الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ترحالات يحيى الرخاوى: الترحال الثانى: “الموت والحنين” الفصل الأول “الموت: ذلك الشعر الآخر” (7)

ترحالات يحيى الرخاوى: الترحال الثانى: “الموت والحنين” الفصل الأول “الموت: ذلك الشعر الآخر” (7)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأربعاء: 10-4-2024

السنة السابعة عشر 

العدد: 6066 

ترحالات يحيى الرخاوى

الترحال الثانى: “الموت والحنين”

الفصل الأول

(الفصل السابع: من الترحالات الثلاثة)

الموت: ذلك  الشعر الآخر (7)

 يختل مجرى العمر والأمل،

(لماذا ياصديقى؟؟)

دائرةٌ ملتاثة:

(عَجـّـلتَ بالنهاية؟)

تقضمُ فى المجهول والمعلوم أنيابُ الظلام الجائعة،

(هل ضقتَ ذرعا باللجاج والجشع؟)

ثارت أجنة الخلايا تصطرع“.

تعملقتْ فطرتك الأبيةْ

لم ترعَ عهداً، لا، ولمّا تنتظر

لــمْ نـقوَ بعدُ ياصديقى

(فيم العجالة والسام؟)

تقفز خلف الحدِّ، بعد العدِّ، تقتحمْ

ترجع نحو عشها اليمامةْ.

الأربعاء: 29 يناير 1986

 الساعة الخامسة وعشر دقائق (صباحا)

……………….

………………..

تختفى الصورة لتعود إلىّ الآن فأكتشف أن ثمة جدول ضرب أكبر فأكبر إلى ما لا نعرف، وأن إجابة تلك الأسئلة الملاحقة البادئة معظمها بـ”لماذا؟” لابد أن تقع فى مكان ما فى وسط محيط جدول الضرب الأعظم بلا حدود، وأفهم لم كان الايمان بالغيب ركيزة أساسية فى دينى، وأنه (الايمان بالغيب) هو قمة المعرفة، لأنه حركة متصلة تتجاوز دائرة المعارف المتاحة إلى ما بعدها، فلا نكتفى غرورا، ولا نستسلم غباء، ولا نتواكل عماء، وأجد نفسى انطلاقا من هذا الموقع ـ أقبل التحدى، فأروح أرد على كل الـ “لماذات” التى لاحقتنى مخرجة لسانها لى طول الوقت، أرد عليها من جنسها إيمانا بهذا الغيب: جوهر كل معرفة حقيقية:

س: لماذ  سعيد؟

جـ: ولماذا غيره؟ (رد الست نعيمة، حكيمتنا الحكيمة).

س: لماذا الآن؟

جـ: ولماذا بعد؟

س: لماذا هكذا؟

جـ: ولماذا غير ذا؟

وهكذا انتصرتُ أخيرا، فالحمد لله، عالم “الغيب” والشهادة. وهو الحكيم الخبير.

وأدعو الله ألا أكون موجودا لحظتها، وكأنى لا أريد أن ألحق هذه اللحظة بلحظة وداع والدى، فقد شعرت فى خبرتى الأخيرة هذه أنه (والدى) قد عاد فاستيقظ بداخلى بحضور ثقيل، منذ انفردتُ بصديقى هذا فى غيبوبته.

ولكن هل يا ترى كان صديقى هذا والدى، أم أنى كنت والده؟، أم أننا كنا نتبادل الوالدية فى اتفاق سرى صامت؟

 لعل كل الاجابات صحيحة ـ ولعل هذا هو ما دعانى أن أكرر لزوجتى (وابنتيه ذات مرة قبل وبعد وفاته) أنه لم يكن صديقى، فربما كنت أعنى أن ما بيننا كان شيئا أعمق من الصداقة أو متجاوزا الصداقة، أو هو شئ أهم من الصداقة، أو ربما أنا لا أفهم أصلا فى الصداقة مثلما لا أفهم فى الحب إياه، هل من معالم الصداقة ـ مثلا ـ تبادل الوالدية سرّا؟

 لم يكن سعيد صديقى بالمعنى السائد عند عامة الناس، فهو لم يشترك معى فى عادة، أو يواكبنى فى نشاط، أو يحرص على قراءة مجلة أُصدرها، أو يتمتع معى بصحبة لصيقة صريحة طويلة، (اللهم إلا فى “بيت نواب” المنيل فى قصر العينى، مثله مثل غيره من النواب)، كما أنى لم أستطع أن أعرّى نفسى أمامه “تماما” كما أفعل مع آخرين أقل قربا إلىّ منه (وكل هذا عندى هو من مقومات الصداقة)، فما هى طبيعة علاقتنا؟ فأرجح أن أهم ما كان يميز علاقتنا هو ذلك القدر الهائل من “الإلتزام والسماح” معا، كان يجمعنا موقف موحّد تجاه الاغتراب فى حياتنا عامة، وحياتنا العلمية الجامعية خاصة، كما كان كل منا يسمح للآخر أن يتحرك بعيدا عنه فيما يعتقد ويعتنق.

نعم، لم يكن صديقى بالمعنى الشائع.

فتتهمنى زوجتى ـ كالعادة ـ أن “هذا”بديهى، وأنها تصدّقنى دون خلق الله الذين لا يفسرون كل ما قمت به نحوه ونحو أسرته الا بما هو “صداقة” كما يألفونها ـ تصّدق أننى لم أقم إلا ببعض ما ينبغى مما تفرضه بداهات الحياة ـ ، وتواصل اتهامها ـ أو تقريرها ـ لى معلنة أنه ليس لى أصدقاء أصلا: لا هو، ولا غيره، وتتحدانى أن أذكر لها اسم واحد فقط أستطيع أن أطلق عليه هذه الصفة، فأمتلئ غيظا، وأهم بالرد متصورا أنى سأستدعى ألف إسم وإسم، وفورا ـ لعلها تخجل وتعتذر، ولكن إسما واحدا لا يأتينى، يا خبر!!!، ما هذه الشروط التى تهجم على هذه الكلمة ـ صداقة ـ تحيط بها من كل جانب حتى لا أقدر أن أستعملها؟ ماذا أريد من الناس قبل أن أسمح لهم أن يحلوا فى مضمون هذا اللفظ “صداقة”؟ ثم ما هذا الذى أكرره طوال هذا الفصل وغيره؟ جاء صديقى قال، صديقى. راح صديقى، ثم رحل صديقى؟ حين تختبرنى زوجتى هكذا فجأة، لا أستطيع أن أذكر اسما واحدا من الألف ألف إسم الذين تخيلتهم جماعة لكننى عجزت أن أسلخ منهم فردا بذاته.

يبدو أن زوجتى لم تكن تنتظر إجابة، ولكنها أيضا لا تـُظهر شماته (على الرغم من أنى أحاول أن أتصور شماتتها بالرغم منها) ـ وأواصل العناد:

 “بل لى أصدقاء وأنت تعلمين” على، وأحمد، وهدى، وهالة، ووليد، وهبة، وكل الأطفال، ثم سعيد وعوض وجمال ورمضان وعادل وعبد العزيز وكل الفلاحين (أنظر الترحال الثالث إن شئت)، وقبل أن أواصل ذكر أسماء مرضاى تبتسم زوجتى فى صبر وتود لو أنها لا ترد، لكنها تلمَح تحفزى، فأواصل أنا:

إن هذه صداقة حقيقية، وحين كنت ألاعب “على” الورق أمس الأول، لم أكن أتنازل، لم أكن والدا يلاعب ولده، أو جدا يلاعب حفيده، بل كانت مباراة “ند لند” فتضطر زوجتى للرد:

 “إنك؛ تصادق الناس ولا تسمح لهم أن يصادقوك، تصادق المجموع لا الأفراد، تصادق الجزء الذى تختار من كل واحد، ولا تصادق الشخص على بعضه. وكل من ذكرتَ هم من الأطفال والفلاحين والمرضى (لم أكن قد ذكرت المرضى لكنّها ضمّتهم بيقين) هم فى موقع الأضعف منك، فلا خوف عليك ولا هم يعلمون”.

 وحين نصل الى هذه التعرية أرتب للانسحاب المنظم، فلا فائدة من الكلام اذا ما أطلت “الحقيقة” هكذا إلى هذا المدى، رحت أعيد تقييم  صداقتى لمرضاى خاصة . هل يسرى عليها مبدأ  الأقوى مع الأضعف؟

 أهكذا ؟

ولكن (بينى وبين نفسى) لا أقر النتيجة  أبدا، أنا أصدقائى بلا حصر، بلا حصر، لذلك لم أستطع أن أختار من بينهم اسما محددا، أختار من؟ أم من؟

لا أصدق نفسى تماما، ولا أصدق زوجتى تماما.

سعيد الرازقي، صديقى أم والدى أم إبنى، ها هو يحتضر، لكنى أصمم على ألا أكون فى موضع الإبن داخل حجرة “الإنتظار” لحظة الوداع، لا. .لا، لا أريد أن يلبسنى  من جديد أباء جدد أحملهم بعد أن يرحلوا لأكمل مسيرتهم لا مسيرتى. يكفينى كل من ارتدى من أثواب والدية قديمة من كل شكل ولون.

