نشرة “الإنسان والتطور”
5-3-2012
السنة الخامسة
العدد: 1648
تعتعة التحرير
مستويات العدل و”عقيدة القاضى”
أخيرا حجزت القضية للحكم، فأشفق على سيادة المستشار أحمد رفعت وهو يراجع 72 ألف صفحة فى 100 يوم ليصدر حكمه (الأخبار 24 فبراير2012) ، وهو فقيه قاونى شجاع وقدير، ومع ذلك فلا بد أنه يعانى، مثل كل القضاة الشرفاء، من صعوبة تكوين ما يسمى “عقيدة القاضى”، ثم وهو مطالب بعد أن يصل إلى قراره، أن يكتب حيثيات أعانه الله عليها وألهمه الصبر والصواب.
الصعوبات فوق كل تصور:
أولا: هذه قضية جنائية وليست محاكمة سياسية
ثانيا: أغلب ما يجرى فى الشارع، هو انفعالات كثير منها عشوائية تتعلق بجرائم سياسية وثأرية.
ثالثا: أصدرت الشوارع والميادين أحكامها بإعدامات كثيرة لا تقبل النقض.
رابعا : صدرت تهديدات صريحة وصارخة ، من أول الانتقام من القاضى نفسه، حتى التلويح بحرب أهلية إذا صدر الحكم بالبراءة مثلا
خامسا: للقاضى مشاعره الشخصية كمواطن مصرى، يحزن مثل كل الناس لما آل إليه حال البلد ، ويتألم ويعانى، ويرتبط هذا شعوريا، أو لاشعوريا بتكوين عقيدته للحكم المنتظر.
حاولت فى المقال السابق هنا بعنوان “ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا..” أن أخاطب كل الناس المستعجلين والمتوعدين، والمجروحين وأصحاب الثأر، ولا أظن أننى نجحت إلا قليلا.
أشرت أيضا فى ذلك المقال السالف إلى انزعاج أحد ابنائى وتلاميذى فى الخارج حين تصور أننى أدعو إلى محاكمة استثنائية، حتى لو راح ضحية هذا الاستعجال بضعة آلاف من الأبرياء، انزعج وهو فى فرنسا حتى حلم بكابوس، أو ألفهه، ينبهنى من خلاله إلى مدى قسوتى فيما يلى كابوسه المزعج، أرسله لى، قال:
كابوس: حلمت أن مجلس الشعب أو الجيش أو الثوار قرروا العمل بما أشرتَ به فنصبوا محكمة ثورية وأحالوا 5000 شخص إليها و حكمت بالإعدام شنقا علي 954 و كلفتك المحكمة (د.يحيى) باقتياد المحكوم عليهم إلي حبل المشنقة فأخذت الواحد تلو الآخر وألبسته العمامة السوداء وطلبت منه أن يقرأ الشهادة وهو يدعو ربه طلبا للمغفرة فاستجاب و شكرك ودعا لك بدوام الصحة وطول العمر فحركتَ الذراع التي تتحكم في الطبلية فسقط المحكوم عليه وظل يتدلي في صمت، وتأكد الطبيب من وفاته فنزع الحبل من عنقه وأشار لك فتوجهت لإحضار المحكوم عليه التالي…استيقظتُ مفزوعا…
(انتهى حلم صديقى) وكما فعلت فى نقدى للنصف الثانى من أحلام فترة النقاهة لنجيب محفوظ، قياسا على منهج أن الشعر لا ينقد إلا شعرا، فالحلم لا ينقد إلا حلما، رددت عليه بحلمى كما يلى:
“… انقطعت الكهرباء ثم عادت بعد ثوان: فوجدتُ نفسى فى ميدان التحرير وقد امتلأ بشباب مثل الورد، سرعان ما انضم إليهم ناس مصريون كـُثْرٌ أعرفهم وأحبهم دون تمييز، لكن وجوها أخذت تظهر بينهم أو ربما تغيرت وجوههم، فامتلأ الميدان أكثر فأكثر بناس من كل الأعمار يلبسون الريش حول وسطهم، ونصفهم الأعلى عارٍ إلا من عقود من ورق الشجر، ولون بشرتهم أبيض ناصع مشرب بحمرة تتناسب مع الشعر الأصفر، لكنها تبدو نشازا مع أنيابهم البارزة، أما النصف الأسفل وبرغم تغطيته بريش طويل إلا أنه لم يكن يستر سيقانهم الرفيعة جدا، كما كانت أقدامهم تنتعل أحذية غريبة هى أقرب شبها بحوافر لا أعرف الموطن الأصلى لأصحابها، وبين السيقان ذات الحوافر كان يمرق صبية وفتيات ما بين الرابعة والحادية عشر، حلوا محل الشباب الجميل، بعضهم يضحك مقهقها، والآخر يبكى فزعا وهو يبحث عن والده أو والدته،
ثم تحول المنظر إلى مسرح كبير به مقصلة إلكترونية تعمل طول الوقت، وعلت الهتافات ولم أتبين إلا ألفاظا متناثرة مثل “الدم”، و”الإعدام”، و”القتلة” وانقض بعض الراقصين على بعض الحاضرين الذين ظهرت بينهم وجوه رسمية، وصفوهم فى صفوف وقد كمموا أفواههم وربطوا أذرعهم خلفهم، فهلل الجميع وكبروا، كما تعالت صيحات هنا وهناك، فلمحت ابنى د.رفيق حاتم ثالث واحد فى الصف الرابع، فقفزت من بين الجميع أصرخ أنه لم يكن هنا أصلا أثناء قتل الشهداء، وأن عندى صورة من مريضة تحبّه كان يعالجها فى “سان سباستيان” بالقرب من باريس فى نفس توقيت اتهامه، وأننى أعرفه وهو أرق من أن يفعص صرصورا فى الحمام، ولا أحد يسمع، فأخذت أزيح كل من يعترض طريقى، لكن المقصلة تعمل بلا توقف، وقطعت رأس الشخص الأول، ثم الثانى ولم يبق إلا واحد ليأتى دور ابنى رفيق، وكنت قد وصلت إليه وإذا به يدفعنى بصدره وأنا أحاول أن أخرجه من الصف ويقول لى “دعنى لو سمحت، ألم تقل أن الأبرياء سوف ينالون الشهادة ويدخلون الجنة، أم أنك تستخسر فىّ الجنة لأنى على غير دينكم؟” قلت له ما هذا، ألا تعلم أن الله لا يفرق بين الأديان؟، وفجأة انقطعت الكهرباء مرة ثانية وأطفئت الأنوار، وتوقفت المقصلة، ولم يعد أحد يرى أحداً،
وحين عادت الأنوار من جديد وجدت المنظر تغير ووجدتنى جالسا فى المونمارتر ومعى “نسمة رفيق حاتم” فرحت أسألها عن ياسمين وفرح وأمهمها ابنتى د.أمانى، فقالت نسمة إنها فقدتهن فى ميدان تحرير باريس (الإتوال) أثناء ثورة الشباب سنة 1968، فجزعت وجلست على الرصيف باكيا، فاحتضنت “نسمة” رأسى تربت عليها وراحت تصفر بفمها: فحضرت ياسمينة ثم فرح ورحن يغنين معها “الفرسان حول المائدة المستديرة” وهنّ يتضاحكن ويدفعننى إلى سلالم الساكركير، فأتعثر متدحرجا حتى أسفل السلالم المحددة درجاتها بأطراف حادة، والجروح الدامية تزداد انتشارا فى كل جسمى لكن بدون ألم، وفى نهاية السلم، وجدت رفيق وأمانى فى انتظارى بالحضن وهما يقهقهان ويبدآن فى تضميد جراحى، فأسألهم عن سبب الضحك فيقولان: لأن هذا “كاتشب” وليس دما…” (انتهى الحلم).
خلاصة القول:
دعونا نتذكر مستويات العدل التى ذكرتها فى مقالى الأسبوع الماضى، قبل أن نصدر أحكامنا على هذا المستشار الكريم الذى يحاول أن يؤدى مهمته فى حدود قدراته الإنسانية، وما لديه من أدلة:
1) عدل الانفعال فى محاكم الشوارع
2) عدل الاستثناء فى محاكم الشعب أو الثورة
3) عدل الشرعية فى محاكم القضاء بالقوانين الراسخة
4) عدل البصيرة ومحاكمة الشخص لنفسه (بل الإنسان على نفسه بصيرة) (كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا)
5) عدل الله سبحانه الذى يطال المتهم والمجنى عليه، والقاضى جميعا
وفقك الله يا سيدى المستشار، وأعانك،
وأنار بصيرة شعبنا ليجزيك حقك مهما كانت أحكامك.