الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ترحالات يحيى الرخاوى الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل السادس: “لابد من باريس، وإن طال السفر” (4)

ترحالات يحيى الرخاوى الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل السادس: “لابد من باريس، وإن طال السفر” (4)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأربعاء: 31-1-2024

السنة السابعة عشر 

العدد: 5996 

ترحالات يحيى الرخاوى

الترحال الأول: “الناس والطريق”[1]

الفصل السادس: لابد من باريس، وإن طال السفر (4)

…………….

دربى بِكرٌ فوق حصاهُ تسيل دماءُ القدم ِالعارِى

يتبعنى الناسُ الـمِثلي،

ليسوا مثلي.

من مثلى لا يسلكُ إلا دربـَــهْ.

يحفرهُ بأنين الوحدهْ

يزرع فيهِ الخطواتُ الأولىَ

دوماً أولىَ

يَرْويهاَ بنزِيفِ الرّؤيْــةْ

16 ديسمبر 1985 (وقت الكتابة)

………………..

………………..

ندخل المخيم، ونجده، يكاد يكون شاغرا إلا من خيمة هنا وخيمة هناك. وينظر الواقف على البوابة إلى أرقام سيارتنا العربية، فيبتسم ابتسامة نعرفها، ويشير صائحا: “أهلا” بالسلامة، ثم كلاما كثيرا باللهجة ذاتها، ولا نفهمه، أستعلم، وأقرر، وأرفض ولا أعلن رفضى، فأتركهم يتوجسون.

فى الطريق إلى باريس المدينة، أتعجب لصلابة هؤلاء الخواجات، المخيمين بالقياس إلى ميلنا إلى الدفء والاستكانة؟. أليس هؤلاء مصيفين مثلنا؟. أليسوا أغنى منا؟. فلم يقبلون التخييم هكذا بهذه البساطة؟. وأولادى أكثر شبابا وأوفر حركة، وأفقر، فما بالهم يقاومون هكذا؟ أهى العادة أم خطأ التربية الأساسى فى علاقتنا بمعنى النعيم ودغدغة الدعة؟

فجأة تقفز إلى عقلى ثلاث صور متلاحقة:

 الأولى فى جبل عتاقة فى شتاء 1954، وأنا فى “نوبة حراسة” مع مخيم الجوالة، والعاصفة الرملية لا تهدأ، وأنا لا أشكو ولا أغفو.

 الثانية، أعلى جبال الأرز فى لبنان قرب طرابلس، فى صيف السنة ذاتها مع الجوالة عينها أيضا. والصقيع العربى يذكرنى بالتقشف الحقيقى الذى كانت الجوالة تعنيه لنا جميعا، ثم ذلك الأتوبيس الذى يكاد يسقط وهو يلف (ماذا دهاك يا لبنان!!! ماذا دهاك؟ مازلنا 1984 تذكّر).

 الثالثة  صورتى وأنا مخيم فى فينسيا بعد أن ودّعت زوجتى وابنى وأركبتهم المركب المتجهة إلى مصر سنة 1969 فحبسنى المطر ثمان وأربعين ساعة فى خيمة قرأت فيها ـ مضطرا ـ كتابا لم يكن معى سواه فاضطررت لقراءته مرتين فتغيّر موقفى من مهنتى ونفسى، هو كتاب عن العلاقة بالآخر، مدرسة العلاقة بالموضوع (جانترب)، وكأنى كنت على موعد معه لأغيّرفهمى لـلنفس البشرية (نفسى أنا قبل مرضاى).

تذكرت كل هذه المواقف لأزداد يقينا بروعة ما هو صدفة، وما هو تقشف، وما هو عناد، وما هو إصرار، وما يمكن أن يتاح للواحد فى فرص حقيقية من خلال بعض ذلك أو كله، فلماذا لا يشعر الأولاد بقيمة المشقة، ويقبلون التحدى طوعا أو كرها؟. لا.. بل كرها. فما يفجر الطاقة إلا الاضطرار.

إن هذا الذى أحاول أن أعلمه للأولاد هنا هو “كنظام” الفقر والحرمان. فهو إيهام زائف، لذلك فهم يفقسون الادعاء، ويكادن يقولون: “كبّر عقلك… حين نفتقر سنتصرف”. لكن مالى أنا، لابد أن أفعل ما أتصوره مناسبا حتى لو بدا مزيفا أو “كنظام”، أم ينبغى على أن أموت فعلا أو أعلن الفلس الحقيقى حتى يتعلموا معنى جدية الحياة، وشظف الحاجة

تلتقط ابنتى الكبيرة منى يحيى حالتى وأزمتى فتحاول أن ترضينى، فتعرض حلا وسطا، وكنا قد دخلنا باريس فعلا، إذْ تقترح أن تذهب مع مصطفى إلى المدينة الجامعية، حيث سمعت من قبل أنها قد تستقبل نزلاء عابرين من الطلبة بأجر زهيد، فأطمئن أخيرا إلى أن ثَمَّ من يشاركنى موقفى، ولو بدرجة أقل، وتنزل ابنتى مع أخيها فى “الأنفاليد”؛ لتأخذ المترو، ونلقى التحية على نابليون فى قبره، ونواصل السير، وقد تواعدنا على اللقاء أمام الفندق المتواضع الذى ننزل فيه عادة فى الجوبلان.

