نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 28-11-2012
السنة السادسة
العدد: 1916
تعتعة التحرير
أدعو الله أن أموت تحت مظلة دولة لها معالم!!
قبل المقال:
هذا بعض مقال قديم لى نشر بتاريخ 7-3-2002، (إثر حادث احتراق قطار الموت على خط الصعيد)، كل ما عملته أننى حذفت منه ما يتيح له النشر فى المساحة المتاحة لى هنا .
تـُـرى ماذا تغير بعد عشر سنوات وعشرة أشهر؟
من المقال القديم :
…. هل توجد علاقة بين قطار جحيم الموت الطائر، وهزيمة يونيو، والكارثة الاقتصادية التى نمر بها، والكوارث القادمة التى تنتظر الإعلان (لا قدر الله – لكنّها قادمة)؟ ……..
وماذا ينفع الحداد؟ أو التعويض، أو العويل، أو العديد؟ أو الاستقالة؟ أو التحقيق؟ أو التصريحات؟ أو التعازى؟ أو محاكمة المسئولين؟ أو عقاب المقصرين؟ ماذا ينفع كل ذلك إذا كانت الأسباب هى هى، والنظام هو هو، والمسئولون هم هم؟
لعل أبعد الناس عن المسئولية المباشرة – بالمعنى الأعمق- هم الذى استقالوا، أو استجابوا لأوامر إقالتهم. إن نظاما تغيبُ فيه سلطة الدولة،….. كما يغيب الخوف من المحاسَبة الشعبية، ومن سلطة القانون، ومن احتمال ترك الكرسى، إن نظاما يغيب فيه كل هذا لا يمكن أن يفرز إلا ما يؤدى إلى مثل هذه الكوارث التى تحدث وكأنها بالصدفة مع أنها نتاج الحتمية البديهية لما يجرى على أرض الواقع.
تبدو الصدفة فى شكل مس كهربائى، أو انفجار بوتاجاز، أو أحداث الأمن المركزى (1986) … لكن الحتمية هى فى القرارات التحتية، والخبطات التفردية، والنظام المتهالك، ….. إنه خيط واحد يربط بين التهاون فى السماح بموقد جاز فى قطار متهالك، والتهاون فى حق الناس أن يشاركوا فى قرارات السيادة والكرامة.
كل المصائب التى تبدو طارئة …. هى النتيجة الطبيعية لنظام لا يريد أن ينصت، أو يواكب العصر، أو يرسو على بر، ليتمكن هو نفسه من إعادة تقييم أدائه، أو تعديل أخطائه.
……….
……….
قبل هذا الحادث، تبيّنتُ أن معنى الموت قد تغيّر وتنوّع حتى عند من يزعمون الانتماء إلى حضارة حقوق الإنسان وما شابهها. العالم المتقدم راح يتفاعل مع الموت حسب الجنس واللون والدين. أغلب الشارع الغربى (دع جانبا حكامه) استسلم لإعلامٍٍ مبرمج جعله يتفرج على إزهاق أرواح ضحايانا من الفلسطينيين بشكل لا يفرقه عن متفرجى مصارعة العبيد للوحوش أمام صفوة الرومان.
……….
هذا الفقد الذى بدا كارثة إنسانية بكل ما تعــنى الكارثة، ليس أهم فقدٍ مررنا به أو نمر به، ولا هو أخطر فقد أو أقساه. إن المتابع لما كتب عن الحادث وبعـده، بما فى ذلك ما حدث من استقالات أو إقالات، لا يمكن أن يطمئِـنَ إلى أن المسئولين قد أدركوا معنى ومغزى ما حدث تماما، …. لا أظن أن أحدا من المسئولين قارن بين شهداء قطار الصعيد، وشهداء فلسطين ، وبين الخمسة عشر ألفا الذين استشهدوا فى قطار البشر الزاحف إلى الخلف سيرا على الأقدام فى يونيو 1967.
……….
كان ثم موقف مواز – دون تشبيه- عقب أحداث الأمن المركزى سنة 1986، وكان لا بد من التحذير من خطورة تسطيح القضية بتقديم كبش فداء (اللواء الوزير أحمد رشدى)، ثم ننسى، فنستمر كما نحن دون هِـزة جذرية كما ينبغى،….إلخ
……….
فى يوليو سنة 1997، سمحتْ هذه الصحيفة بنشر خطاب مفتوح وجهته للرئيس مباشرة، بعد أحداث السائحين فى الأقصر، قلت فيه:
……….
“الأمر- يا سيادة الرئيس – لا يحتاج منك أن تنتقل إلى الأقصر لتعاين بنفسك – بعد الكارثة- مدى التهاون الأمنى، ولا يحتاج منك أن تضيع وقتك تحتضن هذه الطفلة السائحة البريئة وتربت على كتف هذا العجوز الأجنبى الطيـب، لا يحتاج الأمر كل ذلك حتى تعرف – سيادة الرئيس – إن كانت هناك “دولة” تسيّر أمورنا أم أن ثم تهريجا يصم آذاننا ويهدد حياتنا؟ ….”
……….
….. إن مجرد الوقوف بجوار إشارة مرور بعض ساعة، أو الجلوس بجوار مكتب على رصيف خارج الشهر العقارى،…. أو فى لجنة امتحان مدرسة إعدادية حيث استشراء ظاهرة الغش الجماعى إلخ. كاف لتوصيل الرسالة لمن يحسن الاستماع “….إن التفسير الذى أطرحه لما حدث فى الأقصر….، يمتد إلى الدعوة إلى ضرورة فهم أسباب موت الدولة“
….. إن الإصلاح “…. لن يتم بزيادة إجراءات الأمن عشوائيا، ولا بتغيير مسئول، ولا بنقل عشرين لواء إلى مصلحة السجون وإدارة المجارى، ولا بإرهاقكم – سيادة الرئيس – بكل هذا المجهود والترحال!! وإنما يتم بإعادة تشكيل الدولة خارجنا، ومن ثم ّ داخلنا، وذلك بالتأكيد على وضوح القيم وعمومية الانتماء، وحتم العدل..إلخ…إلخ”
إن الذى يمنع مثل هذه الحوادث، من أول الكوارث الجسيمة السرطانية الجماعية (هزيمة 67)، حتى ما هو مثل كارثة قطار موت الفقراء المعيِّدين على الجانب الآخر، هو أمور ثلاثة :
(1) دولة عصرية قوية تطبق القانون على كل الناس دون استثناء، من أول قانون المرور حتى قانون التجنيد، وبالتالى يخاف رجل الصيانة كما يخاف أى وزير من مغبة الإهمال. فيطمئن الناس، ويسلموا، ونكسب الحروب0 والسلام معا .
(2) حس حضارى، يؤكد وجود القيم الحضارية داخل كل أو معظم أفراد شعب ما، الحاكم منهم والمحكوم على حد سواء.
(3) محاسبة دينية ملاحِقَةْ تتمثل فى استعادة الوعى الشعبى الذى يذكرنا أن الله هو المحاسِب الأول “من أخذ الأجرة حاسبه الله على العمل” وأن “.. الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره”، و أن “.. الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه”.
إن المطلوب فورا هو البحث عن وسائل إعادة تأسيس دولة تحمل مسئوليتها، تجاه شعب “غُلب غلابه”، وجاع أغلبه، وجهل طلابه، وتسطح علماؤه. واهتز اقتصاده، لكن أفراد هذا الشعب ما زالوا يحاولون باستمرار. رغم تصريحات المسئولين على الناحية الأخرى.
رحم الله الذين رحلوا،
وبارك فيمن تبقى، وحفظ عليهم كرامتهم حتى يختاروا الميتة اللائقة، ما أمكن ذلك.
وبعد (فى : 18-11-2012)
هل هناك ما يمكن أن أضيفه لأقدمه للرئيس الحالى، أو للنظام الجديد، أو للدولة تحت التأسيس؟ أم أن كل كلمة قيلت قبل عشر سنوات مازالت صالحة للاستعمال برغم مشروع الثورة، والإخوان، والإسلام هو الحل، ولجنة الدستور، وفيضان “التوك شو”؟
لا أقول علينا أن نستعد للثورة القادمة بعد عشر سنوات أخرى،
ولكنى أدعو الله أن أموت وأنا تحت مظلة دولة لها معالم.
وليس هكذا.