الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية (نجيب محفوظ) (10&11) الفصل الأول: الطفل يرحب بالشيخوخة ويغازل الموت

تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية (نجيب محفوظ) (10&11) الفصل الأول: الطفل يرحب بالشيخوخة ويغازل الموت

نشرة الإنسان والتطور

الخميس: 11-3-2021                         

السنة الرابعة عشر                 

العدد: 4940

تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية (نجيب محفوظ) 

وهكذا نواصل نشر “الأصداء” مع “أصداء الأصداء”

 بقلم: “يحيى الرخاوى” واحدة واحدة (10 & 11)

 

الفصل الأول: الطفل يرحب بالشيخوخة ويغازل الموت

الأصداء

10 – ‏السعادة

رجعت‏ ‏إلى ‏الشارع‏ ‏القديم‏ ‏بعد‏ ‏انقطاع‏ ‏طويل‏ ‏لتشييع‏ ‏جنازة‏، ‏لم‏ ‏يبق‏ ‏من‏ ‏صورته‏ ‏الذهبية‏ ‏أى ‏أثر‏ ‏يذكر‏. ‏على ‏جانبيه‏ ‏قامت‏ ‏عمارات‏ ‏شاهقة‏ ‏فى ‏موضع‏ ‏الفيلات‏، ‏واكتظت‏ ‏بالسيارات‏ ‏والغبار‏ ‏وأمواج‏ ‏البشر‏ ‏المتلاطمة‏، ‏تذكرت‏ ‏بكل‏ ‏إكبار‏ ‏طلعته‏ ‏البهية‏ ‏وروائح‏ ‏الياسمين‏. ‏تذكرت‏ ‏الجميلة‏ ‏تلوح‏ ‏فى ‏النافذة‏ ‏باعثة‏ ‏بشعاعها‏ ‏على ‏السائرين‏، ‏تُرى ‏أين‏ ‏وقع‏ ‏قبرها‏ ‏السعيد‏ ‏فى ‏مدينة‏ ‏الراحلين؟‏ ‏ويوافينى ‏الآن‏ ‏قول‏ ‏الصديق‏ ‏الحكيم‏، ‏ما‏ ‏الحب‏ ‏الأول‏ ‏إلا‏ ‏تدريب‏ ‏ينتفع‏ ‏به‏ ‏ذوو‏ ‏الحظ‏ ‏من‏ ‏الواصلين‏.‏

أصداء الأصداء

يختلط‏ ‏الشارع‏ ‏القديم‏ ‏بالجنازة‏، ‏بالصورة‏ ‏الذهبية‏، ‏بطلعته‏ ‏البهية‏، ‏بصورة‏ “‏الجميلة‏” ‏تطل‏ ‏من‏ ‏النافذه‏ ‏وتنتهى ‏إلى ‏قبر‏ ‏مجهول‏ (‏رحلت‏ ‏فعلا‏ ‏أو‏ ‏مجازا‏)، ‏ولا‏ ‏يبكى ‏على ‏الحب‏ ‏الأول‏، ‏بل‏ ‏يتذكر‏ ‏أنه‏ ‏كان‏ – ‏أو‏ ‏كان‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يكون‏ – ‏تدريبا‏ ‏على ‏الوصال‏ ‏الأعلى ‏فى ‏دنيا‏ ‏الحظ‏ ‏لأهل‏ ‏الحظ‏، ‏أو‏ ‏دنيا‏ ‏الوجد‏ ‏لأهل‏ ‏الوجد‏، ‏أو‏ ‏فى ‏كليهما‏، ‏وهنا‏ ‏يلعب‏ ‏محفوظ‏ ‏لعبة‏ ‏جميلة‏ ‏حين‏ ‏ينتقل‏ ‏بـِكَ‏ ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏النقلات‏ ‏المتسحبة‏ ‏فى ‏بضعة‏ ‏أسطر‏، ‏فتجدك‏ ‏أنت‏ ‏تؤلف‏ ‏الرواية‏ ‏التى ‏أعطاك‏ ‏مفاتيحها‏، ‏وهو‏ ‏يربكك‏ ‏بعلاقته‏ ‏الحميمة‏ “‏بالمكان‏” ‏حتى ‏يجسده‏ ‏شخصا‏ ‏تكاد‏ ‏تحكى ‏معه‏، ‏ثم‏ ‏تتبين‏ ‏أن‏ ‏المكان‏ ‏وساكنيه‏ ‏هم‏ ‏واحد‏، ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نفصلهم‏ ‏عن‏ ‏بعضهم‏ ‏البعض‏، ‏وعلى ‏الرغم‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الفقره‏ ‏كان‏ ‏عنوانها‏: “السعادة‏” ‏فقد‏ ‏بدأت‏ ‏بتشييع‏ ‏جنازة‏، ‏ومرت‏ ‏بقبر‏ ‏الحبيبة‏ ‏الأولى (‏فعلا‏ ‏أو‏ ‏مجازا‏)، ‏وانتهت‏ ‏بحكمة‏ ‏التدريب‏ ‏للواصلين‏، ‏فأى ‏من‏ ‏هذا‏ ‏يقصد‏ ‏به‏ ‏محفوظ‏ “‏السعادة”‏ ‏التى ‏عنون‏‏ ‏بها‏ ‏الفقرة‏‏؟

لم‏ ‏يصلنى ‏أى ‏تفصيل‏ ‏أو‏ ‏حدس‏ ‏أرجح‏ ‏به‏ ‏ماهى ‏السعادة‏ ‏المشار‏ ‏إليها‏، ‏هل ‏هى ‏الحب‏ ‏الأول‏، ‏أو‏ ‏الصورة‏ ‏الذهبية؟‏ ‏أو‏ ‏الجميلة‏ ‏فى ‏النافذة‏، ‏أو‏ ‏النهاية‏ ‏فى ‏قبرها‏ ‏السعيد؟‏، ‏ولكن‏ ‏ما‏ ‏وصلنى ‏يقينا‏ ‏هو‏ ‏أن‏ ‏الحياة‏ – ‏فى ‏ذاتها‏ – ‏التى ‏تحتوى ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏النبض‏ ‏السريع‏ ‏الإيقاع‏ ‏المكثف‏ ‏الحضور‏ ‏هكذا؟‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏نقسمها‏ ‏إلى ‏حب‏ ‏ووصل‏ ‏وفراق‏ ‏ومكان‏ ‏وزمان‏ ‏هى ‏هى ‏السعادة‏.‏

الأصداء

11 – ‏الطرب

‏”‏اعترض‏ ‏طريقى ‏باسما‏ ‏وهو‏ ‏يمد‏ ‏يده‏، ‏تصافحنا‏ ‏وأنا‏ ‏أسأل‏ ‏نفسى ‏عمن‏ ‏يكون‏ ‏ذلك‏ ‏العجوز‏، ‏وانتحى ‏بى ‏جانبا‏ ‏فوق‏ ‏طوار‏ ‏الطريق‏ ‏وقال‏: ‏نسيتني؟‏! ‏

فقلت‏ ‏فى ‏استحياء‏: ‏معذرة‏، ‏إنها‏ ‏ذاكرة‏ ‏عجوز‏! ‏قال: كنا‏ ‏جيرانا‏ ‏على ‏عهد‏ ‏الدراسة‏ ‏الابتدائية‏، ‏وكنت‏ ‏فى ‏أوقات‏ ‏الفراغ‏ ‏أغنى ‏لكم‏ ‏بصوت‏ ‏جميل‏، ‏وكنت‏ ‏أنت‏ ‏تحب‏ ‏التواشيح‏.. ‏ولما‏ ‏يئس‏ ‏منى ‏تماما‏ ‏مد‏ ‏يده‏ ‏مرة‏ ‏أخرى ‏قائلا‏: ‏ولا‏ ‏يصح‏ ‏أن‏ ‏أعطلك‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏ذلك‏.. ‏قلت‏ ‏لنفسى ‏ياله‏ ‏من‏ ‏نسيان‏ ‏كالعدم‏، ‏بل‏ ‏هو‏ ‏العدم‏ ‏نفسه‏، ‏ولكننى ‏كنت‏ ‏ومازلت‏ ‏أحب‏ ‏سماع‏ ‏التواشيح‏.‏

أصداء الأصداء

تعود‏ ‏تجليات‏ ‏النسيان‏ ‏والتذكر‏، ‏وأتذكر‏ ‏بدورى ‏رواية‏ ‏ميلان‏ ‏كانديرا‏ “‏كتاب‏ ‏الضحك‏ ‏والنسيان‏”، ‏والذى ‏رفضت‏ ‏عنوانها‏ ‏رغم‏ ‏أنه‏ ‏ظل‏ ‏يطل‏ ‏على ‏من‏ ‏بين‏ ‏سطور‏ ‏الرواية‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏، ‏ويحاول‏ ‏العجوز‏، ‏مغنى ‏التواشيح‏ ‏فى ‏المدرسة‏ ‏الابتدائية‏، ‏أن‏ ‏يذكره‏ ‏بنفسه‏، ‏فلا‏ ‏يتذكره‏، ‏وبرقة‏ ‏فائقة‏ ‏تجعلنا‏ ‏نحسد‏ ‏مدرس‏ ‏العربى (‏فقرة‏ 7) ‏الذى ‏فقد‏ ‏ذاكرته‏ ‏وحواسه‏ ‏معا‏، ‏يستأذن‏ ‏العجوز‏ ‏المطرب‏ ‏للانصراف‏، ‏فيفيق‏ ‏صاحبنا‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏اعتراه‏ ‏من‏ ‏نسيان‏ ‏هو‏ ‏العدم‏ ‏ذاته‏ (‏بل‏ ‏الإعدام‏، ‏لأنه‏ ‏أعدم‏ ‏به‏ ‏صاحبه‏ ‏إذ‏ ‏ألغاه‏) ‏وبقدر‏ ‏ما‏ ‏كان‏ ‏الشيخ‏ ‏المحتفظ‏ ‏بذاكرتة‏ ‏رقيقا‏ ‏وهو‏ ‏يستأذن‏ “‏لايصح‏ ‏أن‏ ‏أعطلك‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏ذلك‏” ‏كان‏ ‏الصديق‏ :(‏الشيخ‏ ‏العدمى‏) ‏غير‏ ‏متأثر‏، ‏لم‏ ‏يرق‏ ‏لصاحبه‏ ‏المهذب‏ ‏ولم‏ ‏يتذكره‏، ‏وإنما‏ ‏حضرته‏ ‏التواشيح‏ ‏الذى ‏مازال‏ ‏يحبها‏، ‏حتى ‏ولو‏ ‏أعدم‏ – ‏أو‏ ‏عدم‏ – ‏أول‏ ‏من‏ ‏أطربه‏ ‏بها‏.‏

وهنا‏ ‏يشير‏ ‏حدس‏ ‏صاحب‏ ‏الأصداء‏ ‏إلى ‏حقيقة‏ ‏علمية‏ ‏دالة‏، ‏ألا‏ ‏وهى ‏أن‏ ‏نسيان‏ ‏الأسمآء‏ ‏والوجوه‏ ‏والموضوعات‏ ‏ذات‏ ‏التحديد‏ ‏المتعين‏ ‏فى ‏شئ‏ ‏بذاته‏ ‏إنما‏ ‏يسبق‏ – ‏مع‏ ‏التقدم‏ ‏فى ‏السن‏- ‏نسيان‏ ‏المعانى ‏المجردة‏، ‏والعواطف‏ ‏المصاحبة‏، ‏والأنغام‏ ‏الشجية‏، ‏ويبدو‏ ‏أن‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏ما‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏المعنى ‏أبقى ‏من‏ ‏حامله‏، ‏وأن‏ ‏الطرب‏ ‏أدوم‏ ‏من‏ ‏منشده‏، ‏وأن‏ ‏الأفراد‏ ‏يمضون‏، ‏أما‏ ‏ما‏ ‏صاحبهم‏ ‏من‏ ‏معان‏ ‏وأنغام‏ ‏فيبقى ‏ويخلد‏.‏

‏(‏قارن‏ ‏المطرب‏ ‏الشاب‏ ‏فقرة‏ 8 ‏وهو‏ ‏يغنى “‏الحلوة‏ ‏جاية‏” ‏ثم‏ ‏وهو‏ ‏مطارد‏ ‏بنداءات‏ ‏الحب‏ ‏والموت‏، ‏بهذا‏ ‏الطرب‏ ‏الذى ‏بقى ‏يملأ‏ ‏الوجدان‏ ‏والذاكرة‏ ‏دون‏ ‏صاحبه‏ ‏المطرب‏)‏.

 

[1] – يحيى الرخاوى “أصداء الأصداء” تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية (نجيب محفوظ) (الطبعة الأولى 2006 – المجلس الأعلى للثقافة)، و(الطبعة الثانية  2018  – منشورات جمعية الطب النفسى التطورى) والكتاب متاح  فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف www.rakhawy.net

admin-ajax (1)

admin-ajax

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *