نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 3-4-2024
السنة السابعة عشر
العدد: 6059
ترحالات يحيى الرخاوى
الترحال الثانى: “الموت والحنين”
الفصل الأول
(الفصل السابع: من الترحالات الثلاثة)
الموت: ذلك الشعر الآخر (6)
“يختل مجرى العمر والأمل،
(لماذا ياصديقى؟؟)
دائرةٌ ملتاثة:
(عَجـّـلتَ بالنهاية؟)
تقضمُ فى المجهول والمعلوم أنيابُ الظلام الجائعة،
(هل ضقتَ ذرعا باللجاج والجشع؟)
ثارت أجنة الخلايا تصطرع“.
تعملقتْ فطرتك الأبيةْ
لم ترعَ عهداً، لا، ولمّا تنتظر
لــمْ نـقوَ بعدُ ياصديقى
(فيم العجالة والسام؟)
تقفز خلف الحدِّ، بعد العدِّ، تقتحمْ
ترجع نحو عشها اليمامةْ.
الأربعاء: 29 يناير 1986
الساعة الخامسة وعشر دقائق (صباحا)
…………..
…………….
إزاى؟
ماعرفشى.
علاقتى بالموت والموتى ليست جديدة علىّ، كذلك حوارى معهم، فقد انتقل والدى بنا من منزلنا الكبير ذى الثلاثة أدوار فى داير الناحية فى قريتنا الى حديقة فى أطرافها أو بعد أطرافها تقابل المقابر مباشرة، فكنا لاندخل ولا نخرج الا ونحن نمر على “السابقين” الصامتين دون أن نتذكر أننا “نحن اللاحقون”،
ظلت هذه المقابر تمثل عندى مصدرا للتخويف من الأرواح حتى أصبحت مصدرا للحصول على عظام للدراسة عليها حين لزم ذلك فى السنتين الأولى والثانية فى كلية الطب، وكم أمسكت بجمجمة قريبٍ لى (لا بد أنه قريبى بشكل أو بآخر.. اليست جمجمة من بلدنا؟) أحاورها، وألومها على صمتها، وأحاول أن أكتشف سرها، وما يقال بشأنها، ثم أنسى كل ذلك لأحفظ ماذا يمر فى الثقوب المرصوصة بقاعها من أعصاب وأوعية “لزوم الاستعداد للامتحان”.. وتضيع معالم الموت تماما ولا تبقى إلا ثقوب وخطوط لزوم النجاح فى علم التشريح.
كيف ننسى الموت؟
بالتعود فقط؟، و هل نحن نتذكره أصلا؟
نتذكره بمعنى أن نربط حقيقته (أم الحقائق جمعيا)، بالفعل اليومى؟ نربطها بطعم الحياة؟ بنوع العلاقات؟ بإعادة الحسابات؟ بالتغير الواجب؟ هذه وحدها هى “الذكرى التى تنفع المؤمنين”، فلابد من إيمان، ولابد من نفع إن كان لـلذكرى أن تصبح فعلا يوميا لا اجترارا، ولا احتجاجا، ولا سخطا، وهنا فقط (حين تصبح الذكرى فعلا) يمكن أن يكون هذا النوع من الذكرى اختيارا: “فمن شاء َ ذكره”.
أقف طويلا عند الآية السابقة مباشرة، وعند “كلا” بالذات “كلا إنها تذكرة” وأصر أن الضمير المتصل فى “ذكره” يعود على الموت وليس على التنزيل (القرآن الكريم) كما جاء فى بعض التفاسير، ثم أنظر فى “من شاء”، وأكتشف أننا حتى نشاء: لابد أن نستطيع، أو أن نتوهم أننا نستطيع، ولكن كيف نستطيع مع استمرار المسيرة هكذا بنفس الزحمة وملاحقة التفاصيل، لهذا فنحن لا نشاء إلا أن يشاء (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله) وهو لا يشاء بالنيابة عنا، بل إن وعينا باتجاهنا إليه ـ حقا وصدقا ـ لابد أن يغير من حسابات هذه الدنيا، إذ يبطئ من دورة اللهاث، كما يحسن توجيه عائد العمل، فهى مشيئتنا فى النهاية إذ تتضفر مع مشيئته، فلا اتكال، ولا غفلة، ولكنها حسابات إيمانية أخرى لو أنها تنعكس على فعلنا اليومى.
يبدو أننا الآن نعيش حياة أخرى، نحن بشر آخرون، “لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر” فمتى نشاء أن يشاء لنا فنشاء؟ لا أحسب أن هذا ممكن فى خضم حياتنا الغربية المستوردة هذه، والمغلفة بقشرة دينية اغترابية تجعل من تذكرنا للموت تبريرا للغم، أو ديكورا يقوم بتركيبه خطباء الترهيب والترغيب، يبدو أننا قد اكتسبنا قدرا من مسلمات الوعى يمكن أن يلغى أى “تذكرة” حقيقية”، يحدث ذلك تحت كل الظروف، حتى ونحن نحاول أن نعمق التذكر بحضور عيانى.
فعلتْ ذلك خالتى مرة معى دون قصد، أرتنى علاقتها بالموت محسوبة مجسّدة، استقبلتنى ذلك اليوم ووجهها أكثر إشراقا وبشاشة عن كل مرة، ولم تذهب البشاشة حين اكتشفتْ ـ كالعادة ـ أنى لم أصطحب الأولاد، فعلمتُ أن ثمة ما يـُفرحها ويشغـلها عن توجيه “الإخص عليك” المعتادة، وفعلا.. أخذتْ بيدى وهى تتكئ جزئيا على ساعدى وتقول “تعالَ أطمئنك على خالتك” فقد حلمتُ، أنك مشغول بى،منشغل علىّ، وكانت تعامل أحلامها مثلما تتعامل مع حقائق حياتها، سواء حلمت فعلا أم نسجت الحلم بعد استيقاظها دون أن تدرى، فأدخلتنى إلى الصيوان الذى لا يُـفتح إلا فى المناسبات، وأرتنى لفة لم أعرف ما بها وماذا تعنى لأول وهلة، وجعلتْ تفكها وترينى: قماشا ثمينا، ومنشفة، وصابونة، وزجاجة رائحة ولفة قطن. .و..و..، “ما هذا ياخالتى”؟ كفَنِى ياحبيبى والحمد الله، لم أترك شيئا إلا جهزته، حتى أجر المغسِّلة وضعته فى ثنايا ثوب الكفن ـ أنظر، حتى لا أكلف أحدا شيئا”. فـينـقبض قلبى غما فى حين أن وجهها يزداد إشراقا، فأتعجب: هل أنا الذى أتصور أنى أعرف كل “هذا” يكون تفاعلى “هكذا”، وهى الحريصة على كل أشياء الحياة بلا هدف أو رؤية (بحساباتى التطورية الخائبة!!) يكون هذا هو موقفها؟ أهذا هو إيمان العجائز؟ يارب، خابت حساباتى، ويبدو أنها كانت خائبة دوما، لك العتبى حتى ترضى “فمن شاء ذكره”.
كيف أذكره أكثر من هذا وأنا جالس أراقب الصراع الجارى بينه وبين الحياة، ونَـفَسُ صاحبى يتردد بلا انقطاع ضد كل توقع وحساب.
كنت قد أوقفتُ أية محاولة غبية تجرى لإطالة ما لا يطول من عمر صديقى، رفضت الانسياق وراء عواطف خائبة (تبدو طيبة عادة!) رافضا اللعب بجسد غال ضد إرادته الحرة، أو ضد نصيحة العلماء الأطباء، الذين هم كذلك، فمنذ أن كنا فى بوسطن قال لى المتخصص فى العلاج الكيميائى لهذا المرض ” لو أنى مكانه ما أخذت إلا المسكنات، “منذ ذلك الحين وأنا أعتبر أن أى تدخل عاطفى، لمجرد تخفيف الشعور بالذنب ـ ذنبنا نحن ـ هو إهانة لا يبررها علم أو خلق، لذلك قررتُ، ومنذ البداية، ألا أفعل له إلا ما يطلب هو، وهو الطبيب الحاذق، وقد رضىَ أن يأخذ علاجا كيميائيا المرة تلو المرة، على أساس أننى أخفيت عنه ـ أو هكذا تصورت ـ تفاصيل التفاصيل، أو على أساس أنه فوق كل ذى علم عليم، أو على أساس أن يتـدرج الأمر حتى تتحمل عائلته ما سيحدث. . نعم. . ولكن. .. للمحاولات الخائبة حدودا، وحين توقفنا عن امتهان الجسد، تجسد العجز أكثر فأكثر، وتبينتُ الفرق بين خبرتى هنا، وخبرتى مع والدى حيث كنت أواصل تعليق المحاليل له أملا فى رتق التمزق فى غشاء المخ ليتجمع السائل النخاعى من جديد، ثم من يدرى، أما هنا. . وقد انتشرَ ما انتشر، وانسد ما انسد، والتهم ما التهم. . فالحمد لله رب العالمين.
وحين يكون الانتظار هو كل الفعل الممكن تكون الحوقلة (لا حول ولا قوة إلا بالله) هى الذكر الواجب.
ويصاحبنى فى داخل حجرة ” الانتظار ” صديق لكلينا،اسمه أحمد الدواخلى، ليس طبيبا والحمد لله: هو رجل فحل الإيمان، أبيض القلب، حاضر الوجدان، غامر الوعى، رقيق الحضور، أتعلم منه فى كل مقابلة شيئا جديدا، شيئا أرجو ألا أنساه، هذا ” إن شئت أن أذكره ” وكان هذا الرجل الأبيض دائم الدعاء والتلاوة، لا يفتأ يكرر مخاطبا المحتضِر: “اللهم سهل أمرك يا السعيد، اللهم طمئن قلبك ياالسعيد، اللهم هدئ سرك يا السعيد ” ثم يكرر الدعاء مرة أخرى دون ذكر اسم صديقى، فأحس أنه يوجهه لى، فأستعد، وكأنى أنا الراحل.
