نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 20-4-2024
السنة السابعة عشر
العدد: 6076
(ثلاثية المشى على الصراط)
رواية “الواقعة” [1]
الفصل الثانى:
إمّا أنْ تعودَ… أو: نقتلكْ (2)
……………………….
…………………………
خرجنا من العيادة وأنا أكاد أحس بنظرات زوجتى تلكزنى فى جنبى، وكأنها تلومنى على هذه المصاريف الضائعة، وعلى ضعف احتمالى، وربما ضعف شخصيتى بالمرة.
كدت أنكمش خجلا من نفسى، حاولت أن أصوِّر الأمر على أنه كابوس وسينقضى إن عاجلا أو آجلا، بدأ الصداع الحاد يحل محله ثقل غريب يكاد يقفل عينى، سرت بجوار زوجتى وكأنى منوم أحاول أن أختبئ فى ملابسى عن أعين الناس حتى لا يعرفوا أنى متمارض، أو بى مس من تحت الأرض.
***
أمضى الليل مع الوحوش والثعابين والصقور والحيتان، أصارع الفهد على حافة البحيرة، والزواحف تلتف حولى من كل ناحية، والصقور تأكل جثتى فى منظر آخر، أقوم من النوم فزعا ولكن فى صمت، أنظر إلى وجه زوجتى وأحمد الله أنها نائمة، وأنها لم تكن معى فى تلك الغابة التى زُرِعت فى رأسى فجأة، وامتلأت بكل أنواع الحيوانات والهوام والطيور الجارحة، أحاول أن أنام فلا أستطيع، أذهب إلى زجاجة الدواء وأشرب من فوهتها مباشرة، بلا فائدة، أشعل سيجارة وأحاول أن ألتهم دخانها بتلاحق حتى أصاب بذلك الخدر الذى قد يساعدنى على النوم، أنجح أخيرا فى أن أغفو بعض الوقت، أصوات القطارات تتلاحق فى غير انتظام، تخرج عن قضبانها، تطير فى السماء، تصطدم بطائرة جانبو خطفها أحد الفلسطينيين، يطلّ الأطفال بالأجنحة من نوافذ القطار والطائرة تواصل طيرانها على أرض الجنة، الموسيقى الخاصة تملأ أرجاءها حتى تكاد الأشجار تتمايل معها، الأنهار تجرى من تحتها، ينزع الأطفال أجنحتهم يقفزون إلى أنهار الجنة، آخذ جناحين وأحاول تركيبهما فى ظهرى، أحس أن هذا ممكن، أصفق بهما من خلف مثل الإوز حين يجرى فجأة صائحا فى جماعات دون هدف وهو يخرج من البـِـرْكة، يتناثر رذاذ الماء حول جسدى، أزيد من حركة الجناحين، أطير، يملؤنى الخوف، أتحسس جناحَىّ فلا أجدهما، أبدأ فى السقوط، الرعب من التهشيم يملؤنى، تبتعد الأرض عنى، أتمنى السقوط حتى الموت بدلا من هذا الرعب بلا نهاية، أصرخ أصرخ أصرخ، تهزنى زوجتى، أصحو، أنظر فى عينيها.
- مالـَـك؟
أخاف منها بقدر خوفى من السقوط إلى الأرض، أخجل أن أحكى لها الحلم، إن كان حلما تقول:
- إخز الشيطان وقل بسم الله الرحمن الرحيم.
- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم.
