نشرة “الإنسان والتطور”
10-10-2010
السنة الرابعة
العدد: 1136
تعتعة قديمة
النقد (الذاتى) الزائف، والحذر الواجب (1)
إن أهم ما يمكن أن نعده من مفاخر الحضارة الغربية التى لا نملك إلا الاعترف بها، فالإعجاب بعطائها، هو ما تمتع به مجتمعاتهم من قدرة على نقد الذات، وإعادة النظر فالبحث عن تعديل أو تغيير أو تطوير. إن الباحث الأمين يستطيع أن يجد فى نشاطهم المعرفى والفنى والتنظيرى والعلمى ما يؤكد أنهم لا يكفون عن الحوار والتغيير والتطوير وهم ينتقلون من مرحلة إلى مرحلة. لا تكاد تظهر نظرية، أو حتى نظرة، حتى يتحمسون، وينتمون، ويروجون لها كما ينبغى بالحق والباطل، ثم يمر عدد من السنين وإذا بهم يفندونها ثم ينسخونها جزئيا أو كليا. حدث هذا – مثلا- من البنيوية إلى التفكيكية، ومن الحداثة إلى ما بعد الحداثة، وهكذا. ما ذا يعنى ذلك ؟ هلى هم على هذا القدر الهائل من الأمانة ومن الحركية بحيث يصلحون أنفسهم أولا بأول وبهذه السرعة المربكة؟ ولماذا ننقدهم نحن ما داموا ينقدون أنفسهم بهذه المبادرة وتلك المرونة؟ وهل يترتب على ذلك أن نظل فى موقع المتفرجين، يستوى فى ذلك المؤيد والتابع مع الناقد، والرافض؟
صحيح أنهم ينقدون ويتطورون بسرعة مزعجة لكن علينا أن نحذر أن نبالغ فى انبهارنا بذلك، فمن ناحية: كثير من نقدهم لأنفسهم يقع فى خانة الألعاب الملتبسة، ومن ناحية أخرى إن نقدهم لأنفسهم كثيرا ما ينتهى إلى تعميق ما هم فيه تحت مسمى آخر، دون تغيير الاتجاه، رغم تغيير النظرية أو المسمى. لا ينبغى أن يلهينا نقدهم لأنفسهم عن حقنا فى النقد الموضوعى من موقعنا، ونحن نبحث لنا (ولهم) عن بديل جذرى.
أورد فيما يلى أمثلة محدودة لما يمكن أن أسميه “النقد الزائف”، وأكتفى بعرض ثلاثة تنويعات هى: “النقد الـمخادع” (مدح بما يشبه الذم)، و”النقد المجهض”، و”النقد التبريرى”.
(1) أما النقد المخادع ( شئ أشبه بقول شاعرنا:: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم، بهن فلول من قراع الكتائب !!) فهم يعرون به عيبا حقيقيا يجرى عندهم مثل اضطهاد الزنوج، أو انحراف الشباب، أو سوء حالة السجون، أو القهر فى مؤسسات الأحداث، إلخ مثل هذا النقد يبهرنا قليلا أو كثيرا، فنشاركهم رؤيتهم، وقد ننزعج من تدهور مؤسساتهم، وقد نصفق لشجاعتهم، ونفرح برؤيتهم، لكننا بنظرة ثانية نكتشف أن الجرعة التى وصلتنا ليست لشجب ما يجرى فعلا من هذه المثالب غير الإنسانية، وإنما هى قد أوصلت لنا أكثر كيف أنهم ليسوا بحاجة إلى اجتهادنا ونقدنا مادامت عندهم آلية رفض ذلك كله وتعديله جدا، عن طريق مؤسسات متماسكة خيرة (مثل الكنيسة أو هيئات حقوق الإنسان) فنخرج من كل هذا بالتصفيق لهم فى الحالين: معترفين بالخطأ، ثم مصححينه.
(2) أما “النقد المجهض” فهو ما يقوم به فريق منهم يشاركنا موقفنا فى رؤية عيوب منهجهم، أو مضاعفات طريقهم. هذا الفريق قد ينقد -مثلا- المبالغة فى التسليم للبدائل التكنولوجية حتى يحل الإنسان الآلى (الروبوت) محل الإنسان العامل، بما يترتب عليه من زيادة مشاكل البطالة مثلا، فنجد أنفسنا وكأننا نشاركهم الرأى بكل التفاصيل، وننبهر مرة أخرى بمدى موضوعيتهم، وصدق تناولهم. لكن الذى يترتب على ذلك هو أن نقدهم هذا الذى يقدمونه فنا، أو رأيا، أودراسة، أو إحصاء يدفعنا إلى أحد أمرين: إما رفض التكنولوجيا خوفا مما حذرونا منه (خوفا من البطالة مثلا)، وإما أن نكتفى بالالتفات إلى ما أشاروا من نقاط ضعف أو عيوب جزئية بدلا من أن نتعمق فى المآخذ الأخطر والأكثر دلالة، مثلا: خطورة أن تفصلنا الطبيعة الخائليةصناعة الكمبيوتر على الشاشة الصغيرة عن معايشة بانوراما الطبيعة الأم المتسعة التى لا غنى عن خطابها المباشر لنكون بشرا، وأيضا خطورة أن يغنى هذا التواصل الرمزى عن بعد على العلاقات بين البشرلحما ودما، أو خطورة استبدال أيديولجيا الآلة بنبض الإيمان. إن هذا النوع من نقدهم لأنفسهم – إذا اكتفينا بالانبهار به – قد يجهض نقدا أعمق هو من حقنا، (وحقهم) ونحن نبحث عن بديل جذرى يصلح لنا ولهم معا.
(3) أما النقد التبريرى “بأثر رجعى”، أو ما يمكن أن يسمى “الحكمة بعد أوانها: أو الحكمة بعد الحدث”، فهو ما يمارسونه أيضا بعد أن يعملوا عملتهم. الأفلام والمسلسلات التى تتناول مآسى حرب استعباد الأفارقة (مسلسل الجذور) أو حرب تحرير الزنوج (ذهب مع الريح) هى أعمال فنية رائعة، ولكن ماذا يفيد الزنوج اعتذار عن قهر قديم، التفرقة لا تزال تسرى، ولكن بأساليب أحدث وأخبث، وماذا يفيد الفيتناميون الاعتذار فى فيلم أو مسرحية، بل ماذا يفيد الظالم نفسه من نقده واعترافه؟ هل تعلموا، هل عدلوا، هل منعهم هذا الفن العظيم !! من استعمال غازات غير مشروعة فى حرب الخليج، هل منعهم من استعمال طيارات بلا طيار، أو من ممارسة قتال بلا فروسية، وإبادة أبرياء من خلال أزرار عمياء، وليس من خلال مواجهة متحدية.
إن الحروب الأحدث تشير إلى وحشية أخفى، فضلا عن التمادى فى حروب التجويع والتشريد والإذلال، إن النقد الذى لا يتعلم منه صاحبه يصبح خدعة لا معنى لها إلا تضليل الآخرين. هل منعتهم هذه الأفلام المتقنة والصادفة عن فيتنام من التصفيق لإسرائيل وهى تمارس كل ما عابوه فى حرب فيتنام؟ هل منعهم نقد اضطهاد الزنوج من التصفيق للحلول العنصرية التى يطرحونها حلا لمأساة فلسطين؟
[1] – نشرت فى جريدة الوطن بتاريخ 28-2-2001