بديلة، ذهبنا إلى بعض الأصدقاء الذين اعتادوا أن يتجمعوا حول الشيخ الضرير بعوده المتحفز ولسانه السوط، فرحت بذلك وتمنيت أن نستغنى بهذه الجلسات عن ذلك الرعب الأسبوعى حتى لو كان الحشيش هو الوسيلة إلى ذلك، حشيش الجوزة أهون من حشيش ذلك الطبيب النصاب، دعانى غالى لمشاركتهم ولكنى لم أستطع، ضحك كثيرا وتكلم كثيرا ولكنه بكى ونحن راجعان فى التاكسى.
لم أدر ماذا أفعل.
****
انتهى غالى، بعد أن أفرغ شحنته، وتمدد على ظهره هذه الليلة دون أن ينام، أصدرت أوامرى لخلاياى بالسكون بعد أن أدت مهمتها الثقيلة، وابتدأت الآلام تتضاءل تدريجيا، نظرت إليه فى تساؤل: لماذا لم ينم هذه المرة كما اعتاد أن يفعل كالطفل الرضيع.
= مالك يا غالى الليلة؟
- لا شئ، أنا أفكر فيك؟
= أنا بخير ما دمت سعيدا، ألم أرضِك الليلة؟
- وأنا، هل أرضيتـك؟
= أنا راضية بك وبجوارك ليل نهار.
- طرأت علىّ فكرة مرعبة فور انتهائى الليلة.
= الأفكار التى تطرأ عليك هذه الأيام أغلبها مرعب، وأنت مصر على الاستمرار.
- هذه جريمة استغلال.
= تتحدث عن ماذا؟
- عن ما حدث الليلة.
= ماذا حدث..؟ الليلة مثل كل ليلة.
- ألسنا نحارب استغلال الإنسان للإنسان؟
= هذه بديهية.
- وهذا الذى فعلتـه بك الليلة، أليس أسوأ استغلال؟
= غالى…. ماذا جرى لك؟ أنت أغلى من عينى وروحى، أنت زوجى وحبى، أين الاستغلال؟
- تفتحت آفاقى على معان أخرى للاستغلال.
= ماذا عندك أيضا من مفاجآت؟ بدأت أخاف كما لم أخف أبدا؟ من يستغل من؟
- أنا أستغلك يا ملكة.
= برضاى، هذا غاية سعادتى.
- أغلب العبيد كانوا يمنحون أرواحهم برضاهم وهم يعتقدون أنهم فى غاية السعادة فى ظل الإقطاع.
=…أنا فى كامل وعيى، وبكامل حريتى، كيف تشبهنى بالعبيد؟
- تكتمين آلامك ولا تتمتعين بحقك، وتطلبين عبوديتى ثمنا لذلك.
= درس جديد حفظتـَـه من حضرة الناظر فى روضة الدعارة الصحية الحديثة؟
- لا تنسبى إليه كل شئ.
= نحن نعيش فى وفاق نحسد عليه.
- أحسست أنى مجرم فى حقك.
= نعم؟ نعم؟ شفقة أم احتقار أم ماذا هذا؟
- أفكر فى حقوقك، أبسط حقوقك كامرأة.
= وهل اشتكيت لك يا أخى؟ عجيبة.!!.
- هذه الجريمة يجب أن تتوقف.
=…. أى جريمة يا مجنون؟ هل اشتكيت لك ؟ أنا لا أجد مبررا لكل هذا الذى تحكى عنه.
-…. السعادة شئ آخر.
=…. لابد أن تكون السعادة ممهورة بإمضاء شيخ الطريقة الجديدة حسب المواصفات التى يلقنها لكم، أليس كذلك؟ عـد إلى رشدك يا غالى قبل أن تفقد شخصيتك تماما.
- قولى لى بصراحة: هل تصلين إلى، إلى “النهاية”؟
= ماذا جرى لك يا غالى؟ نهاية ماذا وبداية ماذا؟ هذا وهم وإشاعات، هل تريدنى بقرة رقطاء مثل الست فردوس، أم لبؤة جوعى مثل الست نجوى؟ أنا امرأة حرة ومثقفة، وهم لا يعرفون القيم الإنسانية فى الاقتراب الجنسى.
- قيم؟ وإنسانية ؟ يبدو أننى لم أعد أفهم، عموما أنا آسف على كل ما كان، منذ..البداية.
= أية بداية.
- منذ زواجنا.
= منذ ماذا؟ ماذا تقول؟ ياسيدى أنا راضية وسعيدة بكل ما كان، وما هو كائن، وما سيكون، مادام منك، ومادام يرضيك، مالك بى؟
- لم يعد يرضينى، لا أولاد..ولا جنس، من أين تأتى السعادة؟
= غريبة أمورك هذه الأيام، نحن نعيش هكذا من سنوات ماذا جرى؟ ماذا استجد؟
- رؤيتى تتضح يوما بعد يوم.
= نجح الطبيب المجنون أن يقلب مشكلة استغلال الطبقة العاملة إلى البحث عن الجنة الجنسية الموعودة.
- الصدق يؤكد الصدق، البداية منا نحن، ثم تمتد إلى كل شئ.
=… البداية من على السرير، أليس كذلك، أهذه آخرتها؟ ما ذنبى أنا؟
- أنا لا أتهمك، أنا اتهم نفسى بالعمى والصمم، لن أقبل أن أستغلك بعد الان، العادة السرية أشرف من هذه العلاقة.
= هذه ليلة سوداء لن تمر بخير.
…..
نجح شيخهم الكلب أن يقلب حياتى رأسا على عقب، دخلها من أسفل المسارب، سوف أنتقم لا محالة، لا أحد يحس بى، لا أحد يفهمنى، حياتى مهددة، وغالى يبتعد عنى إكراما لإنسانيتى على الطريقة ”النور الدينية الجماعية!!” لن أيأس، لن أستسلم للغضب، سوف أقاتل حتى النهاية، سوف أسترجعه بكل وسيلة، يبتعد عنى ويسمى ذلك حبا واحتراما، هذا آخر تفسير للحب، أحدث التفسيرات تقول إن أحسن طريقة للتعبير عن الحب هو الهجر فى المضاجع، ثم الضرب بإذن الله (;) هكذا ننسى جوع الجماهير الكادحة ونتفرغ لتصنيف أنواع الحب السبعة، أو الأربعة وأربعين، طيب.
- 5 -
بدأت المظاهرات من باب اللوق وانتشرت إلى وسط البلد بلا ترتيب سابق، جاءت فى وقتها يا غالى يا جوهر، عليك أن تواجه ذاتك يا كمال يا نعمان، أما أنت يا عبد الحكيم يا نور الدين فلسوف تتضائل أمامنا جميعا حتى يسعك جحر يليق بجبنك وخيانتك، وحين يقرصك الجوع سوف ألقى إليك بكلمة صدق عليها “سم” الفئران الحديث جزاء وفاقا لما تفعله بالناس، ها هو الشعب قد استيقظ وهو يطالب بحقوقه، الحوانيت تتحطم، والمتاجر سوف تنهب ليسترد العرايا والجوعى حقوقهم، الأتوبيسات تحترق، الثورة أعلنت فى الوقت المناسب، وقت أن طعنت فى أنوثتى حتى كدت أنهار، هذه هى الحياة والحرية والمسئولية الحقيقية يا غالى يا ابن جوهر، نحن ننتمى طول عمرنا إلى هؤلاء الناس وليس إلى أصحابك المعوقين فى عيادة سرية، هذا هو الامتحان الحقيقى، من شاء أن يرى صدقه فلينزل إلى الشارع الآن يا كلاب، حين تعرف كذب ادعاءاتهم يا غالى فسترجع الى أحضانى آمنا نواصل الكفاح مثل زمان.
