نشرة “الإنسان والتطور”
19-12-2009
السنة الثالثة
العدد: 841
تعتعة الدستور
دعوة للدعاء لفريق الجزائر بالفوز فى كأس العالم !!!
لم يكن بإمكانى إبداء رأيى وسط هذا الدخان الأسود، وأشعة اللهب التى لم يصلنى منها إلا هذا القدر البشع من الانفعال الغبى، والهجوم والدفاع، والفتاوى النفسية، والكروية، والتاريخية، والقومية، والشوفينية، ثم قصائد الفخر والهجاء، ومقالات المنّ والمعايرة، وردود نكران الجميل أو التنكر له …إلخ ، برغم كل ذلك وجدت نفسى، وأنا أرد على بريد موقعى، أدعو لفريق الجزائر بالفوز، أى والله!!! قيل وكيف كان ذلك؟
نعم، أنا أدعو للفريق الجزائرى بالفوز دون أن تغيب عنى صورة أغلب ما حدث، وقيل، وشاع، أفعل ذلك وأنا أتخيل شماتة مدرب هذا الفريق الجزائرى، بل وأفراده ومشجعيه فردا فردا، بعد حصوله على الكأس، أو اقترابه منه، أرى الواحد منهم وهو يخرج لسانه، أو لسان حاله، وهو يقول: “هل رأيتم من نحن، كنتم سوف تخفضون رأسنا ورأسكم أمام العالم، ها نحن نثبت أننا الأحق ليس فقط بالتأهل للكأس، بل بالحصول عليه!!!”، أو الاقتراب من ذلك، نعم تصورت كل هذا، ولم أندم على دعائى لهم بالفوز، بل إننى تماديت فى الفرحة، بل وعزوت فوزهم هذا – الذى هو فوز لنا – إلى دعواتى!!!!
أنا لست قوميا عربيا، ولا أعرف ما يسمى القومية العربية كما شاعت فى القرن الماضى، حتى بعد أن أشعلها عبد الناصر، الله يرحمه، بخطبه، ومبادراته، وأحلامنا، وكاريزميته، انتظرت ان يترجم ذلك أو بعض ذلك على أرض الواقع “هنا والآن”: إلى اقتصاد ومصانع وعمالة متحركة وسوق مشتركة وحروب متكاملة وكرامة مصانة وإبداع قادر، فلم أجد إلا أقل القليل، سواء كان ذلك نتيجة قصور أو تقصير منا، أم كان نتيجة تربص القوى التى تعاملنا ليس أكثر من مخزن لوقودها، ودمى لسياساتها.
لغتى العربية هى التى هدتنى إلى أعماق جذورى، اللغة هى نتاج الوعى الكلى فى أرقى تجلياته، وبقدر ما تكون لغة قوم قادرة وبديعة ومبدعة، يكون الوعى الذى أفرزها كذاك، هذه اللغة بالذات، لغتى، لغتنا، لا يمكن أن يفرزها إلا وعى جماعى حضارى قادر، وهكذا عرفت أننى أنتمى لهذا الوعى مهما آل إليه حالنا الآن بفعل فاعل، وأيقنت أن علىّ أن أحيي هذا الوعى المدفون، وأن أحافظ عليه، وعلينا، لأحافظ على نفسى وناسى.
ثم وجدتنى أيضا أنتمى فى نفس الوقت إلى أجدادى المصريين القدامى وأنا أفحص ما أضافوا، برغم تحفظى الشديد على تقديس بعض آثارهم، أنا كلما شاهدت أهرامات الجيزة، برغم دلالة الإبداع والتحدى، تحضرنى صورة جموع أجدادى الذين رصوا حجارتها، سخرة، مختلطة مع أجدادى الأقرب وهم يحفرون قناة السويس، ولا تحضرنى عبقرية المهندس الذى صمم الأهرام، ولا صورة الإله الفرعون الراقد جثة جافة مخدوعا بخلوده، ولا المهندس ديليسبس، ولا الخديوى إسماعيل!! وهكذا أظل محتفظا بحقى فى مصريتى الخاصة من منطلقى الخاص، مصريتى التى تنطق العربية بتجلياتها العامية بكل اقتدار، أشعر بامتدادى من هؤلاء المصريين الأوائل الذين سجلوا، وسبقوا، وتركوا لنا وللناس، ما يثبت أن وعيهم لم يكن إلا وعيا بشريا مسئولا عن مسيرة البشرية وتطور الإنسان جميعا، ثم إنى حين أتلفت حولى، “هنا والآن”، وأخترق وجوه أهلى الطيبين الصابرين المتألمين المحبين للحياة، أجد بصمات هذه الحضارة فى كل مصرى مازالت قابعة فى قاع وعيه تتحدى تشوهاته الظاهرة التى فرضت عليه فرضا.
نعم، تصلنى عربيتى- أكثر من عروبتى- أنا المصرى، من واقع إبداع اللغة العربية ودلالة حضورها فى مشرقنا العربى راسخة جميلة، برغم تجميدنا لها أكثر من تجديدها، واتذكر أيضا كيف أننا لم ندخل الامتحان الذى امتحن به إخواننا فى المغرب العربى حين أراد المستعمر والعدو محو هويتهم بما ألحقوه بلغتنا الجميلة من إزاحة وتشويه منظمين خبيثين، ثم أفيق معجبا أشد الإعجاب بحركة التعريب التى جرت وتجرى هناك فى الجزائر مثلا، كأساس ضرورى لاستعادة الهوية الأصل، من خلال تعريب التعليم والتواصل والإبداع، مما أعتبره عملية تحرير إنسانية قومية حضارية، ليست أقل صعوبة وقداسة من حرب تحرير الارض، ثم أرى فى هذه الحركة الرائعة المعلنة صورة لأشرف التعاون بين المشرق والمغرب لقبول التحدى، عبر مشوار السعى الجاد المستمر لنتقارب من جديد ، وقد عدنا معا أهل هذه اللغة الجامعة المبدعة أبدا.
وبعد
ما دام الأمر كذلك، وما دامت الجزائر هى التى وصلت لتمثل العرب فى مباريات كأس العالم، فكيف لا ندعو لها بالنصر، حتى لو حضرتنى صورة جميع أفراد الفريق ومدربه، وهم يخرجون لنا لسانهم، (أو لسان حالهم)، شامتين معايرين، لكننا نحافظ على فرحتنا لهم ، ولنا، ومعهم، متألمين،
فيصدقوننا عاجلا أو آجلا،
لنكمل معا