يستجيب الله لى، فما أن أنصرف لغير هدف الساعة الخامسة الا خمس دقائق، يوم الأربعاء الموافق 29/1/1986، لأرجع بعد نصف ساعة بالتمام، فأجده قد استأذن فى سلام آمن، وتتفرق الطرق، هو يمضى فى رحابه تعالى بلا تفاصيل ظاهرة، وأنا حيث أنا كما ترون.

وأذكر الآن حين كنت أسَرّى عنه فى دعابـة مغامرة كان يتصف بها حوارنا الصريح فى كثير من الأحيان، أذكر أننى قلت له:

 “إسمع، كن شهما كما اتفقنا ولا تنسنا حين تذهب إلى الجانب الآخر “بالسلامة”، كن شهما وأخطرنى أولا بأول ماذا الحكاية، حتى أستعد بطريقة صحيحة، إن أمكن” فيبتسم طالبا منى أن أخفض صوتى حتى لا يسمعنا أهل البيت،  ويعدنى ـ وهو ينتزع ضحكة حقيقية سرعان ما يجهضها الألم ـ أنه سيفعل ما يقدر عليه ما استطاع إلى ذلك  سبيلا، ويسترد آثار ضحكته بطيبة رائقة.

استأذَنَ فى سلام،

وتبدأ مراسم الوداع، وأتعلم، وأتعلم، وأتعلم،

يجتمع البسطاء معا هناك بفضل وصيته.

كان قد أوصى بشجاعة فريدة ألا يُـتعب أحدا بنقله مئات الكيلومترات إلى بلده فارسكور، لمجرد التظاهر والتقاليد، فأوْصى زوجتى أن  تسمح له أن يدفن فى مدافن أسرتها  هنا “بمقابر الإمام” بجوار المقطم ، وكأنه أراد بذلك ألا يكبدنا مشقة السفر إلى بلده الأصلى حتى يدفن بجوار أمه. كان يحمل هّمـنا حتى بعد موته، هو ليس له مقابر فى القاهرة وقد طلب من زوجتى أن يدفن فى مقابر أسرتها فى الإمام الشافعى، وفرحت أنا لأنه سوف يذهب بجوار حماىَ الذى أحببته حبا صامتا عميقا، وهكذا يتجمع هناك فى نفس المقبرة معاً: حماىَ الأمى الوديع، وإبنة أخى التى رحلت بعد ساعات من قدومها، وصديقى هذا.

ثلاثة نماذج تمثّل عندى توحّدا مُهّما:

 البداية التى لم تتلوث،

 والبساطة التى لم تتشوه،

والشجاعة التى لم تغـتـرِب.

 وكأنَهم لم يجتمعوا “هناك” تحت الثرى، بل استقروا هنا فى أنقى مساحة داخل داخل وجدانى.

ثم تمضى المراسم بكل ما لها وما عليها، وأتعلم ـ من جديد ـ كيف أننا ونحن فى بؤرة الحقيقة، لا نتكلم إلا عن زيف الزيف، وأدرك بيقين متجدد أن هذا الزيف فى الحفل الجنائزى وسرادق العزاء هو من أعظم رحمته تعالى بعباده الضعفاء: هو أهل الرحمة، وأهل المغفرة.

وهكذا، “طارت” فى وداعة البسطاء، وترن فى أذنى بهدوء نابض، ومعان متجددة:

“حمامة بيضا، طارت يا نينه،

ما خدها البلبل، وطار وياها،

 قصده يا نينه، يعرف لغاها”.

ياه !! يا للوعى الشعبى وهو  يعيش لحظات الخلق والعدم بعمق لا يعرفه غيره.

كنت أجلس مع ابنتيه مايسه ومنى قبل الوداع الأخير ببضعة أيام أصارحهما بكل شئ لم تكونا قد أُبلغتاه من قبل،وجعلت بداية حديثى عن رحلتنا هذه التى أكتبها هنا.

……………..

…………….

ونواصل الأسبوع القادم  استكمال الفصل الأول من الترحال الثانى: “الموت: ذلك  الشعر الآخر”

تعليق واحد

  1. الحقيقة العمل نفسه قطعة فنية واثار في ذهني انه ازاي ممكن عمل متنوع معظمه مباشر مثل المقالات والادعية والذكريات وبعض الشعر ينقلب كل ذلك لعمل ادبي حقيقيى…دون مبالغة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *