نشرة”الإنسان والتطور”
17-1-2010
السنة الثالثة
العدد: 870
تعتعة الوفد
هل كان أحدهم قد سقى الحكومة “حاجة أصفرا” ثم أفاقت؟
أين الخطأ فيما تفعله الحكومة المصرية الآن؟ هل هناك خطأ أصلا، أم أن الخطأ كان قبل ذلك، وما يجرى هو تصحيح للخطأ بما يبدو أنه خطأ أكبر. طبعا لا يوجد شىء اسمه جدار فولاذى بين أية دولة محترمة، وأية دولة أخرى، ولكن أين الدولة الأخرى أصلا؟ هل غزة دولة أخرى؟ أم أنها جزء من كيان فلسطينى لم يوجد بعد، مع أنه هو الأصل؟ وهل غزة هى دولة غير دولة الضفة الغربية ؟ أم ماذا؟.
فى تصورى أن أكبر خدعة وقع فيها الفلسطينيون، بغفلة أو بغير ذلك – هى قيام ما يسمى “السلطة الفلسطينية”، ماذا استفاد الشعب الفلسطينى من هذه السلطة تحديدا، هل شعر أنه شعب مستقل له سيادة؟ هل شعر المواطن الفلسطينى أنه مواطن يعيش على أرض ينتمى إليها، له حقوق مثل أى إنسان ولد على أرض وعاش فيها ليدفن هو وأهله وأولاده فيها؟ لو لم تكن هناك سلطة فلسطينية أصلا، لما انشق الشعب الفلسطينى على نفسه إلى شعبين!!،
ثم لماذا سكتت الحكومة المصرية كل هذا الوقت حتى أصبحت حدودها سداحا مداحا لعربات شحن، وترلات، ومقطورات، تعلن بكل كرم، أو بكل غباء، أنه لم تعد ثمة حدود دولية معترف بها أصلا، هل كان معنى هذا أننا نريد أن نعاون إخواننا المطحونين الجائعين المرضى فى غزة فعلا، أم أنها كانت مجرد رشوة تسكيتية (من السكوت)، حتى يتصور إخوتنا المطحونين هناك، وبعض العرب الذين مازالوا يثقون فينا، ويرجون منا الخير، يتصورون أننا مع الفلسطينين كما ينبغى، لما ينبغى، وأننا نشاركهم مأساتهم، ولو على حساب حرمة حدودنا؟ وهل كان ينبغى لكى نثبت لهم ذلك، أو نصور لأنفسنا ذلك، أن نتهاون فى أبسط حقوق أية دولة لها سيادة موجودة على خريطة العالم بحدود مرسومة؟
لا يمكن أن تُحفر كل هذه الأنفاق، عبر كل هذه السنين، بكل هذا الحجم، إلا بعلم وإذن حكومة البلد الذى سمح بها هكذا، إذن كان هناك سبب إنسانى أو سياسى أو قومى أو عولمى للسماح بهذا الذى حدث طول هذا الوقت وبهذا الحجم، فهل اختفى هذا السبب فجأة ؟؟؟ لماذا يا ترى؟
طيب، وإسرائيل؟ ألم تكن تعلم بهذه الأنفاق منذ سنوات؟ لماذا سكتت، إلا من همهمات متفرقة، وهى تعلم أن السلاح يهرب منها؟ أم أنها كانت ضامنة أنه سلاح خفيف خفيف، من حيث أن مصر بعيدة عن مصادر السلاح الأهم، الآتية من الجهة الشرقية؟
ثم ما هى حكاية تجويع غزة بالذات؟ ألأن حماس التى تمثل المقاومة الحقيقية المتبقية هى التى تحكمها؟ ومن أين تحصل الضفة الغربية على احتياجات الفلسطينيين فيها؟ هل توجد أنفاق أيضا بين الأردن وبينها؟ أم أن هناك طرق علنية مشروعة لتمرير المساعدات والغذاء والدواء؟ ولماذا لم تلجأ الحكومة المصرية لمثل هذه الطرق المشروعة إذا كانت المسألة تتعلق بالغذاء والكساء والدواء، أو حتى بالسلاح؟
أعتقد أننا إن لم نجب على كل هذه الأسئلة بوضوح وشجاعة، فسوف نفقد أى خيط يمكن أن يهدينا إلى ما هو الصحيح وما هو الخطأ، وما هو الواجب الحتمى، وما هو البديل الاختيارى. حكومتنا مسئولة قديما وحتى الآن، فإن كان ثم تهاونا قد حدث فيما سبق، فلا ينبغى أن نصحح الخطأ بخطإ أكبر.
حتى لو كان أحدهم قد سقى الحكومة “حاجة أصفرا” وكان مفعولها طويلا كل هذه المدة، ثم أفاقت فجأة لتجد أنها فقدت أعز ما تملك، فلا ينبغى أن نلقى اللوم على من سقاها تلك الحاجة الأصفرا وحده، (والذى ما زلت محتارا فى تحديد هويته) لأنها هى التى شربتها قبل أن تغيب عن وعيها، وحتى لو كانت الحكومة قد أفاقت تلقائيا فوجدت هذه الأنفاق كأنها فحتت بالسحر ألأسود من ورائها، فلا بد أن تعرف أن للأمر الواقع حضوره الجاثم، الذى يستمد مشروعيته من وضع اليد بالمدة الطويلة، وبالتالى يتبع القاعدة القانونية المشهورة: “يستمر الحال على ما هو عليه، والمتظلم يلجأ للسطلات”، وبما أنه لا توجد سلطات عادلة لا عالمية ولا قومية، وبما أن الحكومة هى التى ساهمت، فى هذا الذى كان كما ذكرنا، فمن باب الأمر الواقع عليها أن تتحمل مسئولية استمرار الوضع حتى تجد هى والمتضرر بديلا مشروعا مناسبا، وأخيرا لنا أن نتساءل هل ثمة تعليمات صدرت، أو توصيات وصلت، أو قرص أذن تم، أنه “كفاية كده”، إن كان الأمر كذلك، فالمصيبة أكبر بحق.
إن كل ذلك ينتهى بنا إلى خلاصة صعبة تقول إن ما يجرى على الساحة الآن إنما يدل على: تهاون سابق، وإفاقة متخبطة، واحتمال تبعية مهينة، وكلها احتمالات خطيرة تحتاج إلى تساؤل ومحاسبة.
وبعد
خطر ببالى أن العاقل جدا (أو المجنون جدا) يمكن أن ينتهى إلى اقتراح بأن تحل السلطة الفلطينية فى كل من غزة والضفة نفسها فورا وتماما، وتدعو إسرائيل للعودة إلى الاحتلال الكامل بكل مسئوليته الدولية والقانونية، وبكل ثمنه الذى لابد أن يدفعه المحتل من مقاومة المحتلين طول الوقت كما حدث عبر التاريخ، وعلى من يريد أن يساهم فى رفع الظلم وتحرير هؤلاء البشر المحتلين، بما فى ذلك العرب الأوجب عليهم ذلك، ماليا وتسليحا وحروبا، أن يساعدوهم إنسانيا وقوميا طالما الاحتلال مستمر ولو استمر قرونا مثل الجزائر. كما على نشطاء العالم الكرام أن يقوموا بدورهم الإنسانى بالضغط على بلادهم، بقدر ما يقومون بالمساعدة بما يملكون من جهود ودعم للمحتلين.
وهكذا يعود الإسرائيليون ليكونوا مسئولين عن منع من لا يريدون دخوله فى الأرض المحتلة عبر كل حدودها شرقا وغربا.
وبالنسبة لغزة، من البديهى أن يتم إقامة جدار من الجيش الإسرائيلى محل هذا النشاز الفولاذى القبيح، ويكون أمرا أقرب إلى الواقع من هذه الفضيحة المهزلة.