= قامت الثورة، وعلى كل إنسان أن يعرف مكانه ودوره، ويتحمل مسئوليته.
- أية ثورة؟ هل أخبرك أحد شيئا.
= المسألة لا تحتاج إلى إخبار، الشارع يغلى يا غالى، فأين دورك؟
- ياليتنى أعرف.
= دورنا فى الشارع يا غالى، هل نسيت؟ ننزل فورا.
- ننزل إلى أين..؟ هل فى ذلك ما يفيد؟
= أى شئ أحسن مما نحن فيه من ضياع منذ شهور؟
- كنا نبحث عن حل.
= ثم جاءنا الحل بأن نواجه مسؤليتنا بحق، ما قولك الآن؟
(برودى الجنسى يابن جوهر أشرف من برودك السياسى يا حبيبى الغالى).
- لا أنكر أنى أخجل من موقفى ومن جلوسى هنا الآن، لكن…
= هل اكتفيت بالتدريبات الداخلية فى “مصنع” العواطف المستوردة ؟؟
- أحتقر نفسى ولا أعرف كيف أشارك الناس حقيقة مشاعرهم.
= الأحداث أقوى من كل تساؤل.
- هل نترك التلقائية تتحكم فى مجريات الأمور؟
= أفضل من الحسابات الجبانة.
- وهل التحطيم يكفى؟
= إذا كنت لا تؤمن بالتحطيم فلماذا حاولت تحطيمى؟
- هذا ليس وقت تصفية حسابات شخصية، هل يمكن عمل شئ الآن فعلا؟
= هذا وقت الحساب الحقيقى، أين أنت وأصحابك المجانين من كل هذا، وعلى رأسكم شيخ المنسر هذا الطبيب الأفاق؟
- مواجهة النفس هى بداية الطريق، هذا ما تصورت أننى تعلمته.
= ويموت الناس جوعى حتى تتم مواجهة أنفسنا بالسلامة، أليس كذلك؟
- الحماس وحده لا يكفى، لابد من تخطيط وضمان للاستمرار.
= فى عيادة سرية تبيع الوهم للمجانين جلوسا؟ ، أليس كذلك يا غالى يا حبيبي!؟
- أى صدق لابد ينتج ثائرا عنيدا يمكن أن يتحمل نتائج مثل هذا الغليان فى الشارع.
= الصدق الذى تمارسونه هو تبرير التأجيل إلى ما لا نهاية.
- محتمل، محتمل جدا، ولكن ما حيلتى أنا وهذه هى رؤيتى الجديدة.
= لم تصدقنى وأنا أقول لك إنها رؤية مغشوشة، رؤية تبرر التأمل بديلا عن الثورة، لو طبقنا إشاعة حتم هذه الرؤية على هؤلاء الشباب إذن للزموا بيوتهم يتأملون ذواتهم بالسلامة.
- هم يؤدون دروهم بحماس من وجهة نظرهم.
= يا ليتنا أحذية فى أرجلهم.
-… هل تضمنين أنهم إذا دخلوا الامتحان الأكبر سوف يتحملون مسئولية استيعاب هذه المشاعر الجماهيرية الغالية لصالح الناس؟ أصبح رعبى من ورثة الثورات أكبر من فرحتى بهتافات الأبرياء.
=… وصى حضرتك على وعى ومسار المكافحين الشرفاء !!
- لست وصيا ولكنى خائف، خائف من الخدعة الكبرى، للكراسى سحر آخر.
= وحتى نفك السحر، علينا أن نرضى بالواقع أليس كذلك؟ ماذا جرى لك يا غالى؟ أليس بديهيا أن حالنا لم يعد يحتمل أى استمرار، لا بد من التغيير حالا، وجذريا.
- صحيح، لكن: هل آن الأوان أن نمد بصرنا حتى نعرف من الذى سيمسك الدفة بعد أى تغيير، مجرد الفرحة بالغليان لم تعد تكفى، أنا أشك فى نفسى، بشع ما هو بالداخل، أتصور أن مثله عندهم ولا أعرف السبيل إلى ترويضه لصالح هذا الحماس.
= نؤجل الثورات حتى يتم ترويض الداخل بالسلامة، هذه هى التعليمات الجديدة، هؤلاء الشباب هم أمل الأمة، هم شرف الوطن، ماذا يبقى لو رفضنا ما يفعلون؟
- أنا لا أرفض ولا أقبل، من أنا؟ أنا أتصور أن أيا منهم لا يقدر على التعرى لمعرفة حقيقة وجوده، فلا ضمان حين تتغير دوافعهم وظروفهم وآمالهم وموقعهم من السلطة والناس، لا ينبغى أن ننسى دروس التاريخ، لا بد أن نعد من يرث الثورة مثلما نعد من يشعلها.
= أصبحتَ فيلسوفا؟ عينك شيخ الطريقة قاضيا على منصة يقسم الناس إلى شغالة وورثة بعد أن يحكم على المناضلين بالتسطح العاطفى.ألا تخجل من نفسك؟
- أخجل، أخجل جدا، أريد أن أتوارى، أحاول أن أنسى كم تحمسنا وقتل زملاؤنا، ثم ورثها الأعلى صوتا، لا الأعمق إحساسا بالناس وبآلامهم وبحقوقهم، أخشى أن تتكرر المأساة كل مرة، لا يا ملكة سوف أرفض تكرار المأساة.
= وماذا يفيدك أو يفيدنا اعترافك بخجلك من نفسك هذا الذى تدعيه؟
- أواجهه بكل الألام قدر استطاعتى.
= ثم تعلقه على الحائط مصلوبا.
- لا أستطيع أن أخدع نفسى وأنا بكامل وعيى.
= الناس تموت فى الشوارع.
- قد يكون هذا هو الحل.
= أن يموت الناس؟
- لا…. أنا الذى..
= غالى، ماذا تقول؟
- العجز يحكم قبضته على، والخجل أكبر من احتمالى.
= المشاركة..هى الحل الحقيقى.
- شاركنا قبل ذلك واستلمها من هم ألعن ممن أزلناهم، هؤلاء يستعملوننا، وأولئك يزيحوننا، يبدو أن المسألة تحتاج لإعداد جاد وطويل.
= أفسدك العلاج.
- أنا أحمل مسئوليتى وأمضى.
= والشعب يا غالى.
- من الشعب؟
= الطبقة العاملة.
- وأنا وأنت؟
= هذا ليس وقت للقافية.
- أعنى ما أقول، هل نحن من الشعب أو لا؟
= نحن من صميم الشعب الحر.
- ولكننا لسنا أحرارا.
= سجننا هو خوفك، وخوف أمثالك،
- آن الأوان أن نحترم الخوف حتى نزداد شجاعة تمنع أن يسرقونا ثانية.
= كنا نعيش فى وضوح وصدق.
- هناك جانب آخر لما كنا نسميه الوضوح أو الصدق.
= يا خسارة ! حتى النار المشتعلة فى الشوارع لم توقظك.
- لو لم أصل إلى “معني” للآن وما يترتب عليه، فالنار التى تنتظرنى أشد سعيراً.
= تراتيل الخرافة الحديثة؟
- ماذا يفيد لو كسبت العالم وخسرت نفسك؟
= ترتد إلى الغيبيات تبرر بها سلبياتك.
-سمها ما شئت.
= الأفيون يسرى فى عروقك بسرعة البرق.
- لن أخدع نفسى ثانية.
****
ضاعت الفرصة وهدأ الشارع بفضل الأمن المركزى والطب الحديث، توارت الفرصة يا ملكة ولم يعد غالى، لن أهمد.
