“نشرة” الإنسان والتطور
7-2-2009
السنة الثانية
العدد: 526
تعتعة قديمة:
كلما زادت جرعة “الكلام” فى صحيفة الدستور، لأسباب لا أعرفها، حذفوا صفحة “الرأى” لأنه يبدو أن الكلام عندهم أهم من الرأى، تكرر هذا عدة مرات، وقد سبق أن نبهت إلى سخرية مغزى حذف صفحات الثقافة والفكر من الصحف القومية، وربما غير القومية، طوال شهر رمضان المكرم، وقلت وكتبت كأنهم يوصوننا أن نصوم عن التفكير أيضا، ربما اكتشفوا أن التفكير هو مما يبطل الصوم.
المهم: فضلت أن أؤجل التعتعة التى كتبتها للدستور هذا الأسبوع، والتى سوف تصدر الأربعاء القادم.
بحثت فى تعتعاتى القديمة (الاصدار الأول للدستور) فوجدت هذه التعتعة لعلها تكون مناسبة للوقت الراهن.
هل تغيّر شىء بعد عشر سنوات؟
الدستور: الإصدار الأول
16/7/1998
فتح ملف جديد لما هو “تعتعة”
التعتعة هى: الكتابة بقصد التحريك لا البلاغ، وقد استعرت لفظ “التعتعة” هذا من الحسن بن هانئ، وهو يقول (مازحا أو جادا):
وما الغرمُ إلا أن ترانىَ صاحيا وما الغنمُ إلا أن تتعتنى الخمرُ
وقياسا أقول:
وما الغرمُ إلا أن ترانى ساكنا وما الغنمُ إلا أن يتعتعنى الرأىُ
وآفة ناسنا الألعن هى الجمود المغلف بالكسل، التى يقابلها على الجانب الآخر الاندفاع المتسارع بالاستسهال، والتعتعة هى تحريك محسوب بين هذا وذاك.
وفرق بين كتابة وكتابة، فكتابة الخبر المعلومة هى نوع من الإخبار والبلاغ، أما كتابة الرأى ووجهة النظر، فهى دعوة للحوار والمراجعة، والتعتعة هى من النوع الثانى: ولمزيد من الإيضاح: هى دعوة للقراءة الثانية قبل التسليم بظاهر القول، وهى حفز للنظر فى الجانب الآخر من المعنى الظاهر، لعله أهمّ، وأدل، وهى رفض للمسارعة بـ “التعظيم سلام” لكل حروف مطبوعة، وهى تحذير من هز الرأس بالموافقة حتى قبل أن تكتمل الجملة أو يتضح المراد، والتعتعة تعيد النظر فى كثير من الشائع المتفق علية، حتى لو كان بديهيا، حتى لو بدا مقدساً.
وسف نبدأ هذه باقتحام قدس أقداس العصر الحاضر (الديمقراطية)
الديمقراطية (1) هزّ قاعدة الصنم
أُذكر كلمة “الديمقراطية”وتلفت حولك وسوف تجد المستمعين وقد طأطأوا رؤوسهم، وصمتوا فى احترام وإجلال، (مفهوم.!) ثم اطلبُ رأى أحدهم، وسوف يقول أكثرهم تواضعا قصيدة شعر فى هذه الظاهرة المقدسة، التى أنقذتنا، كما أنقذت غيرنا من الحكم الشمولى، والدكتاتورية، وحكم الفرد، وحكم العسكر، وكلام من هذا، وكل هذا طيّب وصحيح. ولكن، تعال، ولو سراّ، نتأملّ سويا الحكاية: كل الناس تتحدث عنها، (واجب !!)، وتقدسها، (حصل !!)، وتقفت أمام نصبْها أو تدور حول ضريحها أو تأمل فى ظهورها، واستعمالها الشيوعيون فأسموا بلادهم بأسماء ديمقراطية (كوريا الديمقراطية – كان الله فى عونها – ألمانيا الديمقراطية – الله يرحمها . . إلخ)، ورفعها “المعتدلون” من دعاة الحكم بالشريعة الإسلامى، وقالوا فيها كلاما مثل العسل وهم يلوحون بها باعتبارها اسم “الدلع” العصرى لما هو “شورى”.، ويتصور دعاة حقوق الإنسان أنهم حماة حماها دون سواهم ..الخ.
أما الأمم الديمقراطية التى هى كذلك بحق، مثل الهند وبريطانيا العظمى، فهم يمارسونها بجد يدافعون المقابل غاليا ورخيصا حسب المواقف والمواقع، أما ديمقراطية ست الكل أمريكا فهى الديمقراطية المعلنة فى الصحف، والكونجرس، ولجان تقصّى الحقائق، دون الديمقراطية الممارسة بمجموعات الضغط، والمافيا بكل أنواعها، وأصحاب المصالح، وممولى الحملات الاتخابية فى السر والعلن.
وفى مصر، فرحنا فرحا شديد بأننا أخيرا استطعنا أن نسير على رصيف شارع الديمقراطية (وهو الشهير باسم “هامش الديمقراطية”) وخاصّة فى مجال الصحافة، والنشر عامة.
ولكن تعال نظر فى بركات الديمقراطية بمنظارهادئ، وحاول معى أن تجيب على أسئلة مثل:
هل ترشيح واحد لينوب عنك ويمثل مصالحك هو أمر يمارسه الناس حقيقة بفرص متساوية؟
وهل هذا الذى يرشّح هو أفضل من نمكن أن يمثلك؟ أم أنه أفضل من عرف “سيم” الكاية؟
وهل أنت تنتخبه لأنه سوف يحقق لك ولأولادك ما تأمل فيه لتأمين مستقبلكم، أم لأنه رجل طيب وخدوم ويعرف الأكابر، وكلمته ماسية.
وهل هو ينجح أنه أقدر، وأفضل، أم لأنه أكبر عائلة، وأوثف اتصالات وهل بعد نجاحة: راح يمثلك حقيقة وفعلا (هل يمكن أن تتأمّل مرّتين على الأقل)
فإذا تبينت من الإجابة أ، هذه الديمقراطية يمكن أن تكون خدعة كبيرة، فهل هناك بديل؟
الديمقراطية (2) والحلم بالبدائل !!!
شيخنا الجليل نجيب محفوظ هو اعظم ديمقراطى لقيته فى حياتى، بقدر ما أن كارل بوبر هو أعظم ديمقراطيى قرأته حتى كاد يصالحنى على ما يجرى فى الحضارة الغربية عل الرغم من كل محاذيرى. وكلما جاءت سيرة الديمقراطية فى مجلس شيخنا، ولوّحت برأيى فيها وتحفاظاتى على ممارستها، وانطلقت الصيحات توقفنى وترفضنى وتنبهنى وتحذرنى، دون استثناء شيخنا، الجليل الذى أفحمنى ذات مرة بعد أن اضطرانى أن أعتراف معلنا: إن كل نظم الحكم سيئة. لكن الديمقراطية هى قل سوءآ
فيرد شيخنا الجليل قائلا: أليس أحسن السئ هو الأحسن؟ ويفحمى، ومع ذلك أظل حذرا من التسليم فأنا لا أستطيع أن أقتنع بالديمقراطية الإسرائيلية (الناتانياهوية)، ولا بالديمقراطية الأمريكية (الكلنتاو – مونيكية) ولا بالتمقراطية الروسية الأحداث (المافيا – يلتسينية) ولا بالديمقراطية الإسلامية الشورى (المعدّلة !!)
فما هو البديل؟ إليكم ما خطر ببالى، ولو من باب التعتعة:
أولا: علينا أن نتحفّظ ضد استيراد ديمقراطية النظام العالمى الجديد، التى سمحت بإطلاق الصواريخ على الأبرياء قبل صدور الحكم بالإدانة على متهمين: لم يحددوا بعد
ثانيا: لابد أن نرفض الديمقراطية بالإنابة، أن أحدا لا يصلح، ولا يمكنه أن ينوب عنى أو عنك فى كل الأمور.
ثالثا: لابد أ، نحذر من دعاوى الديمقراطية التى تستعمل من الظاهر للوصول إلى حكم شمولى (دينى أو أيديولوجى) لا يلبث أن ينقضى عليها عند أول فرصة، حتى قبل أن تُختبر.
رابعا: لابد من تعدد وتنوع فرص المشاركة على مختلف المستويات فى اتخاذ القرارات بطريقة مباشرة، بدءآ من أى تجمّع صغير. وهذا ما أتاحته المننجزات الحديثة من ثورة التوصيل وشفافية المعلومات.
خامسا: أتصوّر وضع مستويات متصاعدة لطبقات المشاركين فى اتخاذ القرار، فليس من المعقول أن يشارك كل الناس طول الوقت فى اتخاذ قرار اقتصادى تخصصى عام، أو قرار حربى مفاجئ، ولكن من الضرورى تسهيل فرص التواصل السريع من الأدنى إلى الأعلى، ومن الكثرة إلى الصفوة، باستمرار، ذهابا وإيابا والأن: هل فهمت شيئا؟
ليس مهما، لأننى شخصيا مثلك تماما (سواء فهمت أم لم تفهم)، ولكن أليس من حقنا أن نفكر ونعيد النظر، وأن نحذر ونرفض، وأن نراجع ونحلم، حتى لو لم يكن البديل جاهزا، وهذه هى بعض آلام، وروائع التعتعة.