الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ترحالات يحيى الرخاوى الترحال الثانى: “الموت والحنين” الفصل السابع “الصلح خير” (3)

ترحالات يحيى الرخاوى الترحال الثانى: “الموت والحنين” الفصل السابع “الصلح خير” (3)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأربعاء: 21-5-2025

السنة الثامنة عشر 

العدد: 6472  

ترحالات يحيى الرخاوى

الترحال الثانى: “الموت والحنين”[1]

الفصل السابع

الصلح خير  (3)

أهو لزاما أن أجوع بالعافية، لمجرد أن معى نقودا أريد أن أشترى بها أكلاً شهيا؟

أهو لزاما علىّ أن أجلس مع من لا أحب، فأكون من لا أريد؟

أهو لزاما علىّ أن أكتب مالا أريد، لمجرد أن غيرى كتبه أسوأ مما أستطيع؟

أهو لزاما علىّ أن أحضر مؤتمرا يقال له مؤتمر علمى عالمى (إلخ)،

وأن أحتمل ما يجرى فيه وحوله أحضره لمجرد أننى أستاذ جدّا؟

السبت 26 يونيو 1993

…………………….

…………………….

عدت من المطار بعد أن استرجعت حقائبى وصديقى محتج على عدولى عن زيارتهم فى رين لدرجة أخجلتنى، اعتذرتُ صادقا، وودعته، ولجأت إلى فندقى.

 صاحبى فى هذه الرحلة هذه المرة هو ذلك الجهاز الذى أكتب عليه الآن، ماذا لو لم يكن معى: هل كان الأمر سيمضى بهذه البساطة؟ هل كان الوقت سينقضى بهذه السهولة؟  يمكن “نعم”، ويمكن “لا”، كنت سأفكر أكثر، وأضجر أكثر، وأمشى أكثر، وأحزن أكثر، وأكتب وأنجِــــزُ أقل.  الجديد فى هذا الصاحب أنه قد يحرق أى ترحال، إننى إذا كنت سأنتقل إلى آخر الدنيا أو حتى أول الدنيا لأظل أمامه طول النهار وبعض الليل، فلماذا السفر؟ المنطق يقول إنه قعدة بقعدة فليلزم الرحالة قاعدتهم، السفر يسهم فى كسر ما اعتادته الحواس، والأدمغة من مثيرات وطقوس، ومع ذلك فللصديق الحاسوب حقوق ما دام قد تكبّد الحضورمعى،

 فانقلب حاسوبى محاوِرا وليس فقط مؤديا. 

جلست إلى صاحبى هذا مؤتنسا، وكان الموضوع الذى ينبغى أن أكتبه فى ذلك الكتاب الذى لم يعد هـُوَ من أهم الموضوعات التى تشغلنى، كان عن “البصيرة “والحكم على الأمور “والعلاقة بالزمن” كيف نرصد كل هذا ونحن نفحص المرضى.

 وأنا أكتب هذا الفصل وأحاول طرد ذكرياتِ غثيان وقئ صديقاتى الصغيرات، وخيال الحجرة الصغيرة فى بيت ريفى قرب رين يراودنى (يا خبر!! هل عاد هوس الحنين إليه؟) اكتشف وسط كل هذا تشكيلات لما هو “بصيرة” تشكيلات لم تخطر على بالى هكذا من قبل، وعجبت-مرة أخرى – كيف تتدفق المعلومات البحتة بكل هذا النظام العلمى الرصين وسط كل هذه الزحمة وطيران الأفكار! وأنا أرتحل بعيدا عن كل علم وكل أكاديمية ؟

خذ عندك بعض هذه التشكيلات:

ثمة “بصيرة مع وقف التنفىذ”، “وبصيرة شكلية لتأكيد انعدام البصيرة”، “وبصيرة مقطعية” “وبصيرة ناقصة ” “وبصيرة مؤقتة” “وبصيرة مشروطة”، هل كنت سأكتشف كل هذا فى القاهرة والتليفونات حولى تضرب تقلب وأنا مسئول مشغول، مشدود، محدود؟

أقول لأولادى وتلاميذى  : ياناس يا طيبين أنا لم أجلس مرة واحدة لأكتب شيئا روتينيا مفروضا إلا وخرج منى ما هو غير مفروض. كل لحظة أقضيها مع القلم (ثم الحاسوب الآن) هى فرصة لا أعرف ماذا ولا مدى ما يمكن أن يخرج منها.  الذى يحدث أنه غالبا ما يخرج منها مالا أتوقع، فهيّئوا-من فضلكم – لى مزيدا من الفرص، فى فسحة كافىة من الوقت، ربنا يخليكم.  ىقول كل واحد منهم، “خذ ما تشاء من وقت وفرص، إنه من عينى الإثنين”.  لكننى فى النهاية لا أتحصّل على شئ  من عيونهم مجتمعة، ولا أكاد أخلو بنفسى بعيدا عنهم حتى  انتزع الفرصة والوقت انتزاعا، فيأتينى مثل هذا الكلام الجديد المفيد.