فجأة أسمع الدواخلى يرد على سعيد وهو فى غيبوبته أنه “. . حاضر “، وأنا الطبيب الذى أعلم أن قشرة مخ صاحبى المودّع للحياة قد سبقت وسافرت إلى الجانب الاخر منذ أغفى بلا صحوة، وأنه لم يبق نشِطا معانِدا إلا جذع المخ ضابط إيقاع الحياة التنفسية والقلب، لكننى أستمع لحوار الرجل الأبيض ـ الدواخلى ـ مع الصديق المعاند ـ السعيد ـ فأكاد أصدقه وأتذكر ما سمعته من والدى وهو يتلو الورد فى غيبوبته، كأنه كان هو أيضا يتكلم هناك بإيقاع الحياة لا برموز قشرة المخ، هذا إن صدق أنى سمعته حقيقة وفعلا، ولكن ها هو صديقنا الأبيض يرد ثانية “حاضر يا ” ” ياخويا” ثم يوصيه أن “يطمئن” ثم يقسم عليه، ثم يتجه إلى ربه “لبيك اللهم لبيك” لبيك لا شريك لك لبيك”، ثم إنه” لا إله إلا الله حقا وصدقا” ويعود يواصل حواره معه، ثم ينفجر باكيا دون استئذان أو إنذار، فيخاف أن يسمعنا أهل البيت وكنا قد حـُـلنا بينهم وبين التواجد فى الحجرة ـ إلا قليلا ـ طوال هذه الأيام الصعبة، فيكف صاحبى الأبيض عن البكاء فجأة ناظرا إلىّ بغضب وكأنى أنا الذى بكيت بصوت مرتفع، وكأنه ينهانى أن أفسد جو الدعاء بهذا النحيب المزعج للأهل، ألا يكفيهم ما عانوا ويعانون بما لا يمكن وصفه؟ فأتلقى غضبه الصامت حتى يسكت، وكأنى أنا الذى رضخت فسكت.
هو الموت، ذلك الشعر الآخر، (هكذا أسماه أدونيس فى رثاء صلاح عبد الصبور)، نخلق منه ما لا ندرى إذ يخلق فينا ما لم نحتسب، أحياء كما نعلم، وراحلين كما نتصور، لكن كل هذا لا يجيب على التساؤل الملح الذى عاد كما هو وكأنى لم أحاول الإجابة عليه آلاف المرات “لماذا هو بالذات؟ الآن بالذات؟ هكذا بالذات؟” وأحاول أن أعدو ـ حقيقة ـ هربا من ملاحقة ما سبق أن لحقنى بلا طائل، فأعجز.
أرتد طفلا أنظر فى ظهر غلاف الكراسة “كنظام وزارة المعارف العمومية” أم ست مليمات ذات الورق الأسود الذى “يشف” وغلافهما الخلفى القبيح قد قسم إلى مثلثين أحدهما يحتوى جدول الضرب الصغير، والآخر جدول الضرب الكبير، وأتذكر كيف أنى كنت أتصالح مع جدول الضرب الصغير رويدا حتى وصلت الى 5X5، فيزداد أملى أن أصل يوما ـ وان طال الزمن ـ إلى 12X12 .. وهذا ليس على الله ببعيد، ألم يقدرنى أن أحفظ هجاء كلمتى تمساحcrocodile وجميل beautiful وكل منهما مكون من تسع حروف بالتمام، لكنى أبدا لم أحلم أن أقترب من جدول الضرب الكبير بدءا من 13X13 حيث تزدحم الأرقام وتتقارب حتى تسود صفحة الغلاف وهى بلا لون أصلا، كنت أتصور أنه يستحيل أن يحفظ هذا الجدول إنسان مهما بلغ من ذكاء، حتى والدى، حتى الناظر نفسه، حتى الملك فاروق.
…………………….
…………………….
ونواصل الأسبوع القادم استكمال الفصل الأول من الترحال الثانى: “الموت: ذلك الشعر الآخر”
تتناثر ركام الحقائق
علي قارعة الطريق
لفظها من لن يتحمل حتمها
يتلقفها نسك عارف
يحملها علي كاهله
يسري بها في بحار الانين
يقترب منه من يصله نوره
فاما ان تصله روع الامانة
واما الا يتحمل وهج الحضور
يعاود
يعاود
دون اختيار
تخرج منه الفاظ مبهمة
تنحبس في بحار الوحدة
ليس له اختيار
ليس له اختيار
الا ان يختار