نصل إلى الحى اللاتينى مارين بميدان إيطاليا ـ بلا مبرر ـ وكأن السيارة كانت تعرف أنى أحتاج لاستنشاق هواء الأماكن ذاتها التى صاحبُتها أثناء مهمتى العلمية، فى مستشفى سانت آن، بالقرب من هذا الميدان.قلبى يدق مثل عاشق مراهق فعلا، فخشىت أن يسمعوا دقاته. وأجدنى أعيش من جديد تلك الفترة البالغة الثراء التى أمضيتها فى باريس، والتى مازلت أعود إليها منذ ذلك الحين، فيعاودنى الشعور عينه، وأكتشف أن باريس قد استقرت تحت جلدى، فى ثنايا عضلاتى، فى رائحة عرقى، سارية مع دمى، إذ يبدو أن هذا العام 68 / 69 كان عام تحوّل فى حياتى خلال إقامتى بها، وتجوالى فيها. ماذا حدث تماما حينذاك؟. لست أدرى على وجه التحديد، لكنى عشت تلك الفترة بكل ثقل المواجهة، مواجهة مع الناس والحجارة، مع القديم والمجهول، مع الوحدة والتساؤل، فكان ماكان مما استيقظ فىّ الآن، وهو لم ينـَمْ أبدا منذ ذلك الحين.

مازلنا: 5 سبتمبر 1984.

فندق جوبلان (نجمتان)، فندق الإقامة السعيدة (“بل سيجور” نجمة واحدة) يفصلهما ممر صغير، وهما يقعان على تقاطع طريق جوبلان وطريق راسباى، الحى اللاتينى، أمام أحدهما مطعم جميل ذو ستائر حمراء رقيقة. وأمام الآخر مطعم صينى متواضع ـ  هذا هو مكاننا المفضل. يستقبلنا صاحب فندق جوبلان ـ ويتذكرنا، عام مضى منذ كنا عنده، زوجتى وأنا، ونجد عنده حجرة واحدة خالية، وكأنها كانت تنتظرنا، ونجد فى الفندق المجاور ذى النجمة الواحدة حجرة من داخل حجرة، بحمام خاص (ياحلاوة) وحجرة أخرى للابن الأكبر. وبحسبة سريعة يتبين أن الثمن يقارب ثمن المخيم، فيهدأ بال الجميع، وأنا أوّلهم، وخاصة أن فندق الإقامة السعيدة يتميز بكل مزعجات فنادق النجمة الواحدة؛ فكلبٌ ضخم لا يقل طوله عن متر يقبع وراء مكتب الاستقبال بجوار موظف الاستقبال المتجهم، ويبدو أن الكلب يحل محله فى حالة غيابه(!!!) والفندق له رائحة يعرفها كل من لا يملك إلا ثمن الإقامة فيه، وأسلوب التعامل فيه من باب “ساعد نفسك”…” (إن كنت جدعاً). وأطمئن على أن  الرائحة فى هذا الفندق، سوف تكون نافية لأى احتمال رفاهية مفسدة!!!، وإن كانت تختلف حتما عن رائحة فنادق أعرفها فى العتبة (الخضراء) وعماد الدين؛ حيث ينزل بعض أصدقائى السودانيين، فلكل بيئة وثقافة رائحتها المميزة…. والعياذ بالله. ومع ذلك، فقد فرح الأولاد فرحا شديدا بكل ذلك، ولولا التهديد الملاحـِـق بالتخييم فى الصقيع، لما تحملوا أيا من هذا بحال.

أخيرا باريس،

 هى هى. وبرغم صفعة الحر التى صفعتنى بها العام الماضى، فما زالت هى الغالية بشكل أو بآخر. قلت لى: لماذا؟. أقول لك: لست أدرى، مع أنى استطيع أن أدبج فيها مئات الصفحات. ولكن ياترى هل أنا أحكى عن باريس الآن؟ أم عن باريس 86/96؟. أم عن “باريس/القاهرة/أنا”؟ . لاشك أنى أحكى عن هذا الثالوث المتداخل فى تفاعل متصل، فقد تعريت هنا، فى سن الخامسة والثلاثين، هذا التعرى الذى اعتبرته أروع ما فى السفر، بل لعله المبرر الوحيد للسفر، كما ذكرت. حين يتلقى جهاز استقبالك هذا الكم الزاخر من المعلومات الجديدة (المعلومات بالمعنى الأشمل= كل ما يصل إلى الوعى)، فإذا بك جديد. فإذا كان الأمر كذلك، فإن أى سفر قد يحمل هذا الاحتمال، لمن عنده هذا الاستعداد، فلماذا باريس بالذات؟.

