نشرة “الإنسان والتطور”
31-10-2010
السنة الرابعة
العدد: 1157
تعتعة الوفد
قليل من الخيال، يصلح السياسة
تعلمتُ من مرضاى، ومن محاولاتى أن أفهم من يختلف عنى، أن أتقمص أحوالهم الواحد تلو الآخر، وأفادنى ذلك كثيرا برغم الصعوبات واحتمال الخطأ، وكم تعرضت لحرج شديد مع نفسى حين أتقمص مريضا، دخل فأدخلنى فى منطقة حرجة من الأفكار والمعتفدات والاحتمالات لم أكن أتصور أننى سوف أزورها، بل إننى أدافع عن حق مريضى أن أصدق خبرته فيما يعايش من أعراض حتى الهلوسة، فمن حقه أن يشم ما لا أشم، وأن يرى ما لا أرى، مادامت خبرته حقيقية من واقعه الداخلى، وليس المرضى بالضرورة، وذلك حتى أستطيع أن أعود إليه ونحاول أن نقرا معا خبرته و قدرته على تنشيط ما يسمى حواسه الداخلية، بدلا من اتهامه ببعده عن الواقع لمجرد أننى أو أحد زملائى أو طلبتى لا نمر بنفس الخبرة.
محنة تقمصية أخرى صالحتنى على أصدقائى (مرضى وغير مرضى) من أى دين آخر، صالحتنى، بحق وحقيقى، غير حكاية المواطنة بالأحضان، والقبلات، والتصريحات الخطابية بقبول هذا الكلام الذى يستعمل من الظاهر، ذلك أننى حين أعامل أحد هؤلاء الأصدقاء المختلفين عن دينى، أسأل نفسى، ماذا لو كنت قد ولدت فوجدت أمى اسمها تريزا، ووالدى اسمه رياض، فأسمونى حنين أو حتى بنفس اسمى “يحيى”؟ أجيب نفسى كما أعلّم طلبتى وزملائى أننى كنت سوف أعيش وأموت باحتمال تسعة وتسعين فى المائة وتسعة من عشرة دائرة، كما ولدتُ، فأتعلم من خبرة التقمص هذه أن أحترم من هو على غير دينى، وأدعو لنا نحن الاثنين بأن يتغمدنا الله برحمته التى تسعنا معا بلا أدنى شك.
هذه المقدمة الطويلة هى لشرح فائدة التقمص فى استيعاب عمق الاختلاف، ومن هنا رحت أتمنى لو تقمص أحد أعضاء الحزب الوطنى المسئولين “جدا” دور المعارضة الجادة، إن وجدت، وهى موجودة حتما، تمنيت أن يستطيع هذا المسئول أن يتخيل أنه – مجرد تخيل- أنه يعيش فى نظام يسمح بتداول السلطة حقيقة وفعلا، وبالتالى فإن احتمال أن يخسر الحزب الوطنى الانتخابات، لا قدر الله ولا كان (لا تَخَفْ سيدى!!) – واردٌ، فهل يا ترى لو خطر هذا الخاطر على خيال مثل هذا المسئول، هل يا ترى سوف يظل أداؤه كما هو، وهو ما زال فى موقعه على كرسى الاستقرار؟ أم أنه سيعمل حسابه ألا يتحقق ذلك أبدا، أعنى ألا يحدث – لاقدّر الله – أى تداول للسلطة، ولا غير السلطة، يعمل حسابه ليس بمجرد أعلان أن المحظورة لن تحصل على ما حصلت عليه من مقاعد فى الانتخابات السابقة ، لست أعرف من أين لهم هذا التأكيد، ما داموا يزعمون أنه لن يكون هناك قانون مستعجل ينظم التزوير بالأصول الحكومية المرعيّة؟ أو ربما يصدر تشريع يلزم بتنفيذ مبدأ أنه “ما بُنِىَ على محظور فهو محظور” وبالتالى يحظر تسلم الحصانة لأى محظور مهما حصل على أصوات، تصورت أن مجرد مثل هذا الخيال لاحتمال تداول السلطة هو مفيد جدا لتحسين أداء أى مسئول نتيجة لشعوره باهتزاز الكرسى من تحته بالأصول القانونية جدا.، أو على الأقل بإعمال الخيال. قال تداول السلطة قال!!؟ “تداول سلطة من؟؟؟ يعنى ماذا؟ أهى لعبة؟ بعيدا عن شارب أيها واحد (من غير الكوتة لافتقاد الكوتة أى شارب والحمد لله)، تبادل السلطة لا يمكن أن يخطر حتى فى الخيال إلا إذا كانت هناك انتخابات بحق وحقيقى المرة تلو المرة، انتخابات تهدد أى كرسى مهما كان ثباته، ولا يتحقق ذلك إلا بعد نتائج متتالية تتراوح فيها النسب بين الجالس على الكرسى، والجاهز للجلوس عليه، بين 55 % مقابل 45% ثم 52% مقابل 48 % ، ثم حاسب يا جدع انتَ!! الحكاية قرّبت!! (وليس مجرد كلام أو صور البرادعى!!)، يتكرر هذا عدة مرات ، أقول إنه ما دام هذا الاحتمال غير قائم ولو فى الخيال فلماذا كل هذا التعب والمصاريف فى احتفاليات الانتخابات المتكررة بما تحوى من مخاطر، وكراسى فى الكلوب، وبلطجة، ومضاعفات، وفضائح أمام العالم الخارجى؟
أعرف أننى صعّبتها أكثر، فدعونى ألخص الرأى كالتالى :
إن فائدة أن تعيش فى بلد ديمقراطى (مع كل تحفظاتى على الديمقراطية المستوردة السابقة التجهيز بأمارة العراق، والكونجرس الصهيونى العالمى، والفيتو الأمريكى فى مجلس الامن ..إلخ)، هو أن يتصور الحاكم أنه سيترك موقعه، ويتصور المعارض أنه سوف يدير أمور بلده ببرنامجه البديل، قريبا، أو بعد فترة، إن هذا أو ذاك جدير بأن يحسن أداء القائم على الأمر، ويحسن استعدادا الذى يجهز نفسه لتولى الأمر.
أشعر أن المسألة ما زالت معقده، دعونى أحاول أن أجعلها أسهل.
أنا تعلمت الخيال طفلا من قصص عم شعبان وهو يدير الطلمبة “الماصة كابسة” ليملأ بها خزان المياه فوق سطح منزلنا، ثم من الخادمات الأمهات الطيبات، ثم من مرضاى أساتذتى، وأواصل تدعيمه الآن اسبوعيا من مجلة “ميكى” وبقدر ما أخشى عليه من التسطيح من مجلة “علاء الدين” .
فى عدد ميكى الأخير (برجاء الرجوع إليه يوم 21 الجارى، فالصور تجسد الخيال أجمل) وتحت عنون “دهب إنسان آلى” كان على عم دهب أن يسافر فى رحلة عمل، وكان كل العاملين لديه فى أجازة، ولم يجد أحدا منه ليحرس خزانته أثناء غيابه، فذهب إلى صديقه “عبقرينو” وطلب منه أن يطوّر له نظام الأمن بالخزنة عن طريق صنع إنسان آلىّ يشبهه تماما، وأن يكون قويا وذكيا وقادرا على التصرف والحركة فى مواجهة ألاعيب وحيل “عصابة القناع”، وقد استجاب عبقرينو لطلبه، وصنع له بديلا آليا كأنه توأمه، واطمأن عم دهب الحقيقى إلى إحكام الشبه وهو يرى دهب الآلى وهو يستحم (أو يعوم) فى كومة الأوراق المالية كما كان يحلو له أن يفعل، وحين حاولت عصابة القناع سرقة خزنة عم دهب، فوجئت بوجود شبيهه الآلى، الذى استطاع أن ينتصر عليهم مجتمعين بحيله وذكائه وأمانته، وأسلحته وأفخاخه، وحين عاد عم دهب الحقيقى من رحلته ، وقع فى فخ أعده دهب الآلى لعصابة القناع، ففرح بأن بديله يستعمل نفس حيله تماما تماما، لكن دهب الآلى استحلى السلطة، ورفض أن يتنحى عن دوره، بل وادعى أنه دهب الحقيقى، فى حين أن عم دهب الأصلى هو الدخيل، وعبثا حاول عم دهب الحقيقى استرداد مكانته وبيته وخزينته، فيلجأ إلى عبقرينو الذى لا يجد حيلة للتخلص من غرور وتمادى دهب الآلى إلا أن ينتظرا هو وصديقه دهب الحقيقى حتى تفرغ بطارية دهب الآلى خلال شهر او اثنين، فيطلب منه دهب الحقيقى أن يستضيفه حتى ذلك الحين، فيفعل مضطرا وهو يندم ، ويعلن أنه أخطا فى تصنيع الشبيه العنيد ويعلن: ” أن دهب واحد فى هذا العالم يكفى”.
هل يا ترى وصلت الرسالة؟ وأن دهب واحد فى هذا البلد يكفى؟ وهل يا ترى عندى حق أن أتصور أن السادة المستقرين على الكراسى، لا يخطر على بالهم، ولا فى الخيال، أى حتمال لما يسمى “تبادل السلطة”؟ وحتى لو فرغت بطارية عم دهب الآلى، فسوف يتبقى عم دهب الحقيقى واحدا فى العالم، كما تعلم الدرس عبقرينو.
الذى يمكن أن يغير الأداء، ليس فقط تغيير النظام،
وإنما خوف القائم على النظام من أن يتغير بحق وحقيقى.