نشرة “الإنسان والتطور”
15-5-2010
السنة الثالثة
العدد: 988
تعتعة الدستور
ثقافة الحرب من صلاح جاهين إلى نجيب محفوظ (1 من 2)
على رجلى دم .. نظرت له ما احتملت
على إيدى دم .. سألت: ليه؟ لم وصلت
على كتفى دم وحتى على راسى دم
أنا كُلِّى دم .. قتلت؟ .. والا اتقتلت؟
(وأيضا:)
من بين شقوق الشيش وشقشقْت لك
مع شهقة العصافير وزقرقْت لك
نهار جديد أنا .. قوم نشوف نعمليه
أنا قلت يا ح تقتلنى .. يا ح اقتلك
ما زالت علامات الاستفهام تتواصل حول التعتعين السابقتين التى وصفهما أغلب من تحمل قراءتهما : مرة بالغموض، ومرات بالتناقض، ويبدو أن عندهم حق.
ولمزيد من الإيضاح أقول (ولو أكرر) : إن المطروح على الساحة الآن هو: إما حرب عنترية، لا نضع لها حسابات احتمالات الهزيمة قبل النصر، حرب عمرها الافتراضى شديد القصر، لأسباب لا تتعلق بالحرب ولا بالمحارب، وإنما تتعلق بما لحق الوعى العربى من تشويه وتخدير، وما لحق الاقتصاد العربى من تبعية وغباء، وما لحق السياسة العربية من سذاجة واستعلاء فوق الناس، فضلا عن غياب العدل وتمادى الاستغلال، حرب فى ظروف كهذه هى مرفوضة جملة وتفصيلا.
البديل المطروح على الوعى العربى، والوعى المصرى يقع فى بؤرته، هو ما يسمى السلام، ولا أقصد معاهدة السلام (أكرر: التى أيدتتُها- وما زلت- ممرورا) ، وإنما أقصد هذا الكذب المتمادى أننا: يمكن أن نتآخى مع عدو يحمل لنا كل هذا الاحتقار والتهوين، وهو يحتفظ لنفسه بكل الفخر الآنى والتاريخى، والتميز الدينى، والقنبلة الذرية وأدوات التجارة والاستغلال، نتآخى معه لأن هذا هو المطلوب من سادة العالم، ليستمروا فيما هم فيه وأكثر، ونستمر نحن فيما نحن فيه وأذل وأدنى، والاسم “سلام”، هذا هو ما نبهت عليه وأنا أحاول التفرقة بين اتفاق اضطرارى لوقف التقاتل والقتل مؤقتا، لحين البحث عن وسيلة أخرى، أو اختيار وقت آخر، أو الاستعداد لميدان آخر، وبين أن نصبح مع قاتلنا ومُـذلنا، سمنا على عسل، وهو يدعونا للحاق به – مع فارق السرعة- على نفس طريقه لنحقق له مآربه وربما نقتات بما يتبقى من فتات يتساقط منه من علم وتكنولوجيا وحقوق إنسان وشوية ديمقراطية.
قلت ذلك فى التعتعتين السابقتين حتى أننى أخجل الآن وأنا أكرر نفس الكلام (تقريبا).
يبدو أن ما جعل الأمر بكل هذا الغموض أكثر فأكثر : أن كلمة ثقافة كلمة ملغزة بتاريخها وحضورها، مع أننى حددت ما أعنى بها من وصف للوعى الجماعى (أو العقل الجمعى)، إلا أن أغلب الناس لا يعرفون معنى للثقافة إلا بارتباطه بمكلمات المثقفين، أو بوزارة الثقافة، أو على أحسن تقدير، بالمجلس الأعلى للثقافة.
ثم جانب شخصى محرج: فكلما أمسكت بالقلم لأكتب عن “ثقافة الحرب”، وأتوقع أن المتلقى سوف يتلقاها كـ: “دعوة إلى الحرب” فيصلنى من نفسى (ومن قارئى تخيلا) هذا التساؤل: هل من حق من هو مثلى، يجلس على مكتبه المكيف أعلى المقطم، فى درجة حرارة 19 والجو فى حارة السكر واللمون درجة حرارته 38 وفى عزبة القصيَرين 37 وفى صحراء سيناء 40 وفى غزة 35 درجة مئوية، وسط الخراب والدمار والجوع والمهانة، هل من حقه أن يشير إلى احتمال الحرب، ناهيك عن ضرورتها، فضلا عن حتميتها، ومهما قلت لنفسى (ومن ثم للناس) إن الدعوة إلى التمسك بثقافة الحرب لا تعنى إعلان الحرب بهذا الاختزال المخل، فلن يصدق أحد إلا أنها ليست مجرد دعوة إلى شىء فيه حرب وقتل ودماء وجوع ويُتم وخراب وانهيار، حتى للمنتصر، ماذا أفعل إذن؟ ألأنى بلغت هذا العمر، وأعيش فى ميسرة هكذا، ا أسمح لنفسى أن أجلس أكتب هذا الكلام على راحتى هكذا؟ أخجل، وأتردد، لكننى أواصل، فهى أمانة رؤية لا أملك لها حبسا، نعم مرة أخرى: أنا أكره الحرب كره العمى– عادى- ولا أرجوها لى ولا حتى لأعدائى، ولو مع غيرى، فإلى ماذا أدعو إذن؟
يا عم صلاح يا جاهين، أوحشتنا، هل أجد عندك ما يسهل مهمة أن أشرح كيف أن الإنسان الذى كرمه الله ، لكى يبقى مكرما، لا بد أن يعيش فى قتال شريف طول الوقت؟!!
هكذا حضرت الرباعيتان اللتان صدّرت بهما التعتعة، لكن المساحة انتهت، فتأجل الشرح على المتن.
أما شيخى نجيب محفوظ، الذى اتـُّهم من أصوات زاعقة قاصرة لم تفهم موقفه من السلام كما ينبغى، فسوف أستنقذ به بدءا بالرجوع إلى بعض نقدى لعمله: “ليالى ألف ليلة” والذى عنونته بهذا العنوان: “القتل بين مقامىْ العبادة الدم”،
وإلى لقاء فى تعتعين متلاحقتين غالبا.