نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 6-4-2024
السنة السابعة عشر
العدد: 6062
ثلاثية المشى على الصراط
الجزء الأول: رواية “الواقعة” [1]
الفصل الأول
فى البدء كان الكلمة
-1-
– الاسم يا سيد؟!
قالتها تلك المرأة القابعة وراء الشباك للواقف فى أول الصف، شىء عادى تماما، إذ لابد أن لكل واحد منا اسم، ولابد أنْ نـُسْأل عنه إذا كان غيرنا لا يعرفه، ولكن فى ذلك اليوم لاحت علامات الساعة من خلال هذه الكلمة العابرة “الاسم يا سيد”.
الصف الطويل ينتظر، الموظفة المتلكئة وراء النافذة تراجع الأوراق وتحدث جارتها بين الحين والحين، وكأنهما يتناقشان فى شيء ذى بال، شعرها معقوص للخلف ووجهها خال من أى تعبير خاص، مليء بحبوب متناثرة، لا هى حب الشباب ولا هى “نمش” الشيخوخة، ليس لبشرتها لون، وإن كان الناس قد اعتادوا أن يقولوا عن مثيلاتها “سمراء”،لكنها فى هذه اللحظة كانت بلا لون، أو قل كانت بلون الأرض قبل بدء الخليقة، أو لون الموت، إن كان للموت لون، ولكن لا يمكن أن أنفى أنه كان لها لون فى يوم من الأيام.
طال الانتظار، الصف يتحرك ببطء شديد، قوة تجذبنى إلى الخلف حتى حسبت أن الواقف ورائى يشدنى من قفاى، تلفت حولى فإذا بينى وبينه حاجز طبيعى متكور دفع بنصف جذعه للوراء، شئ يطمئن، قفاى ليس فى متناول يده، رجعت أنظر إلى المرأة معقوصة الشعر، خيل إلى أنها تدبر مكيدة يفنى بها العالم حتى تتخلص من عملها هذا، طردت هذه الأفكار التى كانت تراودنى بين الحين والحين، وكنت اعتبرها من قبيل الفكاهة، ولكنها بدت اليوم وكأنها عين الجد، الوقت يمر ببطء، بالأمس كان عندى ذلك السباك الطيب، كان هادئا وديعا مستغرقا فى عمله وهو يصلح الصنبور، عمل تافه ولكنه كان يؤديه بعناية وإتقان وكأنه يصلح أحوال الكون، وجهه رائق يشع نورا لا تعرف طبيعته أو مصدره، يخرج بعد الإصلاح وكأنه يتسحب خوفا من أن يضبطه أحد فيرغمه على أخذ حق الإصلاح، لحقت به عند الباب فى آخر لحظة ومددت يدى بما قسم، نظر إلى الأرض قائلا:
- لزومه إيه يابيه؟
- حقك ياعم محفوظ
- الحق عند الله
أغاظنى هذا الرجل غير المحتاج إلى شيء، ستة أولاد، الأسعار نار والعمل بسيط والأجر زهيد، ثم ينسحب خجلا من المطالبة بأجره، شئ يغيظ بحق، من أين له بكل هذه السكينة والرضا؟ من أين له بثمن الخبز إذا هو لم يتقاض منى ومن أمثالى أجره؟ هذا شئ سخيف لا أفهمه،
صور الأمس تواصل ملاحقتى: يحضر جارنا الأستاذ غريب بعد خروج عم محفوظ السباك مباشرة، إنسانٌٌ يعيش فى عالم سحرى هو الآخر، يبدو عليه الاهتمام المستمر بشيء ذى بال، أحيانا استطيع أن أفهم اهتمامه بحرب فيتنام ومجاعة بنجلادش، وأحيانا لا أدرى ماذا يفعل بهذا الاهتمام، أعتبره من هواة النكد، لا يكاد يعرف كم قرشا يقبض آخر الشهر، نظراته جادة وذكية وحزينة فى نفس الوقت، أحس فيها بإشفاق شديد خال من الاحتقار فى معظم الأحيان،
أحيانا، أبادله نظرة عدم مبالاة تحمينى من اختراق عينيه، هذا الإنسان الذاهل يحاول أن يستدرجنى إلى شيء لا أعرفه، شيء لست فى حاجة إليه، لا، ..لن يحدث “ذلك” مهما (“ذلك” الذى لا أعرفه لكن يبدو أنه سر الوجود)، ومع كل هذا حاولت أن أتلطف معه أمس، بلا مناسبة – بعد انتهاء المكالمة الهاتفية، دعوته برغبة حائرة،
- إجلس يا أستاذ “غريب”.. تفضل، استرح.
- أخشى أن أضيع وقتك،
ماذا فى رأس ذلك المتوحش؟ فيم أضيع وقتى إن لم يكن فى الجلوس معه ومع أمثاله، لا ليس مع أمثاله، مع أمثالى أنا، قلت:
- بالعكس، كيف حالك؟
نظر إلىّ نظرة ما، هذه نظرة لا أقبلها، لن أسكت على هذا الوغد، إن كان يحتقرنى إلى هذا الحد فلابد أن أبدو فى غاية السعادة، هو الذى يحتاجنى. عندى تليفون وليس عنده حتى جرس للباب، لم يهتم أن يصلحه منذ فسد، إنه يحضر عندى لتلقى المكالمات فى منزلى علما بأنى لست مضطرا لاستقباله، أنا “أنجح” منه و”أسعد”.
قطع علىّ أفكارى:
- الإنسان مقهور أكثر من طاقته،
يا نهار أسود، أساله عن حاله فيقول إن الإنسان مقهور، ما أغبانى إذ أفتح الحديث مع مثل هذا المتوحش الأبله، إما أنه لايفهم معنى الكلام أو أنه يستهين بى وبترحيبى وبحديثى من حيث المبدأ، ومع ذلك سوف أريه:
- عندنا قهوة بيتى، وهى من مزايا الزواج، تشربها على الريحة أم مضبوطة،
سوف أعدد له كل المزايا التى أتمتع بها زيادة عنه قبل أن يخرج،
- شكرا، أفضل الانصراف،
قالها وهمّ بالاتجاه إلى الباب، فزاد إصرارى على الحديث معه وكأنى على وشك الانتصار،
- لايمكن، ما رأيتك من زمان،
أطرق إلى الأرض وكأنه يفكر فى حل مشكلة الحدود الصينية السوفيتية،
- هل حقا تريد رؤيتى؟
ترددت فى الإجابة لأنى لا أريد رؤيته إذا كان ذلك ممكنا، ولكن طالما هو كائن حى له جسم يتحرك فى الشقة المقابلة فلابد من رؤيته حسب القوانين الطبيعية لبقاء المادة، أنا لا أطيق وجوده أصلا، ينبغى أن يبادَ هذا الصنف من البشر من على ظهر الأرض، أولئك الناس الذين لا ينظرون إلى وجهك، تحس بنظراتهم تثقب أحشاءك مباشرة، ليسوا منا، يتصورون أنهم هم الذين يعيشون وغيرهم فى عداد الأموات، يتلطفون معنا ليستعملونا “كأشياء” ليس إلا، ثم هم لا يتركونا فى حالنا، سوف أحطم هذا المتوحش.
- طبعا، الناس لبعضهم
هيه! أفحمته حتى يعرف أنى أعرف انتهازيته، وأجامله بمحض اختيارى، وكفى تظاهـُـرًا بالزهد تبريرا للعجز، قال على غير توقع:
- وكيف حالك أنت؟
حالى؟ أنا أسأله لأنه مسكين وغامض ووحيد، أما حالى أنا فهو ظاهر للعيان، من الذكاء أن أرد عليه فورا “الحمد لله” حتى لا يظن بى الظنون، فى نظراته صدق غريب حنون وكأنه يسألنى عن حالى فعلا- تعودت أن أسمع هذا السؤال للمجاملة وقطع الوقت، أما أن يكون سؤالا ذا معنى وراءه اهتمام جاد فهذا مالا يمكن السكوت عليه، ماله هو ومال حالى؟ هل يريد أن يتأكد أنى ميت؟ وهو الذى لا يعرف للحياة طعما، هو لم يغيـّـر سترته منذ ست سنوات بالتمام، ماله حالى؟ أليس عنده نظر؟ ألم ير قماش “الأنتريه” الجديد؟ ماذا يريد على وجه التحديد؟
