تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية (نجيب محفوظ) ( 4 من؟) الفصل الأول:”الطفل يرحب بالشيخوخة ويغازل الموت”
نشرة الإنسان والتطور
الخميس: 11-2-2021
السنة الرابعة عشر
العدد: 4912
تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية (نجيب محفوظ) ( 4 من ؟) (1)
وهكذا نواصل نشر الأصداء يعقبها أصداء الأصداء بقلم:
“يحيى الرخاوى” الواحدة تلو الأخرى
الفصل الأول: الطفل يرحب بالشيخوخة ويغازل الموت
الأصداء
1- دعاء
دعوت للثورة، وأنا دون السابعة ذهبت ذات صباح إلى مدرستى الأولية محروسا بالخادمة، سرت كمن يساق إلى سجن، بيدى كراسة وفى عينى كآبة وفى قلبى حنين للفوضى، والهواء البارد يلسع ساقى شبه العاريتين تحت بنطلونى القصير.. وجدنا المدرسة مغلقة والفراش يقول بصوت جهير: بسبب المظاهرات لا دراسة اليوم أيضا،
غمرتنى موجة من الفرح طارت بى إلى شاطيء السعادة ومن صميم قلبى دعوت الله أن تدوم الثورة إلى الأبد!
أصداء الأصداء
تبدأ الأصداء بطفل قبل السابعة، يحمل بذور الثورة الفطرية الجميلة، التى أسماها “حنين للفوضى”، تواكبها كآبة نتيجة للإحاطة المُحْكمة ما بين خادمة تحرسه، وقهر يسوقه إلى سجن النظام “المدرسة”، فتنقذه المظاهرات من هذا وذاك، لتطير به إلى “شاطىء السعادة” داعيا للثورة بطول البقاء.
هذه البداية تغرى القاريء أننا أمام “سيرة ذاتية” حقيقية، لكننا نلاحظ منذ الوهلة الأولى العلاقة بين حنين الطفل للفوضى وبين مظاهرات الثورة فى الخارج، فنلمس ذلك الخيط السحرى بين الداخل والخارج، والذى يؤكد أن هذه الأصداء، إذ تتردد، لا تفصل أصلا بين واقع الذات والواقع الملموس خارجها، بل والواقع المتجدد والمتولد من خلال حوارهما.
فاعتقدت أن الأصداء إنما سميت كذلك، أو هى كذلك، لأنها تشير إلى ترجيع صدى وأصداء صوت الذكريات الحية بين طبقات الوعى (/الواقع) الداخلى، وتضاريس الوعي(/الواقع) الخارجى متجاوزة سجن الزمن التتابعى ناهيك عن هذا الحدْس الذى يربط الثورة بالفوضى بالفرحة الطفلية، الأمر الذى يغيب عن أغلب الناس، (وبالذات عن “الثوار”).
الأصداء
2- رثاء
كانت أول زيارة للموت عندنا لدى وفاة جدتى، كان الموت مازال جديدا، لا عهد لى به إلا عابرا فى الطريق، وكنت أعلم بالمأثور من الكلام أنه حتم لا مفر منه، أما عن شعورى الحقيقى فكان يراه بعيدا بعد السماء عن الأرض، هكذا انتزعنى النحيب من طمأنينتى فأدركت أنه تسلل فى غفلة منا إلى تلك الحجرة التى حكت لى أجمل الحكايات. ورأيتنى صغيرا كما رأيته عملاقا، وترددت أنفاسه فى جميع الحجرات فكل شخص نذكره وكل شخص تحدث عنه بما قسم. وضقت بالمطاردة فلذت بحجرتى لأنعم بدقيقة من الوحدة والهدوء، وإذا بالباب يفتح وتدخل الجميلة ذات الضفيرة الطويلة السوداء، وهمست بحنان: لا تبق وحدك.
واندلعت فى باطنى ثورة مباغتة متسمة بالعنف متعطشة للجنون وقبضت على يدها وجذبتها إلى صدرى بكل ما يموج فيه من حزن وخوف.
أصداء الأصداء
فجأة، نجد أنفسنا فى مواجهة موت الجدة”، فننتبه – أيضا من البداية – إلى دلالات نقلات الذاكرة الخاصة، من طفل طائر إلى شاطيء السعادة، إلى جدة تموت، والموت طوال الأصداء كان حاضرا بحيوية بادية، حيث تتفجر منه الحياة فى معظم الأحيان،، كما علمنا محفوظ فى الحرافيش أساسا.
محفوظ يعامل الموت هنا باعتباره كائنا حيا “لا عهد له به إلا عابرا فى الطريق”، ثم يحكى عن الموت إذ تسلل، ثم وهو يصير”عملاقا له أنفاس تتردد فى كل الحجرات”، وفجأة ينقلب الموت شبحا يطارد الطفل شخصيا، فيجرى أمامه ليلتقى بالحياة، “الجميلة – ذات الضفيرة”، هذه الوصلة بين الموت والحياة هى لعبة نجيب محفوظ المفضلة. (أنظر أيضا: الفصل الرابع)
ويتبين هنا - أيضا- الخيط الرفيع الذى لمحناه من البداية والذى يربط بين الداخل والخارج، فإذا كان الدعاء للثورة (المظاهرات) التى أعفته من المدرسة وارد فى الفقرة الأولى، فإن الثورة المباغته التى اندلعت “فى باطنه” كانت حركة حيوية داخلية، آثارها فقد جدته، وقد جاءت هذه الحركة (لاحظ الصفات): “مباغتة، متسمة بالعنف، متعطشه للجنون”، أى طفولة حية هذه التى يسترجعها الشيخ بهذا الوضوح حتى يعلمنا جمال انفجارات وعى الأطفال الداخلية، تلك الانفجارات التى تــغـلف بالجنس دون أن يكون بالضرورة جنسا (ولا يمنع أن تسمى جنسية دون أن تكون كذلك كما يفهم العامة الجنس) لتنتهى الفقرة بالالتحام بالجميلة (طفل وطفلة) وبدلا من أن نتصور أنها لذة النجاة بسبب الهرب من الشعور بالفقد بالموت، نفاجأ بأنه جـَذَبَ الجميلة إليه ولم يرتم فى حضنها خوفا من الموت المطارد، ومع أنه هو الذى جذبها وهو فى ثورته المتسمة بالعنف المتعطشه للجنون، إلا أن الجذب كان بكل ما يموج به صدره من “حزن وخوف”.
وحين يتذكر الشيخ (أو تبدع ذاكرته) هذا الخليط الجميل الذى يجمع فيه تداخل العواطف البشرية هكذا فى نسق متسق يرفض الاستقطاب والاختزال، نعرف أننا أمام أصداء تتردد أكثر منها أحداث تـٌحكى مـٌجـَّزأه، أو ترمز إلى مفاهيم محددة مسبقا، وهذا يتطلب أن نعامل اللغة بطريقة متجددة، ربما هى أقرب إلى الطريقة التى نقرأ بها الشعر، فالثورة -مثلا- التى ذكرت فى الفقرة الأولى، غير الثورة التى ذكرت فى الفقرة الثانية، وهكذا.
الأصداء
3- دين قديم
فى صباى مرضت مرضا لازمنى بضعة أشهر. تغير الجو من حولى بصورة مذهلة وتغيرت المعاملة، ولـَّت دنيا الإرهاب وتلقتنى أحضان الرعاية والحنان، أمى لا تفارقنى وأبى يمر على فى الذهاب والإياب وإخوتى يقبلون بالهدايا، لا زجر ولا تعيير بالسقوط فى الامتحانات. ولما تماثلت للشفاء خفت أشد الخوف، الرجوع إلى الجحيم، عند ذاك خلق بين جوانحى شخص جديد، صممت على الاحتفاظ بجو الحنان والكرامة، إذا كان الاجتهاد مفتاح السعادة فلأجتهد مهما كلفنى ذلك من عناء، وجعلت أثب من نجاح إلى نجاح وأصبح الجميع أصدقائى وأحبائى. هيهات أن يفوز مرض بجميل الذكر مثل مرضي”.
أصداء الأصداء
الإرهاب هو أن “نـُرغـم “.. هكذا يحدد طفلنا من البداية، مجرد الذهاب إلى المدرسة وما يتبعه دون اختيار منه: هو إرهاب، ثم تأتى الفرصة السعيدة فيمرض، فتحيط به أحضان الرعاية والحنان، وكأنى أسمع الأغنية التى حفظناها بالإنجليزية فى المدرسة الابتدائية “حين أكون سليما أكون ولاشيء، وحين أمرض أصبح الكل فى الكل” (2). إلى هنا والمسألة عادية، لدرجة أن الواحد يرفض أن يحكيها لأنها تكاد توجد فى قاموس ذكريات كل طفل منا. بل إن الواحد منا، حين كان يرتبط المرض بكل هذا الود والإحاطة بالرعاية وإجابة الطلبات كان يتمارض المرة تلو المرة، بل كنا نحفر – أحيانا- أنوفنا من الداخل حتى تدمى لنطلب من أمنا رغيفا فى غير موعد الوجبات نأكله ونحن نقضى حاجتنا، لأنه كان من الوصفات الشائعة أن ذلك يمنع النزيف الأنفى (لست أدرى كيف؟) حين نعاتب أنوفنا النازفة قائلين :”يا مناخيري” يابخره، حد ياكل إلخ،.” أقول إن خبرة الفرحة بالمرض واستغلالها للحصول على ماحرمنا منه أثناء السلامة هى خبرة طفلية عادية معادة، لكن العجيب اللافت هو أن يخرج طفل من هذه التجربة العادية بشيء غير عادى، هكذا مبكرا كل هذا البكور “خلق بين جوانحى شخص جديد”. ونجيب محفوظ يحذق هذه اللعبة أشد الحذق وأبلغه : الولادة الجديدة، والمارد الذى يبزغ من الداخل فجأة، (راجع ذلك خاصة فى الحرافيش، وفى: رأيت فيما يرى النائم، وفى ليالى ألف ليلة) (3) بل راجع ملامحها حتى فى الفقرة السابقة “اندلعت فى باطنى ثورة مباغتـة” لكن هنا فى هذه الفقرة لم تكن ثورة مباغته، أو موجة من الفرح، ولكن” شخصا جديدا” هكذا فى هذه السن، على أن خبرة الميلاد الجديد، إنما تتواتر من – الناحية العلمية- فى فترة المراهقة خاصة، ثم تتاح الفرص لميلاد آخر فآخر، فى أزمات منتصف العمر، ولكنى لا أرفض، ولا هو مستحيل، أن يتم هذا التحول الدال فى هذه السن الباكرة، حتى لو كان مصاحبا لخبرة عرضية عابرة كالمرض، ومفاجأة ما أحاطه من رعاية، فقد اكتشف طفلنا هنا أن ما كان حوله من جحيم الزجر والنهى والتعيير بالسقوط فى الامتحانات، هو هو الذى منحه الرعاية والحنان لما مـرض، وهكذا أرجعت له كرامته، وتخلص من أقسى ما قد يواجه الطفل، وهو “الجرح بالتعيير “.
لابد أن نشير هنا إلىأن ما يجرح كرامة الأطفال ليس واضحا عندنا تماما فى ثقافتنا وطرق تربيتنا أطفالنا، فنحن لا ننتبه لكرامة الطفل، ولا إلى كيف تجرح: مثلا نتيجة إهمال وجوده، أو الاستهانة بفهمه، أو تجاوز حضوره “إيش فـَهـَّمـُه”، لا عليك هو مازال صغيرا” الخ. الأصداء هنا تشير إلى ذلك، لكنها بدلا من أن تقيم محزنة تولد عـُقـَدا راحت تعلمنا كيف تمحو الخبرات الإيجابية الخبرات السلبية، فهذا هو طفلنا بعد أن استرد كرامته يقفز وحده إلي”الناحية الثانية”،، ويقرر أن يفعلها وحده، ردا لدين أحس به، بدا لنا – كما أشار هو- دين للمرض، لكنه فى الحقيقة دين لما أحاطه أثناء المرض، فيقرر طفلنا بأمانة -بدءا بسداد أقساط الدين- أنه لارسوب بعد اليوم فلا تعيير، ولا كسل ولا…..إلخ
هكذا نتعلم كيف أنه كما أن خبرات الأطفال المؤلمة ترسب فى النفس التثبيت والإعاقة (مما يسمى عقدا أو مرضا نفسيا) فإن خبرات الأطفال الإيجابية – مثل هذه التى جاءت فى هذه الفقرة – تطلق طاقات النمو والأمان، والجميل هنا أيضا هو ما تلهمنا به هذه الفقرة لكى نقف أمام التجارب التى نعتبرها سيئة أو مؤلمة لنرى داخلها خبرات لا تخطر على بال: فمن ذا الذى يرى فى مرض طفل فرصة ولادة جيدة؟ ومن ذا الذى يمكن أن يتصور ظهور هذا الشعور بالامتنان الباقى على مر الزمن من خلال تجربة مرض عابر، تجربة تبدو من الظاهر أنها ليست إلا مدعاة للشفقة العادية، وبالتالى فهى تبدو عادية وكأنها ليست بشيء يستحق الذكر أو التذكر، من هنا يعلمنا الحدس الأدبى أن الوقوف عند العادى، سوف يعطينا الفرصة لنرى فيه غير العادى، بسلبه وإيجابه.
2021-02-11