نشرة “الإنسان والتطور”
24-4-2011
النسة الرابعة
العدد: 1332
تعتعة الوفد
من كلٍّ حسب غَفْلته، وإلى كلٍّ حسب تبِعيَّته
آن الأوان أن ننتقل من التفكير المحلى إلى مجالات أوسع فأكمل، ومن التفسير السببى الظاهر إلى التفسير الغائى الغائر.
فى مقال قديم (عشر سنوات) فى الوفد أيضا كتبت بتاريخ 14/5/2001 “من يحكم العالم؟ ومن يحكم مصر؟”!! لا يوجد حدث يحدث الآن فى العالم من أول عقار يكتبه طبيب على روشته لعجوز يعانى من ألزهايمر، حتى إشاعة وباء لا وجود له، له مصل ثمنه كذا، مرورا بتعيينات رؤساء الدول العظمى – ديمقراطيا!!- وقرارات مجلس الأمن الفيتاوية (من الفيتو) إلا وهو يرتبط بالنظام المالى التحتى العالمى الخبيث (الاسم الحركى: النظام العالمى الجديد) من هنا أكتب هذا المقال التوضيحى بادئا بإعادة قراءة ما جاء بالمقال السابق ونصه كالآتى:
مع كل هذه الفرحة بالانتفاضات المتلاحقة، ومع كل الحمد والشكر والاحترام لمن قاموا بها أو أشعلوها، علينا أن نحسن النظر فى دفاترنا كلها خاصة دفاترنا الاقتصادية، وأن نتعلم من تجارب الدنيا بأسرها ولا نكتفى بالرضا بالتصفيق لشبابنا فى منتديات الديمقراطية الإعلامية الغربية الصادقة شعبيا، والمناورة سلطةً حين تتعرى بكل قبحها وتحيزها كلما اقتربنا من إسرائيل أو من مصالح القوى المالية التحتية،
هذا النظام أصبح أشبه بالدين الجديد له نبيُّه (وإن كان تحت الأرض حتى الآن) وطقوسه، وآليات تكفير من يخالفه (استبعاداً أو استعماراً أو إفقاراً) كما أن له كنيسته “صندوق النقد الدولى” وحوارييه لجان الثمانيه أو العشرين …..الخ.
كل هذا لم أتعلمه حديثا فى المعهد العالى للدفاع التآمرى وإنما أعرفه وأمارسه فى عيادتى ومع مرضاى من عشرات السنين حين يختفى عقار ثمنه 260 قرشا صاغا (اثنين جنيه وستين قرش) ليحل محل آخر ثمه 325 جنيها مصريا مع نقص عدد الأقراص، يجرى ذلك تحت لافته علمية عالميه جديدة!!
من هذا المنطلق رحت أنظر فى الإشاعات التى أطلقت على انتفاضاتنا الرائعه هذه وأنا فى خوف شديد من محاولات الاستيلاء عليها،
قلت أيضا فى المقال السابق: … يبدو أن النظام الاستغلالى الاستعمارى الجديد قد ضاق بحكامنا العرب، وأنه اعتبر أن أغلبهم قد انتهى عمره الافتراضى، فسارع بالإسهام فى التخطيط للتخلص منهم قبل أن تتخلص شعوبهم منهم، وتستقل عن التبعية لهم، وأيضا عن التبعية لأسيادهم فى الغرب، فراح ينتهز فرصة انتفاضة الشباب، أو هو ساعد فيها، وها هو يحاول أن يقطف ثمارها دونهم غالباً،
ولكن دعونا أولا نوجز ما جرى حتى نهاية الشهر الثالث:
ذكر ما جرى:
لم تكن هناك دولة، كانت هناك ثلة (ربما عصابة حسب بعض الآراء) تمارس أدوارا كأنها الدولة، وتخدم مصالحها التى قد تعود على بعض الناس ببعض الاستقرار، الذى يسمح لهم بالاستمرار، ولكن إلى أين؟ ليس مهما!!
ثم حدث الشىء الأكبر من الخيال، انطلاقة شبابية طيبة، سرعان ما فجرت شعبا بأكمله (تقريبا)، وبعد أيام تمر علينا ثلاثة أشهر جرى فيها ويجرى كل ما كان متوقعا، وغير متوقع، من استشهاد، وإصرار ودهشة ومخاوف، ومخاطرة، وفرحة وشكوك، وآمال، واجتهادات تفسير، وحركة أقلام…الخ
كذلك جرى ما يشبه إعادة تشكيل الإعلام الرسمى، وهات يا قصائد مديح وهات يا أغانى وأخبار، وهات يا كلام، وثارت شكوك جديدة، وتحفز الجاهزون للانقضاض على مكاسبها، وانطلقت الفتاوى والتفسيرات والتحليلات والتوصيات وكل شىء، كل شىء، فى كل اتجاه، كلام كتير جدا، وهات يا آراء، وهات يا فتاوى نفسية واجتماعية وتاريخية، وثأرية، وتصفية حسابات، وشماته، لا مانع!! كله ماشى!!
ربما كان كل ذلك لازما حتى الآن، لا مانع، لكن خيل إلىّ أنه قد آن الأوان، بدءا بالإعلام الرسمى، ثم الإعلام الوطنى الشريف، (دع جانبا الإعلام الخارجى، فهو وضميره) أن نكف عن الكلام عن الفساد والمفسدين، لنتفرغ لما هو أهم، ولكى نحقق ذلك خطر لى اقتراح أوجزه فيما يلى:
هيا نعتبر كل الذين “كانوا” يركبون المحمل فاسدون، أو على أحسن الفروض كانوا عاجزين عن الفساد أو النهب، (و”النهب” مِنْ شِيَمِ النفوسِ فإنْ تجْد ذاعفةٍ فلِعلِّةٍ “لم ينهبِ”) (مع الاعتذار للمتنبى للتحوير البسيط)، ولا مانع أن نعترف أنه كان بينهم بعض الشرفاء وأغلبهم كان عمرهم قصيرا فى شغل مناصبهم، فليكن الأمر كذلك، ولنسلم ملفات الجميع إلى قضائنا العظيم، فعلا، بعد أن طال الرأس بهذا الوضوح والجسارة والاحترام، ثم أعقب رأسها بالذنب المتشعب، وحل الحزب المزعوم تحت اسم الوطنى، وعلى كل من عنده دليل جديد آخر، أو اتهام مدعم لشخص جديد أن يتقدم به إلى ساحة القضاء، وهو مطمئن تمام الاطمئنان إلى أن العدل سوف يأخذ مجراه، وإذا قصرت الأدلة عن إدانة شخص شديد الفساد، كما شاع أو كما نتصور، فلنحترم ذكاءه، وحسابه على الله، ولنحترم القضاء العظيم فى نفس الوقت ولا نتهمه بالقصور أو التقصير ناهيك عن التواطؤ، وقد تصورت أننا بتنفيذ هذا الاقتراح يمكن أن نتفرغ جميعا لبناء الدولة الجديدة، وقد بدأ ذلك فعلا باستعادة المؤسسة القضائية هيبتها وقدرتها.
فى رأيى أن أى حديث الآن عن الفساد، أو عن إقصاء أو إبدال أفراد بعينهم لن يمنع إفراز رئيس مثل الرئيس السابق ولن يحول دون استشراء فساد صورة طبق الأصل من الفساد السابق مالم تتغير آلية تشكيل هذا، ومحاسبة ذاك وهو فى عز سلطته.
نحن لم نعد نحتاج إلى مزيد من التفسير والتأويل والفتاوى والمنظرة، مع ذلك فما زالت الكلمات تتدفق بوفرة وافرة فى ساحات الحوار، وحول الموائد المستديرة والموائد المستطيلة والكراسى الواسعة (الفوتيه) المتقابلة، والمتجاورة، آن الأوان أن ننتقل من ظاهر المظاهرات المليونية، إلى واقع مصلحة الملايين عندنا وعبر العالم، من الفرحة بتصفيق الخواجات لنا ولشبابنا إلى الحذر من هجمة قراصنة الثورات، من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إلى فعل المعروف ومواجهة المنكر، لا معنى للتفسير لمجرد التفسير ومن ثمَّ إظهار الذكاء (الحداقة) والقدرة على الإحاطة بالمسألة، لابد من ربط أى تفسير باقتراحات عملية نابعة من هذا التفسير بالذات أو ذاك، اقتراحات تساهم ليس فقط فى عقاب الفاسد، وإنما فى منع تكرار ما كان، إن أى تفسير لا يؤدى إلى وصية عملية وقائية محددة قابلة للتنفيذ بدءًا من الآن، لم يعد مطلوبا بل هو أصبح معطلا.
ثم إنه لابد أن يؤخذ أى تفسير وخاصة التفسيرات النفسيه، على أنه مجرد فرض علمى، يحتمل الصواب والخطأ، لابد من أن نعترف أنه لا يوجد تفسير كامل جاهز، كما أنه لا يوجد تفسير نهائى لأية ظاهرة صغرت أم كبرت.
ثم إن كل ظاهرة لها أكثر من تفسير على أكثر من مستوى
لا يكفى تفسير الانتفاضات الوطنية بتفسيرات محلية ثم نتوقف عند ذلك.
لا يكفى أن نفرح أو نصفق للابن وائل غنيم ونحن لا نتابع تحركاته من ميدان التحرير إلى صندوق النقد الدولى (BBC آخر تحديث 6 أبريل) هذه ليست دعوة للشك من أجل الشك أو لحرمان شبابنا من احترام عطائه وتلقائيته وتضحياته، والاعتراف بفضله، لكن الحذر واجب لأى متابع لما يجرى عبر العالم من محاولات صياغة اقتصاد العالم فى نظام واحد بهدف أوحد هو خدمة الأقوى والأثرى والأقدر، هذا النظام المالى الموحد يقوم بتوزيع الأدوار على كل بلاد العالم، بأسلوب إملائى ملزم لخدمة مقدساته الماليه اللاأخلاقية المتحيزة، ومن يخرج عن ما أمرت به هذه المقدسات المالية يُكفّر فورا.
شعار هذا الدين المقدس الجديد هو “مِن كلٍّ حسب غَفْلته وإلى كلٍّ حسب تبعيّتِه”.
المتابع لأوامر ونواهى ما يعلنه صندق النقد الدولى، سوف يتعرف على أوامر ونواهى وطقوس هذا الدين المالى العولمى الجديد، وقد يوهب الذكاء والشجاعة ليقرأ ناقدا كتبه المقدسة عن “الديمقراطية” (الملوثة)، وفيتوات (من فيتو) مجلس الأمن…الخ، لقد انتبهت كثير من القوى اليقظة عبر العالم بما فى ذلك قوى النقد والابداع داخل أمريكا ذاتها وغيرها من دول الغرب إلى خطورة تقديس هذا الدين، كل من انتبه إلى خطورة هذا التقديس يحاول أن يخرج عنه ولو اتهم بالهرطقه والمروق مثل روسيا والبرازيل والهند والصين وإلى درجة أقل جنوب أفريقيا، بعضها من ذوات الاقتصادات الصاعدة، والأخرى من ذوات الاقتصادات المنافسة.
إننا حين نحاول أن نفهم أعمق واشمل لا نحرم حركة الشباب من فضلها، وإنما نحاول حمايتها من القراصنة الجاهزين للانقضاض عليها.
إن ما فعله الشباب، فالشعب، يكفى أن نتذكر من خلاله أننا أهل حضارة حقيقية، بل إنه يغرينا أن نصدق أننا مازلنا قادرين على الإسهام فى تشكيل الوعى العالمى الجديد فى مقابل هذا الدين المالى اللاأخلاقى، وذلك للاسهام فى تشكيل البشر وانقاذهم مما ينحدرون إليه
نحن جزء من العالم، وإيماننا بالبشر إلى الحق تعالى قادر على تعرية هذا الدين الانقراضى الزاحف
شكرا للشباب وللمصريين جميعا، ولكل المساهمين معنا.
نحن قادرون على الاستمرار الآن، بفكر آخر، وعمل آخر، وإبداع آخر.
ولهذا حديث آخر