****
= إلى متى يا غالى، ألا يكفينا ما جرى؟
- لا مفرمن مواصلة المحاولة، ولو هلكت، من يفتح عينيه مرة لا يستطيع أن يغلقهما بخاطره ثانية.
= نمشى على حافة النار مغمضى العينين ونتحدث عن الرؤية الصادقة.
- لا أعرف سبيلا سريا إلا العمى الاختيارى ولو تحت اسم حركى آخر.
= أصبح للتفكير الخرافى شكل علمى طبى حديث، يعفى من المسئولية على صك جديد يسمى روشتة “وهو يستدرجنا إلى ما وراء الطبيعة هربا من مسئوليتنا.
- بل إلى ماوراء العقيدة بحثا عن حقيقتنا.
= لا حقيقة إلا فى المادة.
- المادة البشرية شديدة التعقيد، ولابد أن نبحث قوانينها بأسلوب آخر.
= قوانينها هى أيديولوجيتنا الرائعة الصالحة لأى عاقل يحترم عقله.
- هل تعرفين تعريفا للعقل أو للاحترام؟
= يبدو أنهم يصنعون الأفيون هذه الأيام فى أقسام الطب النفسى.
- هذا لا يعفينا من مسئولية البحث.
= ويهلك الكادحون حتى ننتهى نحن من البحث أولا؟
- من يسمعك يخيل إليه أن يدك على الزناد فى ساحة القتال ليل نهار.
=……. تسخر منى لتبرر هربك.
****
المناقشات لا تنقطع، عناده يزيد، أين أنت يا غالى، أين حماسك وإصرارك؟ إلى أين أنت ذاهب فى مجاهل الغيبيات، ونحن لم نخرج منها إلا بعد جهاد مرير؟ هل نسلم عقولنا ثانية للقوى الخفية حتى ولو سمت نفسها بأسماء علمية؟ ثم تتهمنى أنا بالجمود؟
- أحيانا أفكر فى وجه الشبه بينك وبين عبد السيمع الأشرم يا ملكة.
= أنا، يا غالى ؟!! عبد السميع يا غالى!!!.
- تعصبك لدينك المادى ليس أقل من تعصبه لدينه السماوى.
= دينى المادى؟ ودينه السماوى؟ وأنت يا ملك الرؤية والصدق، ما دينك الجديد، ماذا تريد منى الآن بعد كل هذا؟ ألا يكفى أن أذهب إلى شيخك المجنون أتحمل شطحه وتهويماتكم البلهاء، ثم تشبهنى بعبد السميع المعتوه يا غالي!!!.
- عبد السميع لا يدعى الحرية مثلك، وهو ينتظر الفرج فيما بعد الموت.
= تطلب النجاة لتبرير ما انزلقت إليه بتشويهى وتشويه معتقداتى التى ماعرفتها إلا منك.
- مازلت مؤمنا بمعتقداتنا ولكننى أبحث عن الطريق الذى يحافظ عليها.
= وسوف تجده بالـسلامة فى عيادة طبيب؟
- لا أعرف.
– 6 -
مطعونة فى أنوثتى، مهاجمة فى عقيدتى، مهجورة فى سريرى، بدأ الشك يتطرق إلى طريقتى فى الحياة، بدأت تساورنى الشكوك حول غالى وحول علاقاته، أتتبع نظراته إلى نجوى برعب حقيقى، إصلاح مساعدة الطبيب تتعاطف معه بشكل ظاهر، تهتز كل خلجة فيها حين تتفاعل معه.
