نشرة الإنسان والتطور
الخميس: 18-8-2022
السنة الخامسة عشر
العدد: 5465
تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية (نجيب محفوظ) [1]
وهكذا نواصل نشر “الأصداء” مع “أصداء الأصداء”
بقلم: “يحيى الرخاوى” واحدة واحدة (87)
الفصل الثانى
فى مقام الحيرة، والدنيا تضرب تقلب!!
الأصداء
87 – الرحلة
”بقضاء لا راد له حملنى الإذعان إلى أرض الغربة. وعلمت أن الواقعة آتية لاريب فيها، غدا أو بعد غد. إنتظر قليلا ولا تتعجل المجهول”. “وقال الطيبون: لا تخف فقد سبقناك فى نفس الطريق”، “تنبسط أمامى حديقة مترعة بالحسن، وتذهب الفاتنات وتجيء” “ودعيت للغناء ولكننى شغلت بالخواطر والهواجس”. “وانتزعت حواسى لاجتياز الغابة الدامية “. “لم يبق لى منها إلا ذكريات أشباح وأصداء كوابيس خانقة، وأثر باق لمعركة طاحنة”. “وقالوا: أن لك التجوال فى رياض الشمال ولكن قلبى نازعنى إلى الملعب بين السبيل والتكية”، “وصلت وأنا الهث”. “الوجه والإهاب والنظر، كل شىء تغير، وتلقانى الأحبة ومن حولهم ترامى الجليل بهوائه وضجيجه”، وقال لى قلبى: “استقر فى ظله وليحفظه الصمد”.
أصداء الأصداء
الرحلة هنا صعبة حقا، متداخلة ومكثفة ودائرية ومفتوحة النهاية، قصيدة أخرى، بل ملحمة ذات أحداث وأبطال وبآس ومواعظ، بل أكثر من ذلك وأعمق، ليكن، فلا مفر من القراءة بأناة متفتحة : تحملنى القراءة إلى حتم الرؤية، فأجمع أولا الأبجدية الأساسية لأضعها علامات (غامضة حتما) على مسار الرحلة، ومن هذه الأبجدية: الغربة، الواقعة، المجهول، الطريق، الغابة، السبيل، التكية، الجليل. وإلى درجة أقل: المعركة، الأشباح، الكوابيس والملعب، المجموعة الأولى أبجدية نجدها فى أعمال محفوظ الأخرى أكثر مما نجد المجموعة الثانية، لكنها جميعا من المعجم المحفوظى.
لا مجال هنا ولا يمكن ولا يصح أن تختزل هذه الفقرة إلى رموز محددة كأن تقول: إن الواقعة هى يوم القيامة، أو: إن الغابة الدامية هى الحياة الدنيا بمعاركها الصاخبة، أو: إن الحديقة المترعة بالحسن، هى الجنة إلى آخر مثل ذلك، مع أن كل هذا وارد بدرجة أو بأخرى، إذن ما العمل؟ وكيف القراءة؟
فكرت أن أكتفى بإعلان هذا القدر من الحيرة وأترك هذه الفقرة (ومثلها) للقاريء حتى لا أفرض عليه شطحات قد تزيد الأمر غموضا أو تقلب العمق تسطيحا رغم حسن النية، ولم أنجح أن أستجيب لهذا الخاطر خشية أن يتمادى بى الحال فأفتح بابا لهرب يوقف تمادى هذه المخاطرة التى أو اصلها فى محاولة التقاسيم على الأصداء:
أما أنها آتية لا ريب فيها فهى آتية لا ريب فيها، والإذعان لذلك لا ينهى المسألة، بل يبدأها، والسابقون يطمئِنُون اللاحقين دون تفاصيل، ربما يطمئنونهم بأنهم لا يمكنهم أن يحكوا عن خبرتهم أبدا، ورغم وضوح التلويح بالحديقة المترعة بالحسن المليئة بالفاتنات، فإنه لم يجد ذلك جديرا بـِحثـِّـه على الانهماك فى الوعود، وظل حبيس الكوابيس والأشباح، ومع كل هذا الإنهاك – باللغة السائدة – لم يستطع أن ينسحب إلى برجه العاجى أو أحكامه المعقلنة، أو إنجازاته الإبداعية المسجلة (رياض الشمال) فظل يتوق إلى ممارسة اللعبة على أرض الواقع: فى الملعب، بين السبيل والتكية، الرحلة مرهقة، يلهث – حتما – من يواصلها، ليصل : إلى أين؟ إلى الناس فى رحاب الله، لا إلى الحديقة المترعة بالحسن الممتلئة بالفاتنات، ولا إلى رياض الشمال، لكنهم الأحبة وحولهم ترامى الجليل، الأحبة نبضا حيا: الوجه والإهاب والنظر، ولكن هل حقا أن كل شئ تغير، أم أن الواقع يقول : إن كل شيء تبين حتى رأى وجهه. فيستقر فى ظله – سبحانه – استجابة لنداء قلبه، فيحفظه الأحد الواحد الصمد.
فكانت أقرب فقرة لى – بعد معرفته – تحكى السيرة الذاتية مباشرة بلا أصداء، ثم إن لفظة “الأصداء” قد جاءت فى هذه الفقرة لتصف الكوابييس بعد ذكر الأشباح، فشعرت أن محفوظ قد استطاع فى هذه الفقرة أن يركز تاريخه كله فى هذه القصيدة دون حاجة إلى الاختفاء وراء أصداء علينا أن نرددها معه بناء على إيحاءاته حتى تصل إلى ما يريد، جاءت هذه الفقرة لنتوجه من خلالها إلى مصدر الصوت الأصلى مباشرة.
خطر لى خاطر هنا بالنسبة للأصداء: فلو أنك سمعت أصداءً ما تتردد فى جبل أو ماشابه، وحاولت أن تبحث عن مصدر الصوت الأصل، وكلما اتجهت إلى مصدر الصدى باعتبار أنه سيهديك إلى أصله، تردد صدى آخر، فالتفت ناحيته لعل الصوت الأصلى هو فى الاتجاه الآخر، وهكذا، إذن لوجدت نفسك أكثر توْهاً كلما زدتَ بحثا، لأن هذه الأصداء (هكذا) تخفى أصلها أكثر مما تظهره، فهى تدل عليه وفى نفس الوقت تبعدك عن حقيقته، لكنها تسمح لك بخيال أوسع،
فلو كان الأمر كذلك فإن هذه الفقرة قد قربتنى إلى الصوت الأصل أكثر مما أثارت من أصداء!.
____________
[1] – يحيى الرخاوى “أصداء الأصداء” تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية (نجيب محفوظ) (الطبعة الأولى 2006 – المجلس الأعلى للثقافة)، و(الطبعة الثانية 2018 – منشورات جمعية الطب النفسى التطورى) والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف www.rakhawy.net