طال سكوتى أكثر مما ينبغى، لابد أن أرد عليه بشجاعة حقيقية، لابد أن أقول له إن تليفونى ليس تحت أمره بعد الآن، لابد أن يعرف حدوده، وأن حالى هو هذا المنزل السعيد وهذا التليفون وهذا” الأنتريه”، أما غير ذلك فهو خارج عن اختصاصه، لابد أن يلزم حدوده وإذا كان يريد أن يتلقى المكالمات عندى فليعرف أن هذا وحده نتيجة أن حالى عال العال، حالى مثل حاله على أقل الفروض، سأقولها له وما يكون يكون، لابد أن يشعر بفشله حتى يكف عن اقتحام الناس، هاك ردى بكل جسارة:
- الحمد لله
لم يرد هذا المتوحش، ظل ناظرا إلى الأرض فى تفكير عميق، ليس فى الدنيا ما يحتاج لكل هذا التفكير، كل شيء عنده مختلف، هل يشك فى إجابتى؟ لا يصدق أن حالى على ما يرام، لماذا لا يعلن ما بنفسه حتى أرد عليه؟ جبان، سوف أحتفظ برأيى فيه حتى أستدرجه، لماذا يحتفظ لنفسه بحق الحكم على الناس؟ إنه هو الذى لا يعرف شيئا إلا من خلال كتبه، سخيف تافه يعيش على الهامش، مغرور يتصور أنه يستطيع أن يعدّل الكون، عاجز غبى، لن يدخل بيتى بعد اليوم – يرتشف القهوة فى شماتة وكأنه وحده الذى يعرف طعمها – يدير الفنجان ببطء ويتأمله كأنه لم ير مثله من قبل، جار سمج، لعن الله اليوم الذى جعله جاراً لى – ينظر إلى ثانية - وكأنه لا يصدق شيئا لا يعرفه، ماله بى؟
قام فى هدوء ومد يده مصافحا – يبستم، أكاد أبصق فى وجهه، أكشر عن أسنانى أردّ له ابتسامته الحانية فى غضب، لست فى حاجة إلى شفقته المهينة، قال قبل أن يغادر الشقة:
- شكرا
- تحت أمرك
انتبهت على صوت المرأة ذات الشعر المعقوص والبشرة بلا ألوان:
- الإيصال باسم من؟
من؟ باسمى طبعا، كان ينبغى أن أستعد أثناء تحرك الطابور حتى لا تحدث المفاجأة، صحت فى تعجب
- باسمى طبعا
ارتفع حاجباها باشمئزاز ضَجِر
- ليس هذا مجال العبث يا أستاذ، إلزم حدودك أو أفسح الطريق لمن بعدك.
أخذت أحاول أن أنطق باسمى حتى ينتهى هذا الموقف ولكن كل شيء كان قد انتهى فعلا، كنت عائدا لتوى من التحدّى الذى فرضه علىّ جارى دون استئذان، نظرت إليها فى احتجاج وكأنى أرد على جارى ”غريب”: هل أنت أيتها الجثة الهامدة، هل أنت أيضا؟ تسأليننى عن اسمى وكأنك تشكين فى وجودى، أليست الأوراق أمامك؟
- أستاذ…، الناس وراءها مصالح
اكتشفت أنى لم أقدم لها الأوراق، ولكنها تسألنى عن هويتى، تشك فىّ، طال صمتى وكدت أعجز حتى عن الحركة.