هذا السفر الذى بدأ اضطرارا انقلب إلى هذه الصدفة التى أصبحت بدورها فرصة، والذى كان قد كان.  لعلّنى ما جئت إلى هنا إلا لهذا. ما “هذا”؟

أتذكر الفصل الذى ظهر فى الترحال الأول بعنوان: “بعد ظهر يوم سبت حزين”.  وكان ذلك فى بلغراد، التى لم تعد بلغراد، أو التى ظلت بلغراد لغير ما كانت.  كنت قد كتبت عن الفرق بين جنوب ما كان يسمى يوغسلافىا، ثم شمالها، ثم غربها، وكنت قد تعجّبت لاختلاف الطباع، وحين همّ زملائى وطلبتى بنشر العمل مكتملا، قلت لهم لابد من هوامش لاحقة تقول إن ما شاهدتُـه لم يعد يصلح لشئ ولا لأحد، وإن الفروق اليوغسلافية (بين أقصى جنوب يوغسلافيا وغربها مثلا!!!!) التى لاحظها وسجّلها عابر سبيل مثلى سنة 1984 ثبت أنها كانت تعبر عن حقيقة عميقة، أفرزتْ دولا مستقلة لها حدود، وضحايا، وجرائم بلا حدود، وإبادة منظمة، وشرف مهدرا، ونظام عالمى، نذل، ورئىس عالمى عيـّل، ومواثيق لحقوق الإنسان على ورق مصقول.

تذكرت عنوان ذلك الفصل عن بلغراد وأنا أتجوّل الآن بعد ظهر يوم سبت آخر يرفض بإباء أن يكون حزينا على الرغم من أن المحلات مغلقة، والحركة أهدأ، لكن الحزن يمضى قبل أن يأتى ( يا صلاح يا جاهين، لمَ تركتنا؟؟) ، ليكن هذا الذى أنا فيه هو: “بعد ظهر يوم سبت جديد”. 

أريد أن أطل على الأسعار فى محلات الـ”مونوبرى” التى اعتدت ارتيادها دون غيرها لرخصها النسبى.  ووفرتها فى كل مكان، وكانت ابنتى قد اشترت لى قبل سفرى مباشرة ما يشبه القميص الذى يسمونه”قميص تاء” T shirt بثلاثة جنيهات ونصف من شارع خالد بن الوليد فى سيدى بشر بجوار بيتى فى الإسكندرية، وزوجتى اشترت لى من سوريا بعشرة جنيهات “شيرتا تائيا”!! أفضل منه (هكذا يقولون، فأنا لا أعرف الأفضل من الأسوأ، على الرغم من أننى أعرف الأقبح من الأجمل) ، فوجدت هنا فى هذا المونوبريه أنهم عاملون تخفىضا جدا، جدا، ووجدت أن التخفيض (التخفيض وليس الثمن!!) الذى نزل على قميص التاء المماثل لما اشترته لى ابنتى يزيد عن عشرة أضعاف ثمن قميصى (أى حوالى: خمسون جنيها).  ولك أن تتخيّل أصل الثمن.  إذا كان التخفيض خمسين جنيها فكم كان أصل الثمن، إن الفرحة بكبر التخفيض تنسينا حقيقة القيمة، فماذا لو أن القميص الذى اشترته ابنتى نزل عليه التخفيض وثمنه كله ثلاثة جنهات ونصف، هل يمكن أن يخفص أكثر من جنيه؟ فتصبح المقارنة بين تخفيض جنية وتخفيض خمسين جنيها لصالح التخفيض الأخير!!!، أرأىتَ كم توفر لك محلات المونوبرى فى باريس عن محل الحاج مصطفى ألف صنف (مثلا) فى شارع خالد بن الوليد بالاسكندرية.

حدّثنى أبى أن تاجر قطن فى بلدنا فقد حقيبته وكانت مليئة بحصيلة تجارته، فأرسل  المنادى عمى الشيخ “أبوالعلا”(القصيرالأحدب الذى كنت أخاف منه، ثم صادقته كبيرا) لينادى حول داير الناحية فى بلدنا أنه :”يا أهالى يا فلاّحين يا صغيرا أهالى هورين: ثم يذكر ضياع الحقيبة التى شكلها كذا كذا ، ثم ينتهى أن  من يجدها سوف يأخذ حلاوتها (مكافأة) ” مائتين جنيه “، كانت العادة أن يقول المنادى إنه ضاع كذا كذا” واللى يلاقيها ياخد حلاوتها أحسن منها!! لكن “عم أبو العلا” هذه المرة حدد الحلاوة بمائتى جنيه (أيام زمان) ، وكان هناك خواجة سمسار (قطن أيضا) يجلس على الدكة أمام دكان العراقى البقال فسمع عم ابو العلا ينادى، فارتفع حاجباه- حقدا أو عجبا- وهو يقول: “ميتين جنيه خلاوة والباقى كام يا خبيبى” فصارت مثلا.

حين تصل  التخفيضات إلى عشرات(أو مئات)  الجنيهات فما هو أصل الثمن الذى انخفض يرحمكم الله!!

يشترى الأذكياء والذكيّات (جدا)  من منطلق “كم وفّروا”، وليس “كم دفعوا”

 أليس هذا هو المنطق الذى نسيّر به اقتصادنا حين نتكلم عن نجاحنا فى الاقتراض بفوائد أقل، أو نفرح بالاقتراض من الداخل دون الخارج، كذا مليارا، وبدلا من أن نربط هذه الأرقام بأرقام الإنتاج، نربطها بما وفّرناه بالمقارنة بالقروض الأخرى؟ يا فرحتى.

 كلّمت تلميذتى وزميلتى أم البنات فى فندقهم، اطمأننت عليهن، لهجة الأم ليست تماما، ودّعتها ودعوت لبناتها بالسلامة، وطلبت منها ألا ينتظرونى فى رين.

الأحد 27 يونيو 1993

ليس عندى خطة، ولن أمضى الأسبوع مع الكتاب إياه حتى بعد أن أصبح كتابى وليس كتابهم، يلوح لى وعدٌ ما، من مجهولٍ ما، أننى مقبل على أمرٍ ما، فى هذا الأسبوع الـ “ما”.  أنا مصمم، والمجهول مصمم، ولسوف نرى.

نزلت أتجول مثل زمان. ربع قرن ، نعم مثل زمان، أعرف طعم هذا الهواء. أنا متأكد. اليوم الأحد. الشوارع خالية أكثر من أمس لكننى أذكر أن المخابز مفتوحة، اشتريت رغيفا “باجيتا” آكله حافا، لا أعرف أصلا لكلمة حاف هذه، وهى من أجمل الكلمات العامية، وبعض المرفهين لا يعرفون أنها تعنى الخبز دون “غموس”، بل قد لا يعرفون كلمة غموس أصلا، مع أن غموس كلمة عربية، وعلى مجمع اللغة أن يدخل حلمة “حاف” لتتضح المعانى مثلما اتضحت عندى بالممارسة. لمحتُ بجوار المخبز الذى اشتريت منه الرغيف غسّالة أتوماتيك، لا يرعاها “سرّيخ” ابن يومين، تعمل بالعملات أوالماركات، ويستلم الواحد ملابسه “توموتيكى” وهو واقف”، يا حلاوة!! هكذا يشترى “المستثمر” عددا من العدد، يهيئها ببعض البرامج، وينام فى بيته.  ثم يأتى يلم الفلوس، أصبحت المعامل ومراكز الأشعة – فى واقع الحال – تعمل بنفس طريقة هذه الغسالة فى الطب، وربما يبرمجون الصحة النفسية على نفس النمط، تدخل دماغك الذى تجرأ أن يتحرر، حتى بالمرض، ولا مؤاخذة فى مثل هذه الغسّالة، فتزيل منه أى احتمال “آخر”، !! والله فكرة!!!!

حملت رغيف “الباجيت” أظن  كان بثلاثة فرنكات وستين سنتيم، ما يعادل جنيهين مصريين، وأظن أنه أصبح الآن موجودا فى مصر، ربما عند السويس شاليه، فى القاهرة، وسان جيوفانى فى الإسكندرية، وربما غيرهما، لكننى هنا أجد له طعما آخر، فى جو آخر، أمسكتـُه بالورقة الصغيرة حول منتصفه، وأخذت أتأمله فى غزل عفىف.  جلست على أريكة من أرائك الرصيف الجميلة، ورحت أقضمه قضمة قضمة، نفس الريح والرائحة.

لم تُتَح لى هذه الفرصة أبدا بعد سنة 1969، زرت باريس أربع مرات على ما أذكر، غير هذه المرة، لكننى فى كل مرة كان معى بعضهم، وكنت أتمنى أن أفعل ما أفعله الآن فى السر، لكنّ ملاحقتهم لى بالمطالبة بالمشاركة فى الإفطار والغداء والعشاء، واستغرابهم من كهل مثلى قادر ومستور، يفضل أن يأكل العيش الحاف هكذا فى الشارع، كل ذلك منعنى تماما من مثل هذه الفرصة الحقيقية.

أىة فرصة أن أجلس فى شارع “أراجو”، والجو غائم والحمد لله، أقضم رغيفا حافا؟ هناك أشياء وراء الشىء، هى هى الفرصة التى جذبتنى إلى هنا دون سابق توقع، ألم أقل إن مجهولا نادانى فأجبتُ؟ ألم أقل إننى تمنيت مالا أعلم فأُعطِيتُ ما تمنيت؟ ولكن ماذا تمنيّت؟ الآن وأنا على هذه الأريكة أستطيع أن أجيب:

تمنيّت أن ألتقط أنفاسى!!!، وهأنذا أفعل.

ألتقط أنفاسى.  من ماذا؟

من كل شىء، كل شىء.

التقطتُ أنفاسى مرّتين قبل ذلك فهل تكون هذه هى المرة الثالثة؟

فى كل مرّة ألتقط فيها أنفاسى يتحوّل مسارى بعدها إلى ما قـُدّر له، باختيارى.

المرّة الأولى كانت سنة الامتياز فالنيابة (75-95) وفيها استطعت أن أتخلص من أن يكون نجاحى فى الامتحانات بناء عن ضغط والدى ودعاء والدتى، قلت حينذاك، آن الأوان أن أنجح لى، وبدعائى أنا مباشرة دون وسيط، ومن يومها أخفيت توقيت أيام امتحاناتى عن الجميع، ونجحت، جدا، حتى الآن.

 والمرّة الثانية كانت هنا فى باريس سنة كاملة (86-96) لم أفعل فىها أى شئ علمىّ بالمعنى الشائع، رغم أننى كنت فى مهمة إسمها “مهمة علمية”، لكننى التقطت أنفاسى بعيدا عن ما يسمونه علما، وعن ما يتصورونه مهمّة، وكان ناتج التقاط الأنفاس هذا أن كتبت أولى كتاباتى وأنا أعبر الجسر بين الطب والأدب ذهابا وجيئة، كتابى الأول: “عندما يتعرى الإنسان (صور من عيادة نفسية)، كذلك كتبت أولى نظرياتى عن “مستويات الصحة العقلية”، ورغم أننى نسختها بعد ذلك إلا أنها ظلّت تمثّل بداية تفكيرى المرتبط بالهيراركية والتنظيماتية المتداخلة للدمار البشرى، وللوجود البشرى، وبدا لى أننى أمر الآن بنفس التجربة.

هل هذه هى المرّة الثالثة؟ وهل يخرج منها ما ينبغى قبل ألا تكون لى أنفاس ألتقطها أصلا؟ فإن كانت فرصة حقيقية؟ فهل يصلح لها أسبوع؟   من يدرى؟ “يصلح ونصف”. “،هكذا ردّ مَن وعدنى بما تمنيّت.

 قلت له: ماشى كلامك.

………………

………………

ونبدأ الأسبوع القادم في استكمال  الفصل السابع: “الصلح خير“.(4)

تعليق واحد

  1. الانعتاق

    خلقنا لنعرف
    لم يتركنا خالقنا
    بل قال
    ” اني جاعل في الارض خليفة”
    يا فداحة ذلك
    يا روع ذلك
    نفخ فينا من روحه
    لنحبه

    لنلمس اطياف
    اطراف المطلق
    الحق
    في ذاته
    لذاته

    هي علاقة ابدية
    تبدأ
    ولا تنتهي
    في رحلة كدح
    يصاعد الي
    مدارك الوجود
    في اي لحظة انعتاق
    للمعرفة
    الحضور
    الوقفة

    متي وصلت
    بهرت
    يصمت كل نبس
    ويموت الانكار

    يسجد بالخضوع
    كل مخلوق
    ويتفتت الوجدان
    بهول الحضور
    دون تفتت!!!!

    دك الجبل
    بالحضور
    ودك الانسان
    بثقل الامانة
    ليس له خيار

    اذن فالاختيار
    هو الخيار
    الوحيد لملاقاته
    بالانعتاق
    دون انعتاق
    في حضوره
    بمعية حتمية
    تظلل
    وتطمس كل ما عداها
    اليه
    كي يرضي
    فنرضي

اترك رداً على محمد احمد الرخاوي إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *