نشرة الإنسان والتطور
الخميس: 1-2-2024
السنة السابعة عشر
العدد: 5997
تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية (نجيب محفوظ) [1]
وهكذا نواصل نشر “الأصداء” مع “أصداء الأصداء”
بقلم: “يحيى الرخاوى” واحدة واحدة (163)
الفصل الرابع
حتى رأى وجهه سبحانه، وسمع برهانه
الأصداء عودة إلى النص:
163- القبر الذهبى:
قال الشيخ عبد ربه التائه
رأيت فى المنام قبرا ذهبيا قائما تحت شجرة سامقة غاصة بالبلابل الشادية، وعلى صدره نقشت بأحرف جميلة واضحة كلمات تقول:
هنيئا لمن عاش ومات فى بوتقة الهجران.
أصداء الأصداء
صدر هذه الفقرة مكرر تماما (فقرة 48) وبنفس العنوان “القبر الذهبى” [2] إلا أنه فى تلك الفقرة كان النص يقول ” هنيئا لمن كانت نشأته فى بوتقة الهجران”، وقد شرحنا إذ ذاك كيف أن الهجران متغير ضرورى فى التنشئة، وأنه بعكس الشائع عن تأثيره السلبى غير المحدود على الصحة النفسية هو حفز رائع لحيوية من استطاع أن يتحمل وعيه بآلام نار الهجران وهو يتقلب فى بوتقته دون أن يطفئها بالتخدير أو الإلهاء أو الاغتراب، لكن المسألة هنا تخطت النشأة، إلى ممارسة الهجران طول العمر حتى الموت “هنيئا لمن عاش ومات فى بوتقة الهجران”، هنا يصح لنا أن نراجع ولا نتراجع فنقول: إن أهمية الوعى بالمسافة بين الذات والآخر، وهذا هو المعنى الإيجابى للهجران، والحفاظ عليها هو أن نتجنب المحو والتلاشى فى المحبوب (مثل قولهم: أموت فيه ويموت فىّ) وعادة ما يصاحب الحرص على الإبقاء على هذه المسافة درجة من اليقظة الحادة، تحفز إلى سعى متصل.
لعل هذا ما أراده محفوظ وهو يعدل النص الأول حتى نظل نتقلب على جمر بوتقة الهجران طول العمر وليس فقط فى التنشئة الأولى، بمعنى أنه ما دام الإنسان ما زال يعيش فهو ما زال هاجرا مهجورا فى مواجهة آخر واعدٍ حاضرٍ لا يمحى، وهكذا ولا تنتهى هذه المعاناة الرائعة حتى الموت.
أما القبر الذهبى، والبلابل الشادية، فوق الشجرة السامقة، فليس لها علاقة بروعة الواقع الجمر فى بوتقة الهجران (فى كلتا الفقرتين)، بل إنها – رغم جمال الصورة- قد تعلن أن من تصور أن الهناء هو بالوصل دون الهجران، فليحصل عليه فى قبره هذا الجميل هكذا، أما الحياة، فهى أتون جميل آخر.
وإن كان قد خطر لى تفسير إضافى يقول: إن جزاء من تحمل جمر بوتقة الهجران هو نهاية جميلة وسكون ختامى شاذ.
ـــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى “أصداء الأصداء” تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية (نجيب محفوظ) (الطبعة الأولى 2006 – المجلس الأعلى للثقافة)، و(الطبعة الثانية 2018 – منشورات جمعية الطب النفسى التطورى) والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف www.rakhawy.net
[2] – ملحوظة: استعمال محفوظ لصفة ‘الذهبي” استعمال خاص يجدر الرجوع إليه، ولابد أن أعترف أنى أكره الذهب والمجوهرات عموما، ولا أفهم معنى لاقتنائها أو لبسها فى العصر الحاضر، وبالتالى لا أخفى عجبى من هذا الاستعمال الرفيع الذى يصر محفوظ عليه،