“يوميا” الإنسان والتطور
6-9-2008
السنة الثانية
العدد: 372
تعتعة
اختبارات الكادر، وانهيار القيم، وجدوى التعليم
اعتذرت لى المدرسة الشابة السمراء فى عيادتى أنها تأخرت عن الاستشارة، لأنها كانت مشغولة فى أداء امتحانات كادر المدرسين، فانتهزتها فرصة لأسألها عن رأيها فى ذلك، فأجابت بطيبة أنها أدت الامتحان بكفاءة مناسبة، وأنها ترى أن هذه الفرصة قد أتاحت لها مراجعة معلوماتها، وتجديد ذاكرتها، ولم أسألها: إذن ماذا؟ ثم ماذا؟
كنت فى شطحى الباكر، وصلت إلى درجة التساؤل عن سبب حرصنا على سلامة العينين، خاصة وأننى كنت معجبا بذكاء وألمعية وحضورالشيخ الكفيف محمد أبو عبد الحافظ فى بلدنا الذى تعلمت منه – فى الأربعينات- معنى السياسة ومعان أخرى كثيرة فى الحياة، تعلمتها من قفشاته وسخريته ومتابعته لكل ما يجرى من موقعه الوفدى المتميز، وصل شطحى إلى درجة التساؤل: هل يكفى أن تكون عيوننا سليمة (6/6) لنطمئن أنها قادرة أن ترى؟ أم أن المهم هو: ماذا ترى؟ ولماذا ترى؟ ثم ماذا؟ كان هذا عبث باكر على أحسن الفروض، لا هو نكتة، ولا فلسفة، مع أننى كنت أتصور أيامها أنه ألف باء المنطق السليم. لقد وهبنا الله عينين لنرى بهما، لكن لنرى بهما ماذا؟ وبأى مقياس وعلى مدى أى طيف من التنوع، وإلى أى مستوى من الاستيعاب؟ طبعا بمجرد أن كبرت وعقلت، تراجعت عن هذا الشطح الخطر، ولم أعلنه لأحد إلا الآن، بعد أن اطمأننت أن احدا لم يعد يفهم، أقصد لم يعد يعنيه أن يفهم، عذرا.
ثم ظهرت بدعة جديدة فى التطبيب النفسى، ظاهرها طيب، وباطنها مشبوه، ذلك أنه حين تزايدت الاحتجاجات على الآثار السلبية لبعض العقاقير النفسية لأنها قد تخفى الأعراض، لحساب مزيد من التبلد والجمود والانسحاب، ظهرت مقاييس نفسية تقيس شيئا أسموه “نوعية الحياة”، وراحت الشركات تؤكد بطريقتها أن عقار كذا، يحسن “نوعية الحياة” بالإضافة إلى إزالة الأعراض، ولم أجد فى أغلب ما عرضته تلك المقاييس ما يبرر لى الحياة !!
وحين رحت أتابع “هيْجَة” اختبارات كادر التعليم حضرتنى أسئلة مزعجة هى التى استدعت ذكرياتى عن الشيخ محمد أبو عبد الحافظ الكفيف، وعن نوعية الحياة حسب مواصفات شركات الأدوية، أسئلة لم تبلغ “شذوذ شطحى الباكر”، ولا “شكوك حذرى المتأخر”، أسئلة منها:
- هم يمتحنون المدرسين،فى ماذا؟ لماذا ؟
- هل نحن قد حددنا سنة 2008 (أكرر 2008) ماذا نعلِّم ؟ مـَـنْ ؟ لماذا؟
- هل هذه الامتحانات بهذه الطريقة هى لمعرفة ماذا تبقى فى ذاكرة المدرسين من معلومات موادهم (كما قالت لى المدرِّسة الطيبة زائرة العيادة)؟
- هل توجد أسئلة فى اختبارات الكادر تقيم الأخلاق بطريق مباشر أو غير مباشر (بعد أن أصبح الغش فضيلة، والتعاون على التفويت له ثوابه؟)!
- هل عندنا محكات موضوعية ، نقيم بها جدوى هذه الامتحانات، ليس فى أن يحصل المدرس الشاطر على حقه فى تعديل راتبه، وإنما جدواها وعائدها على العملية التعليمية ذاتها (وعلى البلد)؟؟!!
- هل هذه الجدوى، إن وجدت، لها أثرها العملى والواقعى فى تهيئة الفرصة للمتعلم أن يحصل على لقمة عيشه بكرامة، وهو يخدم بلده بإنتاجه، ويخدم ناسه بإخلاصه، ويعبد ربه بعمله؟ (مقارنة بمن لم يتعلم؟)
ثم إن ربط اختبارات الكادر هذه بعلاوة مادية معينة، مع أنه ربط منطقى، وأغلب الدول المتحضرة تفعل ذلك، قد يساهم فى مزيد من تدعيم القيم السلبية التى انتشرت فى مجتمعنا مؤخرا. إننى أتوقع أن الذى لن يوفق فى اجتياز هذه الامتحانات ليحصل على حقه فى الكادر الجديد، سوف يسارع بالتعويض من خلال الدروس الخصوصية والتغشيش أيهما أربح (أو بكليهما معا غالبا)، وسلّم لى على الكادر.(موجز العنوان فى الصفحة الأولى فى دستوراليوم “الجمعة”، أثناء كتابتى هذه التعتعة يقول: ..المعلمون انقسموا إلى قسمين: الأول اعتصم ورفض دخول اللجان، والثانى اعتمد على الغش الجماعى.. عالبركة!!)
ومع أننى مع فكرة التقييم المستمر فى كل المجالات بمختلف الوسائل أسوة بالدول المتحضرة، التى أصبحت درجة الدكتوراة فى بعضها لها عمرها الافتراضى المحدود، أى أن حاملها لا يستمر يحملها إن لم يجددها ليثبت أنه ما زال فى مستواها، أقول مع أننى مع هذه الفكرة فعلا، إلا أنها ينبغى أن تكون جزءا من منظومة كلية تشمل الجميع دون استثناء، من عامل النظافة حتى رئيس الوزراء (يكفى هذا)، مرورا بأساتذة الجامعة، على أن ننتبه أن تكون اختبارات الوزراء فى السياسة، وليس فى التخصص، فمثلا يختبر وزير الصحة فى مدى كفاءته فى إدارة الناس لصالح سلامتهم المتكاملة وتحريك الوعى الصحى الإيجابى، وليس فى أعراض الإيدز أو خطوات جراحة القلب المفتوح..إلخ.