تضع يدها فى رقة على جبهتى، أحس بالراحة لها لأول مرة منذ فترة الخطوبة، أتمنى أن تفهمنى أكثر، ولو قليلا، أرعب من هذه الفكرة، لا … لا، لا ينبغى أن تفهمنى أو أن ترانى من داخل، أنظر فى الساعة: السادسة والربع: الحمد لله جاء النهار وسأذهب إلى عملى، لكن كيف سأعمل؟ رأسى يصبح فارغا حين أفكر فى أشيائى اليومية، ويمتلئ حين أسبح فى دنياى الجديدة المليئة بكل ما لا أعرف، كيف سأذهب إلى عملى اليوم؟ كيف سأراجع الملفات وأرص الفواتير؟ كيف سأقابلهم هذا الصباح وهو ليس مثل كل صباح؟ فيما مضى كان الذى يخفف من هول الصباح أنه مثل كل صباح، أما أن يكون جديدا مختلفا فهذا أمر آخر، هذا صباح يلوِّح بالموت مثلما يلوِّح بالحياة، من الذى سيرجـِّـح الكفة؟ هذه حالة لا تطاق، ماذا جرى لى يارب؟ ما هذا الذى حدث؟ لماذا يتضخم هذا الشىء كلما حاولت أن أستهين به؟ شىء ما قد حدث يا ناس، شىء خطير يهز الدنيا ويفجر البراكين: – القارعة – الزلزال – الحاقة – الواقعة، أى شىء له هذا الوقع الضخم المرعب، بدا بسيطا لا معنى له، ثم ها هو يتضخم كل يوم، انقلبت الأمور أو انعدلت؟ لست أدرى، زادت تعقيدا أم أصبحت أبسط من أن تعقد، أتذكر الأستاذ غريب وعم محفوظ السباك فأهدأ قليلا، الشئ!! هذا الشئ!!! الذى حدث!!! الذى أنا فيه: هو أضخم من كل شئ، دون معالم، ماذا يفيدنى هذا الهدوء الظاهرى؟ ماذا أقول لهم فى العمل؟ أقول لهم إن حرارتى ستة وثمانية؟ أقول لهم إنى ذهبت إلى طبيب أمراض نساء لأنى حامل فى طفل لا يريد أن يتركنى فى حالى؟ أقول لهم إنى نسيت اسمى وأنى أتعرف على الألوان لأول مرة فى حياتى.
ليس لى خيار، عملى هو مصدر رزقى الوحيد، هو فى نفس الوقت المهرب الشرعى من البيت، أذهب إليه حتى لايموت أطفالى جوعا أو أموت أنا اختناقا، “كل شىء تغير، كل شىء تغير”، حقيقة لم يعد فيها جدال حتى لم تعد ترعبنى، لم أعد حريصا على مقاومتها أو رفضها، وعجبت أنى استسلمت هكذا فى خلال هذه المدة القصيرة، ينبغى علىّ أن أبدأ من جديد، أن أتعرف على الأشياء والناس من الأول، ولكن هناك مشاكل عاجلة لا تنتظر، كيف سأقوم بعملى وأنا لا أكاد أتذكر جدول الضرب؟ كيف أكتب المذكرات وأنا أجاهد لأجمع حروف الهجاء لأكوّن كلمة؟ ومع ذلك فأنا لا أملك إلا المحاولة والمواجهة والاستمرار، ياعبء كل شىء عادى، يا عبء كل شىء غير عادى! الهواء له قوام ملموس باليد !! كيف سيدخل إلى صدرى..يا ناس!!؟
فى نفس الركن من الحجرة جلست أمام مكتبى أحاول أن أختبئ منهم حتى لا يظهر علىّ ما بى، أخرجت الملفات ووضعتها بجوارى وأعدت رصها، حاولت أن أقرأ تعابير وجوههم وأنا ألقى عليهم تحية الصباح لأختبر فيها أى انطباع غير عادى، حمدت الله أنى لم ألاحظ شيئا، الغريب أنى تعرفت عليهم هذا الصباح”ككتلة من البشر” مجتمعين بلا تمييز، أنا أعرف اسم كل واحد منهم على حدة، لكننى لا أستطيع أن أذكره وحده، كلما ذكرت اسما لاحقه أو صحبه اسمان، ثلاثة، عشرة، الجميع، وكأن عقلى قد أصبح جهازا من نوع آخر، جهازا يرفض أن يميز بين الناس وبعضهم البعض، يحقق بطريقته الخاصة – وفى وقت واحد – جوهر الدين وهدف الشيوعية، أما عواطفى فإنى أحس أن شيئا ما قد استيقظ منها حتى اختلت كل القيم التى ارتبطت بها، ثم امتد الخلل إلى تضارب أو تناقض ليس له تفسير، فى الوقت الذى تيقنت فيه أنى لم أعد أحب أو أكره أو أحزن أو أفرح مثل زمان، أدركت أنى لم أحب أو أكره أو أفرح زمان أبدا، ماذا حدث؟ ربما اختلف نوع الحب والكره أو هدفهما أو معناهما، أنا الآن أستطيع أن أحب مثلا ولكنى لا أجد من أحبه، وفى أحوال أخرى أخاف أن أحب بهذه الدوافع الجديدة لأنى أحس أنها من نوع آخر، ربما أكثر صراحة وربما أكثر وقاحة، أما كيف ولماذا؟ فهذا ما يكاد يطرحنى أرضا بعد أن يـنهكنى التفكير فى مالا علم لى به.
أستسلم فى النهاية إلى الفراغ بلا قاع.
أحاول ثانية: فأتذكر مشاعرى نحو زميلى أسعد، أو سيادة المدير أو الأستاذ نصحى، فأجدنى متبلدا لا تهز أسماؤهم شعرة فى داخلى.
حين أنظر إلى آمال بجوارى، أجدنى أستطيع أن أعترف بحبها، أعترف لمن؟ هو حب من نوع آخر، كأنى كنت أحبها منذ بدء الخليقة، أو كأنى أحبها هى الآن ولا أحب ما كنت أعرفه عنها، شىء ما تفجر فى داخلى فى هذا الاتجاه أيضا يدفعنى إلى الاقتراب منها دون حساب ولا استئذان، ولا يمنعنى من الاعتراف بحقى فى الرغبة من الاقتراب منها حتى الالتصاق، ليس جنسا على وجه التحديد، لكن له طعم الجنس.
لا أكاد أصدق أن أحدا يمكن أن يتصور هذا التناقض، إما أننى أعيش اللامبالاة بكل برودها وجمودها، وإما أننى أتفجر بالحب والصدق الوقح الذى لا يستبعد الجنس مع امرأة فاضلة ومتزوجة وحامل وفى شهورها الأخيرة، فهمت الآن معنى تعبير “العجب العجاب” !!!!
كل الناس تعرف أشياء أخرى غير الحقيقة التى أعيشها هذه الأيام، كنت مثلهم، وكنت أحس أن حبهم هوالحب، وأن أدبهم هو الأدب، الآن أعيد النظر وأنا فى رعب الوحدة ودهشة الغريب، تأكدت أن شعورى نحو آمال ليس شاذا ولا بشعا، إنه مجرد تفجير شىء موجود منذ عهد سحيق، قبل ذلك كنت أتجنبها وأعاملها بشىء من الجفاء، لم أكن أميز ذلك الشىء المختبئ بين أحشائى نحوها، وإن كنت دائما أخشى نظراتها الثاقبة التى تتخطى حدودك الظاهرة لتستقر بين ضلوعك مباشرة، قبل ذلك كنت أحتمى من هذا الفيض المقتحم بمزيج من الحياء والتبلد والجفاء، يبدو أن هذه النظرات والذبذبات تتراكم على مر السنين، فإذا اختفت المشاعر القديمة انطلقت من عقالها بلا توجيه.
نظرت إليها من وراء الصحيفة، فوجدتنى مثلما كنت زمان، زمان قبل هذا الزمان، كنت قد أيقنت أنى نسيت هذه المشاعر تماما، أو أنها كانت من خداع الطفولة والمراهقة، مشاعر تغمر خلايا جسمى قبل قلبى و عقلى وتدغدغ أعمق أحاسيسى، قد تظهر على سطحها شهوة ما، ولكنها ليست بالضرورة شهوة.
حين فتح الباب المجاور فجأة اختفت كل هذه المشاعر فى جوفى مثلما يغلق التلميذ الصغير دُرجه فجأة على قصة غرامية أثناء دخول والده عليه، لم يبق على وجهى إلا بقايا تقلصات جمدت مكانها من سنين، وإن كانت الآن قد أصبحت عبئا لا أحتمله، ما أسخف أن تشعر بعضلات وجهك أو أن ترصد حركاتها وكأنها تتحرك “بالسرعة البطيئة”.
ما هذا كله؟
أريد أن اختبئ أنا نفسى، تحت المكتب. لم يكف أن أخفى مشاعرى فى الدرج مثل القصة الغرامية، أخشى أن يرانى هؤلاء الناس من حيث لا أدرى، أن يروا مالا أراه أنا مثلا: لست واثقا من حدودى ولا من مداخل ذاتى، مـُلـْقى صريعا بين الامتلاء الغامر والفراغ الدائر إلى أسفل، وبين ما يدور فى رأسى بسرعة خمسة آلاف كيلوسيكل فى الثانية، هذا الفراغ الهلامى الهائل، لا أتبين خيط وجودى.
هل أنا أحب آمال السيدة الفاضلة الزميلة الحامل؟ هل هذا هو الحب؟ هل هناك مخلوق يعرف معنى الحب؟ هل يمكن أن أحب وأنا أعرف أن مشاعرى كلها قد اختفت؟ فإذا لم يكن هذا حبا فماذا أسميه؟ هل لابد من لغة جديدة تنجح فى وصف هذه المشاعر الجديدة؟ ثم: هل هذه المشاعر خاصة بآمال فقط؟ هل أنا أشعر بالتعاطف معها لأنى حامل مثلها؟ أنا أشعر بهذا الطفل غير الشرعى يجوس خلال دروب عقلى فى السر، أما طفلها فوجوده معلن مستقر، أحس بمشاعر مشابهة تجاه أخريات لسن حوامل، وتجاه آخرين أيضا، “أمانى” مثلا، ابنة جارتنا، لمحتها هذا الصباح فى الشرفة فكدت أقفز إليها، ألقى لها بتحية الصباح بشعور مغاير لشعور الأبوة والجيرة، قبل ذلك كنت لا أعير وجودها فى الشرفة اهتماما إلا بقدر اهتمامى ببائع الصحف يجرى فى الشارع، أو قدر الفول على الناصية، حتى مشاعرى تجاه الممثلات تغيرت، سعاد حسنى التى كنت أستثقل دمها حين أراها وكأنها تتحدانى بحيويتها بدأت أتعرف عليها من جديد، بدأت أحس نحوها بهذه المشاعر الحية المقتحمة، فى الأتوبيس غمرتنى نفس المشاعر نحو تلك التى كانت تجلس بجوارى ونحو العجوز التى كانت تمسك بحفيدتها، ونحو حفيدتها، ونحو سائق الأتوبيس، مع كل هذا الفيض الذى لا أعرف اسمه فأنا فى قمة اللامبالاة إذ أننى على يقين من أنى لا أحب ولا أكره مثل زمان.
أنتزع نفسى من بين سطور الصحيفة التى كنت أختبئ وراءها لأفكر فى حرية، أحاول أن أنظر فى وجوه زملائى فلا أجد عليها إلا آثار فول الصباح، أعظم مضاد للتفكير الخلاّق، مالى أنا وما “للتفكير الخلاق”؟ لا أتذكر متى سمعت هذه الكلمة من قبل ولكنى ألاحظ هذه الأيام أن كلمات تقفز إلى ذهنى لم أكن أتصور أنها مرت علىّ فى يوم من الأيام، ربما دخلت إلى عقلى من وراء ظهرى، ثم ها هى ذى تقفز إلى سطحه وكأنها تتحدانى، بل إنى ألاحظ هذا الصباح أن قراءتى للصحيفة اليومية قد اختلفت، فى اللحظات التى استطعت أن أتعرف فيها على الحروف مرة ثانية وأنجح فى تكوين الألفاظ، لم أتمكن من قراءة الأخبار العادية التى كانت تجذبنى قبلا (البخت والإعلانات والوفيات وأخبار الإصلاح الوظيفي) ينجذب نظرى إلى المواضيع التى كنت أضعها تحت بند الكلام الفارغ والضحك على الدقون: “انتحار الفكر الجديد”، “المد الثورى فى العالم الثالث”، “مخاطر المجاعة وانقراض الإنسان”، كانت هذه العناوين تصيبنى بالإعياء، أما الآن..؟!!
ماذا حدث لى دون إذن منى؟
هل أنا أخدع نفسى بالترقى مباشرة إلى “كادر المثقفين” بعد أن تخطانى الإصلاح الوظيفى؟ ما سر صداقتى السرية مع الأستاذ غريب، وفى نفس الوقت مع عم محفوظ السباك؟ ما وجه الشبه بينهما؟ الأستاذ غريب بكل علمه، وفكره، وصمته، وكتبه، وغموضه، وعم محفوظ بكل أمانته، وأمنه، وبساطته، وزهده، وخجله، وأسراره، ثم أنا: عبد السلام المشد، .. حتى اسمى له وقع غريب على، عندما أنجح فى استرجاعه أسارع فأقسـِّـمه إلى أجزاء، عقلى هذه الأيام متناه فى صفاته: إما أن يستقبل كل شىء مع كل شئ، وإما أن يفصل أى شىء عن أى شئ، حتى يكاد يقسم الحرف الواحد إلى قسمين، اسمى يرعبنى حين ينفصل إلى أجزاء عبد ..السـ..لام، ..المشــد: “أنا”، ربما كان هذا هو السبب الذى حال دون تذكرى اسمى أمام تلك المرأة الكالحة ذلك الصباح.
من هو هذا الذى هو “أنا” تحديدا؟
أكاد أقوم من على مكتبى أسألهم من أنا، حتى أتأكد أنى إن لم أكن عبد السلام المشد، فلابد أن أبحث عمن أستطيع أن أقضى به أبسط حاجاتى وألزمها من أول صرف شيك البنك بالمتأخرات حتى شراء تموين السكر والزيت قبل نهاية الشهر.
- الملفات يا أستاذ، .. صباح الخير.
أصاب بالفزع، دخل صوت عم جمعه البسيونى إلى جسمى مباشرة غير مار بأذنى كأنه ناقوس يأتى من عالم آخر يعرض على اختيارا فرعيا “إما أن تعود أو نقتلك”، نظرت إلى بسمته الآمرة وعينيه الواثقتين، وفهمت لماذا يصورون الجلاد معصوب العينين، قلت له على الفور.
- حاضر عينىّ الاثنين، صباح النور
مازلت قادرا على العودة بسرعة لا يلحظها أحد، وبرغم الصداع والتوهان والانفجارات المتلاحقة، يعقبها الصمت الميت، فإننى مازلت قادرا على الاختباء وراء المدعو ” عبد السلام المشد”…
***
لبست قناع اللامبالاة وأخليت رأسى وصدرى وخلاياى من أى إحساس معوق وحاولت الاختباء، بدأت أقلب فى الملفات، واكتشفت أنى أستطيع، لبست نفسى وتركت القلم يتحرك على الأوراق، يجمع هنا ويطرح هناك، ويؤشر على هذه الصفحة ويشطب تلك، وبعد فترة وجدتنى قد انتهيت من هذه الأوراق، وأخذت أقلب فيها وأتعجب كيف قمت بهذا العمل دون أن أعرف حرفا أو رقما، أحسست أن مخى مازال قادرا كما كان، على شرط ألا أضبطه متلبسا بالعمل، إذ ينبغى أن أظل بعيدا عنه ولا أحاول التعرف عليه، ولا إدراك قدراته، حمدت الله أنى أستطيع أن أنسحب بين الحين والحين تاركا ورائى ذلك الجزء الفعال يهيئ فرص كسب العيش، والرد على التحيات الصباحية، وارتداء الملابس وخلعها، وعمل “زى الناس” من أكل وشرب وخلافه، …
إلى متى يدوم هذا الحل,….؟ وماذا لو فشل؟
***
اختفت الرعشة بعد بضعة أيام، وكدت أنظم عملية فض الاشتباك بين أجزائى حتى صرت قادرا على أن أواصل سعيى فى الحياة دون أن يلحظنى أحد، وفيما عدا تلك الأوقات التى تضبطنى فيها زوجتى متلبسا بالتفكير، وفيما عدا الصداع الذى ينتابنى عندما أقابل الأستاذ غريب على السلم، وفيما عدا صعوبة ما قبل النوم مع زوجتى، فيما عدا هذه المشاكل الداخلية !!! كنت أتحايل حتى لا يبدو علىّ شىء ظاهر، وحتى أنجح فى الاستمرار فى الحياة العادية، وكأنى أسرق الأيام والساعات من أصحابها، أو كأن كائنا من كوكب آخر نزل يتخفى فى ثوب إنسان ليجمع المعلومات عن هذه المخلوقات العجيبة التى تسعى فى غرور متناه لإثبات أن هذا العالم البشرى كيان حى له هدف ما.
أصابنى شىء من “الفلسفة التلقائية” التى أضفت على تفكيرى نوعا من الحكمة دون أسباب، ودون جهد، حتى أصبحت أشاهد الناس فى الأتوبيس والشارع والمكتب والبيت يؤدون أدوارهم بإتقان سطحى، وتكرار ضرورى، لزوم غياب المخرج الذى ذهب يبحث عن المؤلف الذى مات فجأة قبل أن يضع نهاية للمسرحية الكبرى، فترك المخرج فى هذا الحرج العظيم، وبدلا من أن يسدل المخرج الستار فى استسلام العاجز الذكى، ركبه العناد وأمر كل واحد أن يستمر فى دوره كما هو حتى يعود المؤلف، وهولم يعد بعد ذلك، ويبدو أنه لن يعود أبدا، الممثلون كل منهم يؤدى دوره، أو يأتى بشبيهه الذى أعده فى ليالى الشتاء أو نشوة إجازة صيف، وقام بتمرينه خلف الكواليس ليكمل نفس الدور بنفس الحركات، الضجة فى الكواليس تعلن مدى الازدحام: فالاطفال الزينة، والطلبة، وصبية الورش، وعيال الفلاحين، يتدربون على الأدوار البديلة ويستعدون للظهور على المسرح فى الوقت المناسب، كل ذلك فى انتظار المخرج الذى ذهب يبحث عن مؤلف مات فى السر قبل أن يتم الرواية.
ما هذه الحكمة التى حطت على دماغ أهلك بدون مناسبة، .. ياسى عبد السلام يا سبع الليل؟ ما أروع اللعبة الجديدة! هى مشاعرى الخاصة والله العظيم دون تأليف ولا خيال، أنا جدع، فـَهـِّيم (هل فـَهـِّيم كلمة عربية؟).
كنت أتعجب وأنا القادم من الكوكب الآخر من هذا الإخلاص الغريب والوفاء الذى يتصف به هذا الكائن البشرى، ولكن بعد أن طالت فرجتى بضعة أسابيع علمت أن المسألة ليست مجرد إخلاص، بل إن أى واحد يتوقف عن أداء دوره أو يحاول أن يسأل المخرج أو ينقد المؤلف لابد أن يُرسل فورا بأمر شيخ الممثلين ليبحث بنفسه عنه، ولا أحد يعرف مصيره لأنه لا يعود أبدا كما كان، حتى لو تاب واستغفر فإنه يعود بشكل آخر يؤدى دورا آخر، دورا ثانويا بمهارة ميتة، وحماسة فاترة، وخوف أكبر، ونظام أدق، وكل همه ألا يرسلوه ثانية إلى الخارج، .. ليبحث عن شىء لا يعرفه.
خطر ببالى بلا مناسبة أن المخرج اسمه: “حسن”، “أين حسن”؟ سخيفة.
أما أنا، فقد تعلمت بعدما جرى الذى جرى أن أرسل شبيهى الانسان يؤدى دورى على المسرح بعض الوقت مما أتاح لى أن أجلس أغلب الوقت فى مقاعد المتفرجين لابسا طاقية الإخفاء، كم كنت أتعجب منه وأعجب به وأنا أتساءل: لماذا لا أصبح إنسانا مثلهم ما دام شبيهى الانسان شاطرا هذه الشطارة؟.
ماذا لو اكتشفونى؟ لا بد أن يظنوا أنى أتيت للتجسس عليهم لصالح مواطنى من الكواكب الأخرى، أتذكر نظرات عم جمعه البسيونى وهى تهددنى: “إما أن تعود أو نقتلك، إما أن تعود أو نقتلك”، أخاف، أتبين أنه لا يستطيع أن يميز بينى وبينه، أحسن، هكذا سمحت لى أن أتظاهر بالعودة حين اهتديت إلى هذا الحل السرى المتجسـس.
أنجح فى معظم الأوقات أن أستمر راسما على وجهى الآخر بسمة الناقد الذى يتظاهر بالفهم، وأفشل أحيانا فى خداع نفسى حتى تساورنى رغبة غبية فى الذهاب للبحث عن المخرج، ورغبة أغبى فى البحث عن المؤلف، ربما تكون إشاعة موته خدعة ليس إلا، وأحيانا أخرى يبلغ غبائى أن أحاول أن أضع نهاية لهذه المسرحية، أو أن أقوم أنا شخصيا بدور المخرج الهارب الجبان الذى تركنا دون ضابط ولا نص، أو أن أكمل المسرحية وأضع النهاية بنفسى.
****
…………..
…………..
ونواصل الأسبوع القادم مع بقية الفصل الثانى “إمّا أنْ تعودَ… أو: نقتلكْ”
ــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى: رواية “الواقعة” الجزء الأول من “ثلاثية المشى على الصراط” الرواية الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية سنة 1980 (الطبعة الأولى 1977، الطبعة الثانية 2005، الطبعة الثالثة 2019) والرواية متاحة فى مكتبة الأنجلو المصرية بالقاهرة وفى منفذ مستشفى د. الرخاوى للصحة النفسية وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية الرخاوى – المقطم – القاهرة.