أتصور أن ثمة “علاقة خاصة” بين باريس وبين المصريين المبدعين خاصة: توفيق الحكيم، يحىى حقى، طه حسين، محمد عبده، مصطفى كامل، رفاعة الطهطاوى، وهى علاقة ممتدة حتى الآن: عبد المعطى حجازى، جورج البهجورى، حتى الذى لم يقم بها زمنا تجلّت فى وعيه بدرجة كافية (جمال الغيطانى مثلا). أول ما يشعر به المصرى اليقظ وهو ينتقل إلى باريس إذا كان من عشاق  القاهرة، والنيل، والطين، والناس، والدفء، والكلام،…يشعر ذلك المصرى أنه “لم ينتقل” كثيرا، وفى  الوقت ذاته أنه “انتقل” كثيرا، فهو يرى النيل (السين) والكبارى، والتلقائية، والأصوات العالية نسبيا، والضحكات المسموعة فى الشوارع أو محطات المترو، وغير ذلك من الارتجال الذى يعلن نظاما غير محكم تماما (جدا) بشكل أو بآخر، فلا يفزع من النقلة، لأن كل ذلك قد تعوده، (وألعن)، وهو فى بلده، وفى الوقت ذاته: هو يجد إيقاع الحركة أسرع، وكّم الحرية وأنواعها أكثر بهرا، وتنوع أذواق أرق، وريح الحضارة أكثر حدة وإيقاظا.

ومن واقع رقة النقلة ودقة التشابه، جنبا إلى جنب مع وضوح النقلة وعمق الاختلاف، تتاح لمن مثلى تلقائية الحركة وشجاعة التعرى، وأحسب أن هذا هو بعض ما أصابنى وبهرنى منذ نزلتها أول مرة عام 1968، فظلَّت علاقتى بها هى العلاقة ذاتها حتى الآن، أدعمها كل عدة سنوات بجرعة منشطة خلال عدة أيام، فأجلس على المقهى ذاته، وأسير وأنا أربت على خدها الندى، فتحتضننى فى رفق مستقبلة مودعة فى آن، مطمئنة إلى عودة وعودة، ثقة منها بهذا التواصل دون تواجد. لكنى لا أخفى على نفسى أنى فى كل مرة كنت ألاحظ على وجهها بثورا جديدة، من مضاعفات الحقن الأمريكانى الذى اقتحمها بالواجهات الزجاجية، والعمارات العملاقة، ولا حول ولا قوة إلا بالله. حتى مركز بومبيدو، بدا لى سجنا زجاجيا يزحف على جداره ثعبان سام وقد التهم البشرفى جوفه دون خجل، حتى تعيّن لى ما يزعمون من “شفافية”، وكأنها “بجاحة العدوان”.

حين استفزّنى منظرالسلم المنزلق وهو يتحرّك عاريا خلف زجاج قبيح كتبت فيه هجاء غمرنى حتى عنونت به عنوان ديوان مجهول لى اسمه “البيت الزجاجى والثعبان”، كنت أعنى به هذا المركز (بومبيدو). تقول بداية هذا التشكيل “يسعى ثعبان البشر على جدران البلور العارى، يفضحنا، فنعود إلينا نتعرّى أكثر، نتكاثق داخلنا، نتوارى، فنرانا أقبح”…..الخ.

كاد هذا التحوّل الذى ضجر منه الفرنسيون أنفسهم يفتّر علاقتى بباريس الجديدة، حين أتصور أنها أقل ترحيبا؛ فأصبح أخف حوارا معها.

حين لطمتنى ـ باريس ـ لطمة حارة لم أتعودها منها فى العام الماضى، أحسست وكأنها تعلن قطيعة من جانب واحد، فخرجت منها بلا وداع ولا وعد بلقاء، وتعمدت ألا أدخلها ثانية إلا شتاء، أو قرب الشتاء. وها هو شتاؤها يلقانا قبل أوانه، ليصالحنى عليها من جديد…، وما تخاصمنا أصلا. اكتشفت ذلك. فى الترحال الثانى “الصلح خير” (الفصل الـ 13).

……………….

………………

ونواصل الأسبوع القادم بقية الفصل السادس

ــــــــــــــــــ

[1] –  المقتطف من الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الرابع: الحافة والبحر (الطبعة الأولى 2000)، وتتضمن ترحالات يحيى الرخاوى أيضا (الترحال الثانى: الموت والحنين ) و(الترحال الثالث: ذكر ما لا ينقال ) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية  فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة  الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط  www.rakhawy.net 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *