نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 28-2-2024
السنة السابعة عشر
العدد: 6024
ترحالات يحيى الرخاوى
الترحال الثانى: “الموت والحنين”
الفصل الأول
(الفصل السابع: من الترحالات الثلاثة)
الموت: ذلك الشعر الآخر
“يختل مجرى العمر والأمل،
(لماذا ياصديقى؟؟)
دائرةٌ ملتاثة:
(عَجـّـلتَ بالنهاية؟)
تقضمُ فى المجهول والمعلوم أنيابُ الظلام الجائعة،
(هل ضقتَ ذرعا باللجاج والجشع؟)
ثارت أجنة الخلايا تصطرع“.
تعملقتْ فطرتك الأبيةْ
لم ترعَ عهداً، لا، ولمّا تنتظر
لــمْ نـقوَ بعدُ ياصديقى
(فيم العجالة والسام؟)
تقفز خلف الحدِّ، بعد العدِّ، تقتحمْ
ترجع نحو عشها اليمامةْ.
الأربعاء: 29 يناير 1986
الساعة الخامسة وعشر دقائق (صباحا)
استأذنَ صديقى، والد إبنَتَـى رفيقتى رحلتنا هذه،
استأذنَ أن يكمل رحلته وحده، بعد صراع، وعناد، وآلام، ورؤى، وحوارٍ أغلبه صامت، وكل هذا لا أستطيع ـ الآن ـ إهماله أو نسيانه أو إزاحته كما لا أجد عندى الشجاعة أو الأمانة لحكاية كل تفاصيله التى استغرقت أكثر من سبعة أشهر… جَمَعْنا فيها ـ هو وأنا ـ خلاصة عمرنا قولا وتذكرة، ثم عهدا، ورؤية.
منذ سافرتُ معه، ورجعنا كما سافرنا، وأكثر عجزاً، ونحن نجترّ أيامنا بهدوء شائك، هو: تعتصره الآلام، وأنا: يخيفنى العجز، حتى قرَّرَ، هكذا رأيت رحيله، فذهب دون إبطاء، ويبدو أن هذه لم تكن رؤيتى وحدى، فحين كتب شقيقه نعيه فى الأهرام حضَرَتـْـهُ آية كريمة صدّر بها النعى تفيد ما ذهبتُ إليه من تسارع صديقى للقاء ربه، صدّر النعى بالآية تقول: “وعجِلتُ إليكَ ربى لترضى”،
رحل صديقى عجِلا إليه، رحل وتركنى وأنـا أعيش معه/فيه/به، بتقمص يحتد فيه وعيى فيهزنى حتى النخاع. أخطو بجواره مرتحلا إلى ما لم أحسب، مختبـِرا ـ من جديد ـ ما كنت أتصور أنى عرفته ظهرا لبطن، ألا وهو ما كنت أسميه ـ مثل الناس ـ “الموت”، فاذا بى لا أعرف منه، أو عنه إلا أقل القليل.
حين رحل صديقى، وما رحل، وجدت نفسى أحاول أن أواصل بدونه، بعيدا عنه، بالرغم منه، لكنى رحت أكتشف أنى أفتعل الأشياء افتعالا، وكأنى أزيح من على صدرى ثقلاً لابد أن أخـْترقه وأنا أتكلم ، وأنا أكتب، حتى وأنا أفهم، أزيحه بعيدا بما أستطيع، ولا أستطيع. أخذت أواجه اختبارا صعبا، حتى كدت أتوقف عن كتابة هذا العمل المنطلق. اضطرنى قلمى أن أعرج إلى هذا السَّـفر الآخر لأخصص هذا الفصل لرحلتى مع صديقى هذا، على الرغم من أننى كنت أفضل أن تأتى قرب نهاية العمل، استسلمت للقلم فاستسلم لى، ما دام الأصل فى هذه الكتابة هو حضورى مع القلم، لاحكايتى عن الحَدَث، فليُقُدْنى حيث شاء.
بدون تلكؤ أمسكت بالقلم حتى لا أتراجع، وللقارئ العتبى، أليس عذرا مقبولا أن أتقدم إلى رحاب وعيه بأقل قدر من التزييف والصناعة؟
هو “الموت”، الرحلة الأخيرة، والحقيقة الأولى، أو الوحيدة.