طبيبة مساعدة هى أم مريضة مثلنا؟ حين بكت تلك المرة حاولت أن أتهمها بالتصنع، لم أستطع، غالى تكلم كثيرا بعدها عن صدقها وإيمانها بما تفععل، لم أرد، يبدو أنى خدعت فى كل شئ، آمنت به وبمبادئه ودفعت ثمن العيش معه: أمومتى، وربما أنوثتى لو صح اتهامه لى، ها هو ذا يكاد يترك لى مبادئه ويتراجع دون إنذار، كأنه يطالبنى بالتراجع معه، كأنى مذياع تتغير المواد التى يذيعها بحركة خفيفة من مؤشر جانبى، هذا جزائى، هذا ثمن التنازل عن كيانى لأى شخص كان، لن ألوم إلا نفسى، كل الحلول التى تطرأ على بالى تفشل قبل أن تصل إلى وعيى.
لو تراجعت عن مبادئى من أجل خاطره سوف أحتقرنى، أتراجع إلى أين؟ لو أصررت على موقفى فلن يكف عن الهجوم والتشكيك فى، كيف أتنازل عن شئ حفظ كيانى وصورتى أمام نفسى وأمام الناس طوال هذه السنين؟ صحيح أنا التى تبعته، من أجله، لكننى اقتنعت بعد ذلك بغض النظر عنه.
سألت نفسى مرة فى لحظات يأس عابرة هل أنا – حقيقة – أعرف ماذا أقول؟ أجبت بالإيجاب “طبعا”، ولكنهم علمونى خيبهم الله أن أشك فى نفسى كلما قلت “طبعا”.
هل أطرق بابا أحكمت إغلاقه من سنين؟ باب أمومتى التى أنكرتها من أجل خاطره؟ هل يكون ابتعادنا عن ما هو عادى سببا فى ارتمائنا وسط هؤلاء المجانين ثم اهتزاز عقائدنا؟ هل مازلتُ امرأة تصلح أن تتحرك حياة جديدة فى أحشائها؟
= مازلت أحبك يا غالى.
- وأنا كذلك،
= هل راجعت نفسك وأعدت تفسير مبررات هجرك لى؟
- لم أهجرك، أنا كففت عن خداع نفسى…. وظلمك،
= مازلت تسمى علاقتنا استغلالا.
- هذا ما يغلب على ظنى، حتى أتأكد من حقيقة سعادتك معى،
= أنا راضية، وسعيدة.
- لا بد أن تـَـرْضـَـى كل خلاياك.
= وكيف أعرف ذلك دون أن نجرب.
- معك حق.
حاولت أن أقوم بتمثيل كل ما سمعت عن القمم الجنسية والخلايا ذات الأجنحة فى جنة المتعة، ولكن يبدو أنى لم أنجح فقد كانت نظراته مليئة بالألم، وقد حاول أن يمنع نفسه من إنهاء مهمته إلا أنه لم يتمكن، وطال الصمت بيننا حتى قطعه بقوله:
- فشلـنا أفظع.
= هل يعنى ذلك انسحابك من جديد؟
- ليس تماما.
= أعدك أنى سأحاول.
- طبعا، أنا آسف.
=…. لم تسألنى عن حبوب منع الحمل،
- هذا شأنك أنت.
= قررت أن يكون لى أطفال.
- هكذا فجأة؟
= نعم.
- أرجو ألا تكون خدعة جديدة.
= لا خداع فى الأمومة.
- ليس لى سابق خبرة….
****
ما إن تأخرت العادة الشهرية حتى أحسست بالأمان يغمرنى بطريقة لم أشعر بها من قبل، طريقة لا تقارن بالأمان الذى كنت أتصوره من خلال حماسى لعقيدتى المادية، هذا شئ آخر، نجحت خطتى – لكن فشلى الآخر يتزايد والآلام الجنسية أصبحت أكثر حدة حتى أعلن غالى انسحابه ثانية، استقبلت انسحابه هذه المرة براحة عميقة، أنوثتى جرحت بنفس الحدة إلا أن أحشائى تحوى ما يـثبت أمومتى دون ادعاء اللذة المجنونة، الأنوثة هى الأمومة أولا وقبل كل شئ، ديننا الذى هجرته يقول هذا، أو مثل هذا.
