نشرة الإنسان والتطور
الخميس: 30-12-2021
السنة الخامسة عشر
العدد: 5234
تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية (نجيب محفوظ) (1)
وهكذا نواصل نشر “الأصداء” مع “أصداء الأصداء”
بقلم: “يحيى الرخاوى” واحدة واحدة (54)
الفصل الأول: الطفل يرحب بالشيخوخة ويغازل الموت
الأصداء
54- التسبيح
فى وضح النهار والحارة تموج بأهلها من النساء والرجال والأطفال، والدكاكين على الصفين تستعد لاستقبال الزبائن. فى وضح النهار سقط رجل ضعيف ضحية لعملاق جبار وشاهد الناس الجريمة وتواروا فى برج الخوف. لم يشهد منهم أحدا، ومضى القاتل آمنا، وشهد الدرويش الحادث ولكنه لم يــُسأل للاعتقاد الراسخ فى بلاهته
وغضب الأبله غضبا كمدا فعزم على الانتقام من الجميع. كلما واتته فرصة قضى على رجل أو امرأة وهو يسبح لله.
أصداء الأصداء
ذكرنى هذا القهر القاتل، من قوى لضعيف أمام كل الناس، بالصفعة التى انطلقت من كف الضابط العمياء وهى تهوى على خد أبيها العليل” (فقرة 37)، وكيف استجابت الفتاة لهذا القهر بالانسحاب من العالم حتى عاشت وحدتها ترمقها ثقوب الكون، ثم أقارن كيف استجاب الناس للقهر هنا بأن تواروا فى برج الخوف. والفارق واضح عندى لكن ظاهر الصورة واحدة، إلا أن القصد هنا لم يكتف بإظهار العمى الذى اختاره الناس على الرغم من إيهامهم أنفسهم بأنهم أكبر من أن يكونوا مجرد “شاهد إثبات” لذلك جاء تعبير “برج الخوف” وليس “كهف الخوف” – أقول إن القصة لم تنته، فإن الحقيقة لا يتنازل عنها لا الأطفال ولا المجانين ولا المؤمنون (والدرويش هو كل هؤلاء)، ومن ثم وجب إلقاء الحقيقة هى ومن لا يتنازل عنها معا بعيدا عنا بضربة إثر ضربة، وهكذا تغافلوا (أنكروا) وجود “الدرويش” فلم يسألوه أصلا.
وبألفاظ أخرى: حين نعمى – عن رؤية الحقيقة، ونعجز عن قول الحق، لابد أن يهددنا من لم يفعلوا مثلنا،حتى لو كانوا أطفالا أو دراويش أو مؤمنين، فنسارع بأن نحمى أنفسنا بأن نسارع بإلغائهم هم -أيضا- بأن نستهين برؤيتهم، لا نشوفهم أصلا،
الحاجة إلى الشوفان تكاد تكون أسبق من الحاجة للجنس والحب والرعاية، فهى اعتراف واحترام معا، وهذا ما حـرمـوا منه “الدرويش”هنا فإذا به يفرض عليهم رؤية أخرى تقول: مادمتم رضيتم عما كان، ولم تحترموا رؤيتى فتستشهدوننى غصبا عنكم فأنتم شركاء فى إلحاق الظلم، وإبادة الحياة، فهاكم ما أنكرتموه يتكرر، ويتكرر، ويتكرر رأى العين، فكيف ستتخلصون منه، ومني؟.
وحين عزم الدوريش – هكذا – أن ينتقم من الجميع بدأ بالانتقام من نفسه فتنازل عن براءته، وإيمانه، ليصبح من شهود الحقيقة على الجانب الآخر، فهو الجنون على الرغم من أنه مازال يسبح الله، لعل كل هذا يرفع الظلم الذى قضى على الضعيف وينير البصيرة التى كان غيابها سببا فى إنكاره وإهماله(2).
[1] – يحيى الرخاوى “أصداء الأصداء” تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية (نجيب محفوظ) (الطبعة الأولى 2006 – المجلس الأعلى للثقافة)، و(الطبعة الثانية 2018 – منشورات جمعية الطب النفسى التطورى) والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف www.rakhawy.net