كنت أردد دائما، ومن قبل هذه المحنة، أردد معه، ولنفسى، أنه كان من الجائز ألا أولد أصلا، ولكنى متى ولدت فليس ثم احتمال ألا أموت…، ومع ذلك، فإن الجارى يكاد يعلن غير ذلك، إذ يبدو أن “حقيقة الموت” حقيقة نقولها،.. لا نعيشها، ولا نعايشها، اذ لانتعلم منها… بدليل أننا لا نتغير بها، وبعد أن رحل صاحبى، ونحن فى بؤرة الموعظة والإفاقة (هكذا بدا لى) قلت لصديق آخر، بمثابة تلميذى وإبنى أ.د. رفعت محفوظ، وهو حكيم صعيدى نقى، قلت له “لو أن واحدا بالمائة من حقيقة هذه الحقيقة بقى معنا.. لكفى،. ” فرد التلميذ/أستاذى/ “رفعت” ردا صعبا “، قال:… بل واحد فى الألف”
واحد فى المائة، أو واحد فى الألف مـِـنْ ماذا؟
وأجيب: من “هذا”.
السبت 25 يناير 1986
قال لى صديقى على وشك الرحيل وأنا جالس بجوار سريره، قال لى هامسا وكان قد اعتدل إلا قليلا، قال: “… لا أحد يفهم، قل لهم “كفى، دعهم يدركون” ـ وكأنى رددت عليه أن “حاضر” أو ماشابه، فقد كان يكفى أن نقول بلا كلمات، فنتفاهم، ولم يكن جديدا علىّ أو عليه هذا النوع من الحديث الصامت الذى بدأناه منذ عرف أحدنا الآخر فى عز الشباب، إن كان لشبابنا عز كما يعرفه الناس، كان دائما يذكـّر نفسه أمامى ـ فيذكّرٌنى ـ أنه أخذ أكثر مما حلم، وأنه كسب أكثر مما تصور، وأنه ترفّه أكثر مما يحتمـل، وأنه أمّـن ذويه بالمسكن والدخل المعقول بقدر ما ينبغى، وأنه علَّم طلبتهَ كل ما تعلم، وأضاف إلى علمه ما استطاع أن يبدع، لم يحبس حرفا، ولم يرُد طالبا، ولم يقمع فكرا، ولم يعِق منطلِقا، فهو تاركٌ حتما ما يفخر به أى عابر سبيل هذه الحياة المحدودة بطبيعتها، فلماذا الاستزادة من الأيام؟
ثم يستطرد على لسانى “إنه تارك وراءه ماهو أهم، تارك موقفا من هذه الحياة: من قرشها، وبحثها، وناسها، وأخلاقها… وهو موقف جدير بأن يهدى وينير. كلام واضح وصريح، وحقيقى، يعلم الله، إلا أنه كلام، والكلام فى هذه المواقف يبدو جميلا وصحيحا ومقنعا، لكنه كلام.
كيف يكفى الكلام وصاحبنا ـ الموت ـ يزحف فى غير صمت ولامسالمة. ليته يزحف خفيا خبيثا ثم ينقض، لكنّه يجر صاحبى سحلا على حشية من رماح مشرعة طول الوقت، كان الألم أصعب من كل أمر، من كل صبر، من كل حكمة، من كل موت.
ذات مرة من المرات الأخيرة، كان يعيد صديقى علىّ هذا الحديث، وكان مضطجعا على السرير فى الحجرة المشتركة فى فندق “هوليداى إن” على بعد خطوات من المستشفى (ماس جنرال) فى بوسطن، قال مثل ذلك الكلام الحكيم، وهو يهيئ نفسه للرحيل راضيا مرضيا، فأصدّقه ـ كالعادة ـ علّنى أصدق نفسى، قبل أن ينتهى من كلامه هجم عليه الألم الوقح، فتكاد تدمع عيناه فى صمت قابضا على وجهه فى صبر، فأشيح بوجهى عبر النافذة حتى لا يرى ما يتهمنى به “أنى خرع”، وأرجح أنه يشفق علىّ من تألمى لألمه، وليس يلومنى على خراعتى. اضطرب من واقع فشلى فى أن أعينه كما ينبغى، وماذا ينبغى؟ ماذا يمكن أن أفعل؟ هل أحاول تهوين ما لا يهون؟ هل أتصنع التماسك بجوار من يحق له أن يضعف وهو ليس بضعيف؟ هل أستطيع أن أقسّـم جرعة الألم فيما بيننا؟ ولا أجد إلا الصمت المحاوِر… فيصمت بدوره شاكرا. كأن الاعتراف بحجم العجز، مع استمرار صدق المحاولة، كان هو غاية المطلوب فى تلك اللحظة المكثفة.