أحيانا أفكر فى العودة إلى دينى ودين أهلى بدلا من كل هذا الضياع والوحدة، من يدرى؟ ربما يغنينى تدين مثل تدين أمى عن أنوثتى المطعونة؟ هل ينتهى بى المطاف إلى مثل ذلك؟ لم أعد أقدر أن أخفى جوعى، أتصور أحيانا أن أحدهم، وأحيانا كلهم، يعرفون كل شئ، هل قال لهم غالى؟ طبعا لا، ألتقط نظرات مختار النهمة التى لا تميز.
= من أنت يا مختار؟
- طائر بلا عش، قادر على الطيران إلى مالا نهاية،
= غالى شككنى فى كل شئ، وهأنذا أشك فى حريتك.
- أتابع تطور علاقتكما بشغف.
= شغف؟
- أكبر جريمة أن تنسى المرأة جسدها.
= جسدها…؟
– الجسد أصل الحياة.
= أحيانا أحس أنك منحل انتهازى شبقى لا أكثر.
-تخافين من رغبتك فى الحياة، فى الحب الحر، الجسد هو الطريق إلى الحقيقة
= غالى يقول إنى باردة.
-
لم يعرف الطريق إلى مفاتيحك.
= مختار….!!؟
-
إذا أحببتِ جسدك كما أحبه، فلسوف تتعرفين على العالم من خلاله
= غالى له رأى آخر
-
لا تلومى زوجك على كرهه لجسدك، كيف يحبه وأنت لا تحبينه؟!
= أنا خائفة.
-
لا تخافى الحرية.
= أية حرية؟ ماذا تقول؟ ماذا أفعل ؟
-
أنا فى الخدمة، ولكن بمحض حريتك.
= قد أحتاجك لو جننت.
****
لملمت ما تبعثر منى فى تلك الأيام العصيبة، اكتشفت أننى أخطأت الطريق حين تنازلت عن أسلحتى الطبيعية دون مبرر حقيقى، أو بديل كاف.
فليكن الولد ولدى، ثم تحل مسائل الكون على مهل…. أو انشالله ما حُلّت.
غالى ما زال يبحث عن نفسه، هكذا يقول، يضيف أنه حين يجدها سينطلق لتضميد جراح البشر وإزالة الظلم، بتحقيق عقيدته هى هى، أصبحت لا أهتم بتحذيره من الطريق المغلق، أو بحساباته المرتعدة، أحيانا يتردد على الكنيسة دون أن يخبرنى وأنا سعيدة بذلك، مازلت فى انتظار إنهاكه.
توقفنا - دون ضغط منى- عن الذهاب نهائيا إلى حيث الكابوس الأعظم، قال إنه عرف ما يكفيه، غالى يزداد وداعة وتسليما يوما بعد يوم، علاقتى به هادئة، يبدو أنه نسى حكاية البرود والاستغلال بقدرة قادر، أنا التى لم أنسها، كيف أنساها.
أعفانى الحمل من الواجب الأسبوعى، لكن ماذا بعد الولادة.
سوف يحلها القادم الجديد كما سوف يحل مشاكل الكون.
****
تغير غالى تماما منذ الولادة.
حين أنادى على إبنى فيناغى وكأنه يفهمنى أقول لنفسى “إن الضمان الأوحد لاستمرار الإنسان وتطوره هو فى “أن تنجب النساء أطفالا”.
****
[1] – يحيى الرخاوى: رواية “مدرسة العراة” الجزء الثانى من ثلاثية “المشى على الصراط” الرواية الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية سنة 1980 (الطبعة الأولى 1978، الطبعة الثانية 2008، الطبعة الثالثة 2018 تحت الطبع)، والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net (طبعاً هذه الصورة ليست للشخصية الحقيقية).