- أرجوك يا سيد ماذا تنتظر؟
مرة ثانية تسمع صوتها أذناى، لكزنى الواقف ورائى متعجلا، انتقل بصرى بينه وبينها، عيناه تتهمانى أيضا، أحسست بالعرق ينساب على وجهى، أكاد أبصر حبات العرق على جبهتى، كل حبة مثل حرف من حروف الهجاء، أحاول أن أجمع الحروف لأكوّن اسمى بجهد بالغ، أكاد أنجح ، ولكنى لا أتذكر على وجه التحديد لماذا جئت إلى هذا المكان، وقبل حدوث مالا يحمد عقباه، تركت الصف فى صمت ووليت هاربا، ماذا جرى؟
خرجت إلى الشارع، رأسى خالٍ تماما، أخذت أنظر إلى المارة وكأنى أراهم لأول مرة، هؤلاء الناس: أين كانوا قبل اليوم؟ من أين جاءوا؟ أشكالهم تبعث على التساؤل، لكل منهم عينان اثنتان، لماذا لا يستعمل أى منهم ولو عينا واحدة؟ إذن لرأوا بعضهم البعض غالبا مثلما يرى غريب قدح القهوة، الآن، أكاد أتعرف عليه، أكاد أفهمه، وعم محفوظ أيضا، أصبح فجأة مفهوما لدىّ، لعلى ولجت باب المجهول بلا استئذان، ماذا حدث؟ من أين تأتى تلك الرؤية الجديدة؟ رجعت أنظر إلى وجوه الناس رغم أنى لا أكاد أعرف أيا منهم إلا أنى أعرفهم واحدا واحدا، أصبح لكل منهم لون حقيقى يختلف عن لون الآخر، تذكرت المرأة المعقوصة الشعر بلا لون، لو رجعت لها الآن لعرفت أن لون بشرتها مثلا هو 5734 / 9 أو أى رقم آخر، لكنه رقم محدد، لكل إنسان لون خاص به يمكن أن يوضع فى فاتورة البشر، هناك درجات من اللون الأسمر ومن كل لون، خضرة الشجر ليست كخضرة الحشيش ليست كخضرة أرقام سيارات الدبلوماسيين، هذا شيء رائع: أن يكون لكل شيء لون، ولكن أين اختفت الألوان قبل ذلك؟ أين كنت أنا طوال هذه السنين؟ أحس برغبة هائلة فى الجرى إلى المنزل حتى أسأل الأستاذ غريب عن حقيقة ما هو فيه، وهل هناك شبه بين ما حدث لى وبين موقفه الغامض؟.
ولكن ماذا حدث لى؟ رأسى الذى كان متصلبا فارغا بدأ يمتليء بكل ثروة الحياة، جمادها وأحيائها، الوحوش وطيور الزينة فيها جنبا إلى جنب، أكاد أطير إلى هناك، ولكنى هنا بينهم لابد أن أتعرف عليهم أولا. تقدمت إلى أحدهم لأسأله نفس السؤال الذى سألتنيه تلك المرأة، من أنت؟ أنت تعيش باسم من؟ الاسم يا سيد”؟ الإيصال باسم من؟ قلت فى نفسى إذا تعرف هو على نفسه فلابد أننى أستطيع التعرف على نفسى، كيف؟ لست أدرى. ولكنى أستطيع تأكيد هذه المعادلة السهلة دون حاجة إلى برهان: لو أن واحدا فى هذه اللحظة عرف من هو، فلسوف أعرف أنا – أيضا – من أنا،
تقدمت إليه، ربتُ على كتفه فى رقة، فالتفت إلىّ فى هدوء، قلت فورا:
- كم الساعة من فضلك؟
- آسف ليست معى ساعة
- شكرا
الحمد لله، انتهى الموقف بسلام، حصلتُ على الإجابة بطريقة أسهل، ليس ضروريا أن يحمل أحدهم ساعة ما دام الآخرون يحملون ساعات، ولكن هل الذى يحمل ساعة يعرف “من هو”؟ لابد من تكملة البحث، تقدمت إلى آخر بعد أن تأكدت من وجود الساعة فى معصمه، احتك كتفى بكتفه، نظر إلىّ نظرة بين التساؤل والاحتجاج، نظرت إليه نظرة اعتذار، ومضيت مرتاحا وكأنى حصلت على الجواب.
حتى الذين يحملون ساعات، لا يعرفون من هم!!.
ربما كان سر الوجود، حتى تسير هذه الجموع بهذه الصورة بالغة النظام بالغة التعقيد والاضطراب – ألاّ يعرف أحد “من هو؟”، إذ ماذا يكون الحال لو حاول كل منا أن يعرف من هو؟ سوف تتوقف الحركة مثلما توقف عقلى أمام تلك المرأة منذ قليل، لا، ..ليس ضروريا أن يعرف أحد شيئا، ولابد أن هذه المرأة لم تقصد شيئا جادا، سوف أرجع لها بأوراقى لأثبت لها أن سؤالها هو الجواب ذاته، سوف أجيب عليها مثلما فعلت قبل ذلك آلاف المرات، وبمجرد أن أجيب، سوف يسقط السؤال.
ما هذه الدوامة التى تدور فى ذهنى؟ إن ما يزعجنى أنها بالنسبة لى بالغة البساطة والوضوح، .. ومع ذلك! لقد اهتديت أخيرا إلى الحل: “الناس يجيبون على أسئلة بعضهم البعض حتى يثبت أن هذه الأسئلة ليس لها إجابة، ذلك أنهم لو حاولوا أن يجيبوا على الأسئلة المطروحة فى كل لحظة بجدية حقيقية لاختل توازن الكون، أو توقفت العجلة مثلما حدث هذا الصباح، أو قد يعم الشذوذ مثلما يعيش الأستاذ غريب، أو ربما جاعوا مثلما أخاف على عائلة عم محفوظ السباك.
يبدو أن ما أصابنى اليوم سوف يهدينى إلى فكرة جديدة أحل بها مشكلة الوجود،
”لابد من الإجابة “فورا” على كل سؤال، حتى لا نضطر إلى البحث فعلا عن إجابة له”!
ما أسهل هذا الكلام رغم أنى لا أجرؤ أن أقوله لأحد خشية أن يتوقف نهائيا عن الأسئلة والأجوبة فيموت، أو يـُـبعث من جديد، يا حلاوة أصبحت فيلسوفا بقدرة قادر، وسر موظفة الشباك!
ما هذا الكلام الفارغ؟
****
رجعت إلى الموظفة وراء الشباك، حاولت أن أتبين لونها هذه المرة، أخذت أبحث عن موقعها فى خريطة العالم التى احتلت مخى فجأة، فاكتشفت أنها تعيش فى الصحراء الكبرى وقد اكتسبت لونها من الأعشاب الجافة والرمال الساخنة المختلطة ببقايا زيوت متناثرة من حفار شركة أمريكية تبحث عن البترول ولم تجده، ما أروع ما حدث اليوم، بعد أن كانت المرأة بلا لون أصبحت الصورة بالألوان الطبيعية: كالحة، جافة، لزجة فى نفس الوقت، الحمد لله، الآن تتضح الأمور.
لم يبق فى الصف إلا اثنان، خشيت أن تتذكر وجهى. طأطأت رأسى ناظرا إلى الأرض حتى لا ترى عينى، أسعدنى أنها كانت تدفن رأسها هى الأخرى فى الأوراق.
رفعت رأسى حين خطر ببالى أنها لا يمكن أن تتذكر وجهى لأنى ساعتها لم يكن لى وجه، فقدمت لها الإنذار.
- أنا عبد السلام المشد، أريد أن أدفع إيصال النور قبل أن يقطع عنى…
قلتها بصوت مرتفع وسريع وكأنى أستظهر آية فى حصة الدين، لم أنظر حوالى لأرى وقع ألفاظى على من حولى، لايهم، المرأة لم تنزعج، أخذت الورقة فى صمت ووضعتها على جانب، أخرجت رزمة من الإيصالات، بحثت عن اسمى، ذكرت رقما ما من النقود، أخرجت ما معى، أخذت الإيصال، لم أنتظر حتى آخذ الباقى، بضعة قروش فى داهية، وأهرب أنا بجلدى، لم تستوقفنى المرأة حتى آخذ الباقى، عادة جديدة فى حضارتنا المعاصرة لإصلاح الكادر الوظيفى بالحلول الذاتية.
***
هربت إلى الشارع، لم أحاول أن أدقق النظر هذه المرة فى وجوه الناس، لهم عينان أو أربع وأربعون .. مالى أنا، أحاول أن أوقف هذا الشيء الذى حدث بالإنكار والإهمال والتفكير فى أى شئ آخر، مصاريف المدارس للأولاد مطلوبة، سوف أغير التليفزيون، عندى قطعتا صوف وارد الخارج سوف أذهب إلى الخياط لحياكة إحداهما،لابد أن أعود فورا، رأسى تكاد تنفجر، تضطرب بين الامتلاء بالطبيعة والصخور والمحيطات وخريطة العالم، ثم الفراغ حتى من نسمة هواء جافة، أين المهرب؟
اقتربت من المنزل وقد ملأنى الخوف من الدخول “هكذا”، خائفٌ أن يُكتشف أمرى، كدت أدق جرس غريب بدلا من جرس شقتى، تذكرت أن جرسه معطل، خيل إلى أن هذا سبب كاف للعدول عن الذهاب إليه، اقتربت أكثر فسمعت صياح زوجتى فى ابنتى “أخسر دينى إذا لم أقل له”، تخسر دينها أو تكسبه، مالى أنا؟ أنا لا أعرف ردا عليها فى الأحوال العادية فما هو الرد الآن؟ إذا كنت قد عجزت عن الرد على سؤال الموظفة عن اسمى، فكيف أرد على ما ينتظرنى من شكاوى وطلبات وتساؤلات؟ أسترجع ردودى زمان وأحاول أن أحفظ بعضا منها مما يصلح لكل المواقف، ربما أنجح كما نجحت فى أن أحفظ اسمى منذ قليل،
صوت أقدام على السلم، حدسى يقول لى إنه “هو”، أتلكأ فى دق جرس بابنا، يقترب وقع الأقدام، أخاف أن أنظر إلى خلف خشية أن يكون “هو” أو ألا يكون “هو” فى نفس اللحظة، لأول مرة أتبين أن الخوف خوفان (على الأقل)، بل إن مصدره من داخلى مختلف: كنت أنتظر الأستاذ غريب مثل الطفل الذى سيأتنس بأخيه الأكبر، وكنت أخاف ألا يأتى فيتركنى وحيدا فى يدى زوجتى التى كادت تخسر دينها منذ لحظات إن لم تقل لى ماذا فعلت ابنتى. كنت فى نفس الوقت أحاول أن أتجنب لقاءه حتى لا يعاقبنى على فعلة لم أفعلها، اقتربت الأقدام أكثر، هو فعلا الأستاذ غريب، حيانى بهمهمة لم أسمعها، أخرج مفتاح شقته وأدخله فى ثقبه وأداره فى هدوء، دخل من الباب، قبل أن يغلقه نظر إلى وجهى وابتسم ابتسامة عادية لم تكتمل، يبدو أنه لاحظ شيئا فى وقفتى أمام الباب، تردد قليلا حتى تأكد من وجود أصوات الأولاد بالداخل فأقفل الباب فى هدوء، كاد يسألنى “مالك” قبل أن يحكم إغلاق الباب، ليته فعل، الحمد لله أنه لم يفعل، أصابنى شعور غامر بالكراهية تجاهه حتى كدت أناديه لأقول له إنى ألعن اليوم الذى اصطبحت فيه بخلقته، هذا التناقض الهائل جعلنى أدرك أنه كما أن هناك خوفين فهناك كراهيتان وحبان وصدقان وكذبان، .. هناك دائما اثنان على الأقل.
هل هذا هو الجنون؟
لا، أنـا مازلت أعرف الأيام والساعات والطريق إلى بيتى وأسماء أولادى، إذن فهى الفلسفة، يبدو أن فلسفة هذه الأيام تـُـعـْـدى مثل الانفلونزا والتيفود، ولابد أنى أخذت العدوى من الأستاذ غريب، هذا هو جزاء مساعدة الناس، نفتح لهم بيوتنا، ويستعملون أشياءنا، ولا نأخذ منهم إلا العدوى بالأفكار الهدامة التى تشبه الفلسفة، حتى ولو لم يتكلموا حرفا واحدا.
دققت الجرس ودخلت، انهارت على لكمات الأطفال من كل جانب، ملت إلى زر الكهرباء لأتأكد أن النور لم يقطع بعد، اطمأننت أن مهمتى الصباحية قد تمت بنجاح فى الوقت المناسب وأن الحكومة لن تتدخل فى شئونى الخاصة، كنت أهرب من محاولتى أن أفهم أى شيء مما يدور حولى حتى لا أفشل فشلى السابق، كان بصرى أحدّ من أذنى، أخذت أنظر إلى حركة الشفاه المفتوحة المنغلقة تصدر منها أصوات عالية كالكلمات، تعجبت لهذه القدرات الفريدة التى تتمتع بها هذه الحيوانات الناطقة، قلت بضع همهمات ملخصها أن” بعدين بعدين”. أى شئ يمكن أن يتم فيما بعد، حتى بعد أن حدث ما حدث، فإنى على يقين من أن شيئا ما سيتم فيما بعد،
جاء صوت زوجتى من الداخل:
- مين يا بت؟
جمعت كل قوتى القديمة ومررت عليها أمام المكنة وأبلغتها أنى دفعت النور، لم ترفع بصرها من على طيات القماش وحركة الإبرة، حيث كانت الطيات فى وضع حرج، وكانت الإبرة صاعدة هابطة فى نشاط وثقة تلم شمل الطيتين، أحسست أنى فى أشد الحاجة إلى مثل هذه الحركة، شيئان فى داخلى انفصلا عن بعضهما البعض، أريد أحدا يمسكنى “منهما معا” يلم أطرافهما على بعضهما البعض، يغرز فيهما هذا المثقاب الواثق النشط، ذا الخيط المتين، ويا حبذا لو كان سلكا من الصلب يضمنى إلى بعضى حتى أعود “واحدا” كما كنت، لكن: هل كنت واحدا أبدا؟ إذن فلماذا لم أذكر اسمى فورا عندما سئلت عن هذا الواحد؟ ومن الذى كان يخاف الأستاذ غريب ويتعجب من عم محفوظ؟ كيف يحدث ما حدث؟ أحاول أن أنسى فلا أستطيع، إما أن أعرف من “أنا” ومن “هو”؟ وإما أن أبحث عن ورشة تحكم ربط أجزائى بعضها إلى بعض، أخبرت زوجتى أنى سأدخل لأرتاح قليلا.
دخلت حجرتى، طالعتنى المرآة بالرغم منى، شىء أصفر صفرة الموت، يقبع بين كتفى اسمه رأسى، ليس رأسى أنا، ازددت هلعا، أخذت أزدرد ريقى وأحاول أن أبتعد عن المرآة تماما، كدت أتناول أقرب شىء صلب أحطمها به، تمالكت نفسى فى آخر لحظة، مازال بى شىء عاقل يحسب العواقب، كلما ظهر هذا الشئ العاقل زاد الصداع فى رأسى، أكاد أتمزق، لم يهدئنى فنجان القهوة السادة، والأسبرين لم يعفنى من الصداع.
حاولت أن أنام، أن أذهب إلى الأستاذ غريبا، أن أصحو، أن أقرأ صحيفة اليوم، لم أستطع أيا من ذلك،
دخلت تحت الغطاء وإذا بجسمى ينتفض وكأن به حمى، لم أسمع فى حياتى أن كلمة عابرة من موظفة أمام شباك إيصالات النور تقلب إنسانا عاليه سافله مثلما فعلت فىّ تلك الكلمة، هل أصبت بالحمى؟ ترى هل كانت الحمى بأحشائى منذ زمن ولم أتبينها إلا هذا الصباح أمام هذه المرأة وراء ذلك الشباك؟ وما علاقة الحمى بالفلسفة؟ هل هذا هو التخريف الذى يصحب الحرارة أم أن هناك فلسفة باردة وفلسفة ساخنة تماما مثلما هناك المسقعة الباردة والبليلة الساخنة؟ هل هذا مجال السخرية والقفشات؟ الرعشة تزداد وزوجتى تدخل علىّ لترانى فى هذه الحال؟ أخاف من شىء مجهول، تضع يدها على جبهتى ورائحة المطبخ مازالت تفوح منها، شوَّحت بيدها فى طمأنينة أو فى استخفاف قائلة إننى بارد كالثلج، وبرغم نظرات الرفض المصاحبة فقد كان فى عينيها خوف ما، ولمـّـا أكدت لها أنى أرتجف بالرغم منى بدت وكأنها على وشك أن يداعبها اهتمام نسبى.
لو أن الأمر انتهى بعد كل هذه المغامرة إلى مشكلة طبية لأصبحت أسعد الناس، عرضت عليها الفكرة، اتجهتْ نحو الصيوان تستشيره فى إمكان استشارة الطبيب، فتحت درجا يتوقف محتواه على السماح بمثل هذه الرفاهية من عدمه (الذهاب إلى الطبيب عندنا لا يعتمد فقط على درجة المرض المتقلبة)، انفرجت أسارير زوجتى إذ يبدو أن الدرج كان يحوى بقايا “جمعية” قبضتها منذ أيام مما يسمح بأن أذهب للطبيب لمعرفة طبيعة هذه الحمى الخبيثة التى أصابتنى إثر “كلمة عابرة” ذات صباح.
****
ونواصل الأسبوع القادم مع الفصل الثانى “إمّا أنْ تعودَ… أو: نقتلكْ”
ــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى: رواية “الواقعة” الجزء الأول من “ثلاثية المشى على الصراط” الرواية الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية سنة 1980 (الطبعة الأولى 1977، الطبعة الثانية 2005، الطبعة الثالثة 2019) والرواية متاحة فى مكتبة الأنجلو المصرية بالقاهرة وفى منفذ مستشفى د. الرخاوى للصحة النفسية وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية الرخاوى – المقطم – القاهرة.