فى صمتنا الناطق: نُراجع ـ كلانا ـ مقولته السابقة ونحن نتساءل: “الحسابات صادقة ودقيقة، والحمدُ حقيقى، والرسالة اكتملت، أو كادت، فلماذا الجزع؟”
يبدو أن ثمة فرقا بين أن تتحدث عن الموت “من حيث المبدأ” وأن تعيشه من حيث الواقع المتمثل، فرق بين أن تتكلم عن الموت، وبين أن تموت. إن ثم علما الآن اسمه “علم الموت” يفرق بين “الموت”Death و “أن تموت”، Dying.، هل رأيت التقدم؟ ؟ يا فرحتى !
أتصور أننا – صديقى هذا وأنا – حين كنا نتحدث عن الموت كنا نتحدث عن “مفهوم”، عن “إسم”، عن “صفة”، أما “نحن” “الآن” فنحن فى مواجهة “فعل” الموت، حال الموت (حالة كونه: يموت!) يبدو أن فعل الموت هذا هو هو، سواء فاجأنا من خلف ظهورنا، أم تقدم إلينا مواجهة بكل وقاحة و علانية، بكل ثقته وثقله، ونحن فى قمة الاستعداد لملاقاته، وأنظر فى عينى صديقى فأرى بجوار الحكمة والتسليم والرضا والصدق، أرى… الحياة تطل بحرص عنيد ليس مثله شىء، وكأنها تذكرنا بزيف هذه الحكمة المدّعاة.
أتذكر ونحن فى فى مطار جون فوستر كنيدى (نيويورك) وهو لا يكاد يقدِرُ أن يخطو خارج سلم الطائرة، ونحن نحاول أن نلحق بطائرة “باناميركان: بانام” إلى بوسطن حتى لا نغير المطار ـ وهو فى هذه الحال من الوهن والألم… أتذكّره يقول لى ـ منكرا ـ بفضل دفع الحياة الآمـِـل: “والله يايَحيى ماعندى حاجة” وكان الوحيد الذى ينطق اسمى صحيحا بفتح الياء الأولى، كذلك كان ينطق لفظ “جَدى” بفتح الجيم”جَدى”، وكان شديد التعلق بهذا الجد الذى حفّظه القرآن تلاوة وفهما والتزاما وهو بعدُ طفلا، فبـكـّر فى حكمته، إذ ساهم فى سرقة طفولته، كان يحكى لى كل ذلك ليبرر كيف أنه” “كهل بالقوة”، “وكهل بالضرورة”، وأتعجب لمحاولته إنكار كل ماعنده من آلام، بل ومن حقائق مرضه التى ظهرت فى التصويرالمقطعى قبل السفر، ينكرهذا وذاك حتى على نفسه، إن استطاع، ثم راح يتمادى قائلا “ياخجلك من الأمريكان حين يثبتون لك أن كل هذا ليس إلا اضطرابا نفسيا، وأنك عجزت عن تشخيصه فضلا عن تطببيى، فتواجه خيبتك مرتين”. أبتسم متمنيا هذه الخيبة كما لم أتمنّ شيئا من قبل. وإن كنت قد رفضت تماما أن أتصور ـ منذ البداية ـ أن صدىقى هذا ـ كما أعرفه ـ يمكن أن يبالغ فى آلامه (نفسيا؟!)،
صديقى هذا صاحبَ الألم النفسى والجسدى من أقدم القدم، منذ كان هو وأخته يمرّضان أمهما، وهو بعد صبيا وهى بعد غـَضـَّة لم تتفتح، وأمهما تمضى الليلة تلو الليلة تلهث جالسة بلا نوم من عجز القلب أن يدفع الدم من الرئتين، لا.. ليس هذا هو الرجل الذى يمكن أن يتأوه إلا إذا ضغط المرض على (أو انقض يلتهم) نسيج عصب حسى بكل القحة والتحدى، حمدت الله على تصوره خيبتى، وابتهلتُ راجيا: “من يدرى، لعلّها نفسية!!”؟ لكنى كنت أدرى، وهو ـ فى الأغلب ـ كان يدرى ويريد ألا يدرى،
أقول إنه رغم الحكمة والحمد والرضا والتسليم، كانت قفزات الحياة وطموحاتها تطل من عينيه مزيحة كابوس الموت الجاثم لبضع ثوان أو بضع دقائق، وحين أخذ المسكن الفعال لأول مرة، عادت إليه شهيته، وحدة تعليقاته، وحسم قراراته، وبعض ضحكه،
فى مستشفى ماس جنرال فى بوسطن تظهر نتيجة تحليل العينة فى اليوم التالى لوصولنا ونتيقن أن المسألة أخطر من كل حساب، فالعدو الخبيث قد انتشر، ليس إلى الكبد فحسب، بل إلى غدّة ليمفاوية فى الرقبة، هى التى أخذ منها الجراح العينة. كانت النتيجة من الحسم بحيث أثنت الأستاذ الدكتور الجراح الأمريكى المسئول عن أن يبحث عن أصل هذا الورم المفترس، لكن غبائى الدفاعى الناكر أصرّ على أن يسأله عن معنى ذلك، فراح الطبيب الجراح الحكيم يمط شفتيه فى يأس مهذّب وهو يرد على طلبى المزيد من التقصى أنه “وما الفائدة؟”
وأحاول أن أخفى بعض الحقيقة عن صديقى، فيحاول أن يصدقنى علّنى أصدق نفسى، لكن الحوار الصامت الصريح كان يجرى بيننا من وراءنا، حتى أعلننى فجأة، كأنه ينفخ فى نفير نوبة الانصراف أنه:
“أزفت الآزفة”
قلت له “: أكمل يارجل”
قال فى تلكؤ مقصود: “ليس لها من دون الله كاشفة”.
قلت: “الحمد الله أن عندنا صمام أمن نتنفس من خلاله بعد أن يغلق الطب والعلم حساباتهما، فالله سبحانه وتعالى قادر أن يكشف عنا الضر بفضله.
فيشير برأسه، كأنه يوافق، ولايرد.
وحين أختلى بنفسى تلاحقنى آية “أزفت الآزفة” فى تصعيد مدو (“أزفت الآزفة”) حتى تملأ الحجرة، فالفندق، فالمدينة، فالأرض، فالكون جميعا، فأكاد أجرى فى كل اتجاه، وهى تلاحقنى:(أزفت الآزفة..”أزفت الآزفة”، “أزفت الآزفة”. “أزفت الآزفة”..،) وحين لا أستطيع الهرب وهى تحيط بى من كل ناحية يهيج بىَ الشعر قبل أوانه، ألم أقل لكم أن الشعر مهرب مشروع، ولا أملك إلا أن أكتب بعض رثائه وهو بعدُ بجوارى، ولا أتورع أن أقرأه له، مسوّدة فجة، ـ كانت علاقتنا تسمح بهذا العمق وأكثر. يقول لى مشجعا وهو مازال يبتسم. “إنها ستكون سابقة مميزة لرحيلى حين أساهم فى نقد رثائى وأنا “ما زلت حيا”.، قرأت له:
“يختل مجرى العمر والأمل،
(لماذا ياصديقى؟)
دائرةٌ ملتاثةْ
(عجـّـلت بالنهاية؟)
تقضمُ فى المجهولِ والمعلومِ أنيابُ الظلام الجائعةْ،
(هل ضقتَ ذرعا باللجاج والجشع؟)
ثارت أجنة الخلايا تصطرع”.
فتدمع عيناه،
ولا أستطيع أن أكمل القراءة بعد أن غاب صوتى،
لكنه يصر أن أواصل، فأواصل:
تعملقتْ فطرتك الأبيةْ
لم ترعَ عهدا، لا، ولمّا تنتظر
………
لم نـقوَ بعدُ ياصديقى
(فيم العجالة والسام؟)
تقفز خلف الحد، بعد العد، تقتحمْ
ترجع نحو عشها اليمامةْ.
…………………
………………..
ونواصل الأسبوع القادم استكمال الفصل الأول من الترحال الثانى: “الموت: ذلك الشعر الآخر”