“نشرة” الإنسان والتطور
14-2-2009
السنة الثانية
العدد: 533
تعتعة
“دورية” محفوظ بين ملحمة الحرافيش، وملحمة غزة
هاتفنى الابن/ الصديق د. زكى سالم، يوم صدور تعتعة 10/12/2008 وفيها إشارة إلى قرب صدور دورية نجيب محفوظ وقال لى “مبروك”، د. زكى هو صاحب ومريد ومن أهم الرواة عن شيخنا منذ أكثر من ثلاثين عاما، (وهو زميلى فى هذه الصفحة) د. زكى مقل فى مكالماته لى، قاسٍ عادة فى حكمه النقدى، أذكر أننى حين أعطيته مسودة الجزء الثالث (ملحمة الرحيل والعودْ) من ثلاثيتى “المشى على الصراط” وقال فيها كلاما طيبا، أنْ مال علىّ الأستاذ وقال: “خلّ بالك، هذه شهادة غالية، زكى صعب، لا يعلنها هكذا بسهولة..”، رددت على مكالمة د. زكى: مبروك ماذا؟ قال: مبروك قرار صدور “الدورية النقدية” للأستاذ، ثم أضاف: أخيرا تحقق حلمك، حلمنا، شكرته ولم أقل له “ياليت”، كنت مازلت أخشى الإحباط.
لكن الابن الناقد الكريم د. حسين حمودة كان قد اتصل بى وطلب منى المقال للدورية، فأرسلتها فورا، لكننى ظللت متوجسا..، إلى أن اتصل بى مرة أخرى بعد أسابيع يبشرنى أن العدد الأول من الدورية قد ظهر فعلاً، يا خبر!! الحمد لله.
كنت قد بدأت التعتعة المذكورة (10/12) استشهادا ببيت شعر يقول “أخْلِقْ بِذِى الصبْرِ أنْ يحظى بحاجَتَهِ، ومُدْمن القرْع للأبوابِ أن يَلِجَاً”. وسألنى بعض تلاميذى ممن هجروا الشعر العربى التقليدى عن معنى البيت، فتعجبت للسؤال ولم أرد ردًا شافيا، لكننى فوجئت وأنا أكتب تعتعة اليوم أن سؤال الزميل يعاودنى، فرحت أراجع ما قرعتُ من أبواب: وأنا أقترح، وأطالب، وأكتب، وأذيع، لا أكاد أذكر لقاء فى لجنة تراثه أو فى ذكراه أو أثناء حياته إلا وكررت فيه هذا الاقتراح اللحوح، عددت بعض الأبواب التى طرقتها وعثرت على بعضها كأمثلة: (خطاب لمجلة فصول: عدد نوفمبر- 1988)، (الاهرام: 14/12/2001)، (وجهات نظر: عدد يناير 2003)،( وجهات نظر: عدد أكتوبر 2006)،(الهلال: عدد مارس 2005)، (روز اليوسف اليومية: 16- 12 – 2005)، (جريدة القاهرة: 28 – 8 – 2007)، (الدستور: 10-12-2008)، القناة الثانية بتاريخ 3-9-2006 – وقناة النيل للأخبار بتاريخ 16-8-2007، أرجعت الفضل فى هذه المثابرة إلى نوع الجهاد العنيد والإبداع المثابر الذى تعلمناه من شيخنا، حتى بعد أن توقف إبداعه الكتابى بضعة سنوات بعد الحادث إذا بى أكتشف أنه يعيد تشكيلنا ونحن حوله بما أسميته إبداع “حى <===> حى”.
حين تسلمت العدد الأول من الدورية رحت أقلبه بين يدى قبل أن أفتحه وكأنى أهدهد مولودا عزيزا، طالت مدة الحمل به واحدا وعشرين عاما، لكن من فضل الله أن تسلمه فور ولادته من هم أولى به وأقدر على رعايته، فانقلب عملاقا للتو، فأتصور مشاعر د. زكى سالم وهو يبارك لى، فاتأكد أنه لم يبارك لى بصفتى الشخصية، ثم افتح الصفحة الأولى فأتبين كيف أن الرائد النبيل أ.د. جابر عصفور لم يكتف أن يكون الإبن الناقد الدؤوب د. حسين حموده سكرتيرا للدورية بل جعله نائبه، (نائب رئيس التحرير) فاطمأننت أكثر لتواصل الأجيال، وحين افتقدت ذكر تاريخ تطور اقتراحى شخصيا فرحت أكثر لأن ذلك يعنى أن ظهور الدورية ليس نتيجة إلحاح فرد محب دؤوب، وإنما هو الافراز الطبيعى لاستمرار حضور شيخنا هكذا فى وعينا جميعا،
نجيب محفوظ باق ليس فقط بما ترك “لنا” ولكن بما ترك “فينا”.
حين توقف نجيب محفوظ عاما واحدا عن الكتابة إثر هزيمة 1967، انطلق بعدها أعمق وأوفر عطاء حتى توج تلك المرحلة بملحمة الحرافيش التى راح من خلالها يعلمنا أن الحياة دورات لا يخلد فيها إلا الحق، كان يواصل حربه، حربنا، ضد هذا العدو الدنئ الشرس فى جبهة أخرى، بأسلحة أخرى، ابقى وأقدر على مواجهة التحدى إبداعيا وحضاريا. امتداد هذه الحرب الطويلة الرائعة –بما ترك فينا- هو الذى أصدر الدورية، وقد واكب ظهورها ما اقتحم وعينا من دماء الشهداء وأشلاء الأطفال.
شكرا يا عمنا محفوظ، شكرا يا أ.د. جابر عصفور، شكرا للأستاذ على أبو شادى، شكرا يا د.حسين حمودة، شكرا يوسف القعيد (رئيس تحرير سلسلة نجيب محفوظ التى سبقت الدورية: الهيئة العامة للكتاب، شكرا يا د.الأنصارى).
حين صمت نجيب محفوظ عاما يتجرع فيه هزيمة 1967، بكل الألم ، عاود الحرب، يمهد لنا بطريقته حربا أخرى، ولم يتوقف أبدا حتى بعد إصابته، لعل نوع السلام الذى أقرّه شيخنا، هو ما استقبلته إعلانا مؤجلا لقبول الهزيمة بشجاعة، لنواصل الجهاد إبداعا أبقى، نحو نصر أكرم.
نجيب محفوظ يعلمنا كل ذلك حيا وباقيا، فنذكره، ونشكره ونحن نعتذر له عن اختزال بعض المتشنجين لموقفه دون وعى مسئول يليق بحجمه، ويعترف بعطائه، ويحذو حذو حكمته.