نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 27-9-2023
السنة السابعة عشر
العدد: 5870
ترحالات يحيى الرخاوى
الترحال الأول: “الناس والطريق”[1]
الفصل الرابع: الحافة والبحر (9)
… ثم تبينت أن سيدنا بوذا هو الجالس وكرشه أمامه،
غريبة، دون صليب أو مصلوب، فهمتُ- دون سؤال طبعاً،
يا شطارتى!! – أن ثمة جالية هناك من البوذيين، أو أن
عدوى شرق أقصية خاصة أصابت بعض أهل هذه القرية،
وهات يا حرية، وهات يا بوذية، ولا أحد أحسن من أحد،
وكل شئ- وكل دين- جائز فى الولايات المتحدة (ما دمت
بعيدا عن السلطة يا أبا على، دع الناس تتسلّ)
الجمعة 13 أغسطس 1985
………………..
………………..
للبحر رائحة ليست هى رائحة السمك ، ولا رائحة العشب، ولا الصخر. هى رائحة البحر. حين تمتزج رائحة البحر بأنفاس مياهنا الداخلية تتولد حياة لا توصف إلا بأنها “الحياة” . امتزاج رائحة البحر مع حركة أمواجه تحفز مَنْ لا يعوم مثلى أن يقفز معها كطفل يلهو، فإذا بها ترفعه وتهبط به، لتسحب حسه إلى سُرَّة الكون، حين أنزل البحر لا أحتاج أن أتذكر إن كنت أعرف العوم أم لا (حتى بعد أن تعلمت العوم على كبر). أنزل البحر لأصافح الموج وأحاور الكون.
يناسبنى أن يكون الموج هادئا أو هائجا، بل إننى أحسست يوما بأن الموجة العباءة هى أحنى علىّ إذا ما كان البحر هائجا، كانت تلطمنى ثم تحتوينى، وكأنها تدربنى على حقيقة “ما ينبغى” إزاء طبيعة “ما يجرى” كانت موجة حنون وفى بحر هائج”، تغُمرُنى، تذوبُ قطرتى ببحرِهَا، أغوصُ فى مَدَارِهَا، تَدْفعَِنُى. أتوهُ فى رحابِ صدَها، فَتَنْحَنَى، فَاَنْحَنى لَهَا. تلطمنى، تردَنى، متى ترانى أمَىَ الحنون؟ أطلْ من تحت الوِسَادهْ. تبتسمْ. فألثم الرذَاذَ والزبدْ.
نسيت فى انجذاب صلاتى للبحر كل ما حولى وخاصة من العاريات الشائهات، وحين انتهى هذا المقطع من حوارى الذى لا ينتهى مع موج البحر والحياة والتاريخ، خرجت منتعشا متجددا، وانتبهت إلى أن الحال كانت لاتزال كما تركتُها. وهل كنت أنتظر أن يتغير شئ لمجرد أننى قد أهملته وتجاوزته؟. نعم تجاوزته حتى اعتدته بسرعة. وجعلت أتعجب أن تُختصر معركتنا مع الغرب إلى المعايرة بمثل هذا النكوص، الذى قد تكون له دلالة خائبة، أو قد لا يكون له معنى أصلا إلا أنه بدعة سرعان ما ستُنسى أو تختفى، هذا ليس هو مربط الفرس، ولا ينبغى أن يكون، إذ يجدر بنا أن ننتبه إلى أن معركتنا معهم أعمق وأخطر من العرى واللاعرى، إنها تتعلق باختلاف جذرى فى موقف كل منا من الكون عامة، وفى هذه الحياة ضمنا، وهو اختلاف يغير طعم الحياة وطبيعة مسارها، من أقصاها إلى أقصاها.
رجعت إلى زوجتى وحكيت لها أغلب ما حدث لى، ومنى، فاقشعرتْ مقدما، أو احتياطيا، فعرضت عليها أن تأتى وتتفرج هى بنفسها، وما راءٍ كمن سمعَ. وأخذت أقنعها أنها فرصة لا ينبغى أن تفوتها. وبعد لأى شديد، وافقتْ على مضض، ومرتْ، ورأتْ، ورفضتْ، وتقيأتْ، أعنى كادتْ وجعلتُ أحاول أن أنقل إليها ما مر بى من أفكار وتحولات، وأفهمها أنها لم تسمح لأى احتمال آخر أن يهز موقفها المسبق، وأذكـّرها بجاموستنا الطيبة و ابنتها الظريفة، ولا فائدة. أما أولادى وبناتى فقد رفضوا أصلا أن يذهبوا. وحين ألمحت أن هذا ربما يكون أمرا طبيعيا بالنسبة لهم، قالت منى يحيى، ابنتى (حيث معنا منى السعيد ابنتى أيضا) “أبدا”. فقد سمعتْ من صديقتها الفرنسية التى تقيم فى إحدى ضواحى جنوب باريس (سيأتى ذكر زيارتها لاحقا) ومن أقاربها المقيمين فى مقاطعة “بريتانى” شمال فرنسا، أن مثل هذا العرىْ مرفوض منهم أيضاً، وأنهم يعتبرونه مقزِّزا مثلنا سواء بسواء.
استفدتُ شخصيا من الخبرة بكل ما فيها، على الأقل… فإنى لم أسمح بموقف مسبق أن يحول دون أن أعيد النظر، وأن أعتاد النظر، ثم أن أغض النظر..، وعموما فقد كنت وما زلت أعتبر أنه لا علاقة بين العرى والجنس، بل أحيانا أتصور أن ثمة علاقة عكسية.
استعراض التعرى (الاستربتيز) هو الوحيد الذى سمحت لنفسى أن أقبل الدعوة إليه فى باريس. لم أتحمله أكثر من بضع دقائق وانصرفت قبل أن يتم العرض، شاعرا أنه “ليس بشىء”. لا حرية، ولاجمال، ولا طبيعة، هو مجرد امتهان للجسد البشرى، لأنه “عرى للبيع”، أما هذا العرى النصفى هنا، فهو أقرب إلى الطبيعة والاختيار، وأنا أرفض كل شئ إنسانى للبيع، وأتحفظ ضد كل ما هو ليس اختيارا، ولو بدرجة ما، ونحن نثور ثورة مضرية ضد مظاهر احتمال عرض الجسد أو بيعه، ولا نتحرك – بدرجة كافية – إزاء بيع العقول والكرامة والرأى، مع أن هذا البيع الأخير لا يتم فقط بمقابل دنيوى، بل قد يكون بمقابل أخروى كذلك. أنا لا أتصور أبدا أن الله – سبحانه – قد خلق لنا فكرا لنسلمه لغيرنا بأى مقابل. أيا كان هذا المقابل، وما أخفى الشرك بأنواعه إلا على الوعى اليقظ بلا حدود. نعم كنت أرفض كل بيع.
كم كان نشازا تدهوريا أن أقرأ فى واجهة بعض محال سان فرانسيسكو لافتة تقول: “تفرج على عذراء عارية بدولار واحد”، وبقدر ما حاولت أن أفهم معنى ذلك أو فائدته، عجزت، وجزعت، الجسد البشرى، (والعقل البشرى بعض نتاجِه) أصبح فرجة بدولار، لماذا كل هذه المهانة؟ هذا هو الذى احتاج منى الرفض والغثيان، وليس ذاك العرى الاختيارى على الشاطئ من أم مع أطفالها،
ثمَّ بيع آخر لم أقف منه نفس موقف الغثيان، ربما لأنى عشت بجواره مدة أطول حتى ألفته، هو بيع الجنس، لا الجسد. وأحسب – من عمق ما – أن بيع الجنس أكرم عندى من بيع كرامة العقل وشرف التفكير، وأكرم طبعا من عرض الجسد عاريا للفرجة بدولار. أنا لا أدافع عن دعارة معلنة أو خفية، ولكنى أتذكر بعض تأملاتى فى هذه المسألة المغلقة علىّ حتى تاريخه،
مازلت أذكر خبرتى فى باريس (1968/1969) حين سكنت لأكثر من شهر كامل فى فندق بحى كليشى (التقاء دوّارىْ : 71، 81)، وهو أقل شهرة من “البيجال” فى “هذا المقام”، لكنه أخطر وأجمل، لمن يعرف أسرار باريس. أما سبب سكنى فى هذا الفندق (المزعوم) فهو أنه كان أرخص الفنادق جميعا (الحجرة مقابل 21 فرنكا فى اليوم). أما سبب الرخص- كما تبينته فيما بعد- فهو أن حجرات الدور الأول، كانت تؤجر بالساعة، أو بالمرة لطلاب المتعة من كل نوع، لذلك، ولأسباب قانونية تمويهية، كان لزاما على صاحبة الفندق أن تشغل الحجرات الأعلى بأمثالى ممن هم على الحديدة، مقابل هذه الفرنكات الزهيدة، وكثيرا ما كنت أشاهد وأنا فى حجرة الاستقبال أنتظر تليفونا من مصر، أشاهد فى الحجرة المقابلة الزائر(إياه) والباب نصف مفتوح، وهو لم يحكم ضم أزرار سرواله بعد، وحين كان يطول انتظارى لتأخر المكالمة مثلا، كنت أتابع الداخلين والخارجين، هذا ربع ساعة، وذاك خمس دقائق، وهذا نصف ساعة. وتخرج “السيدة” دائما قبل الزبون وتترك الباب نصف مفتوح، حتى لا حظت صاحبنا وهو مرتبك يحكم قفل أزرار سرواله. رحت أتأمل وجهها، حيث كان هو الجزء الذى يعنينى من جسدها، وفى كل مرة أتساءل عن شعورها، ودورها، ومعنى كل هذا “الغلب” الأزلى… ولا أجد جوابا واحدا، أو جوابا ناجعا،
ذات مرة داهم البوليس هذا الفندق بجوار ميدان كليشى، وتصادف أنى كنت موجودا فى حجرة الاستقبال، فسمعت نقاشا بين هذه السيدة، “النشطة” فى منظمات حقوق الجسد الإنسانى الحر، وبين ضابط البوليس. راحت تصيح فيه وهى تحتج صارخة أن مهنتها هذه ـ مهنتهن ـ هى أقدم مهنة فى الوجود، وأنها مهنة موجودة منذ وجد البشر، وأنها أقدم من الزواج وأبقى، وتعجبت من فصاحتها وصدق دفاعها المجيد عن “شرف المهنة”، وأشفقت عليها، ثم رفضت شفقتى إذْ تصوّرتُ أنها لوعلمتْ بها لألقتها فى وجهى، وفى اليوم التالى افتقدت تلك السيدة الفصيحة، فسألت عنها صاحبة الفندق بتردد شديد، وضحكت المرأة بصوت ممطوط فقد كانت من وسط فرنساـ الميدى، وهى مقاطعة يقولون عن أهلها إنهم يغنون حين يتكلمون، من كثرة ما يمطون الكلام، ضحكت وهى تقول لى :”ما عليك، ستسوى أمورها حالا”، ثم أردفتْ، “ولكن لماذا تسأل؟” وقلت لها: لمجرد أن أطمئن عليها. فضحكت من جديد لأنها على يقين أنه ليس لى فى “ذلك الأمر”(هكذا) شىء، ولم أرتح إلا حين عادت “الفصيحة” لمزاولة نشاطها بيقين أوثق، ليعاودنى التساؤل والرفض والتعاطف وعدم الفهم، كالعادة.
يبدو أن هذه الفترة وهذه المهنة شغلتانى بعمق خاص. فحين حضر زميل لى إلى فرنسا نفس العام، وكنت قد حجزت له حجرة فى نفس الفندق بعد أن غادرتُه، نبهتُه أن يحترس؛ “لأن المرأة منهن قد تلتهمك”. كنت أمزح، ولكن يبدو أن وعيه أخذها جدا (جدا)، فحكى لى فى اليوم التالى حلما طريفا: حلم كأن المرأة – مديرة الفندق، وليست إحداهن.. قد استحالت (أو بالذات: الجزء الذى ترتزق به من جسدها قد استحال) إلى فكٍّ مفترس، أخذ يقترب من صديقى (رحمه الله) ليلتهمه – فى الحلم، وعجبت كيف ترجم صديقى تحذيرى العابر الهازل بهذه السرعة إلى تشكيل حالم معبر بكل هذه الصورة العيانية الدالة.
عدت إلى الكوتدازير أواجه عجزى عن الحكم الجاهز حتى على العرايا اختياريا، تعليق الحكم هكذا معظم الوقت هو أحد وجوه عجزى (الذى أفخر به) عن دمغ الناس أو السلوك أو العقائد لمجرد أنى لا أعرفهم، أو لا أعرفها، أليس الأولى أن أستوعب الاختلاف ابتداء؟ وأن أتقمص المُخالف ولو بعض الوقت؟ وحين أعجز عن هذا التقمص لصعوبة أعرف مصدرها أو أجهله، ألا ينبغى علىَّ أن أعلق الحكم نتيجة لعدم توافر المعلومات؟. كم أدى بى هذا الموقف إلى الانتقال من رأى إلى رأى – كما ذكرت- حتى لاحظتْ ذلك ابنتى، فوصفتنى ذات مرة وهى عاتبة أو رافضة، بل مازحة ربما بأنى “ليس عندى شخصية”، وألحقتْ ذلك باعتذار أنها لا تفهم كيف يجتمع ذلك مع متانة موقفى ومثابرتى.
تفسيرى لذلك الذى لم أقله كله لها، دفاعا عن اتهام ابنتى لى، أو وصفها لى، هو أننى أتصور أن شخصيتى المتعددة التوجّه تبدو كذلك، لأنى أعرف اتجاهى، وحركة الحياة فىّ، ولكنى لست وصيا على محتوى “طريقة” سيرى فى هذا الاتجاه. (انظر الترحال الثالث إن شئت) نعم ليست لى شخصية تسجننى، ولكنى واثق من اتجاهى نحو كل ما هو حياة، أو حركة، وأمام. ثم اكتشفت أن هذا هو بعض ما يجعلنى أتقلب على جمر الوحدة باختيار واع. فهذه زوجتى ما زال الغثيان يغمرها بمجرد السيرة – وهؤلاء أولادى يرفضون أصلا أن يتعرفوا على وجه آخر، وأحترم ثقل الجرعة بالنسبة لهم، ولكنى أتساءل: هل ستزيدهم الأىام شجاعة وقدرة على الحوار.. أم ستزيدهم تعصبا وتمسكا بالآمـِن والثابت؟. والأرجح عندى أن الاحتمال الأخير أقرب إلى ضيق الأفق الذى يحيط بالحياة العقلية فى مصر والعالم من كل جانب. وأتذكر “صفية” المومس الطيبة فى روايتى “المشى على الصراط”وكيف أنها، وهى الشخصية الخلفية فى أرضية الرواية قد نجحت فى شد انتباه كل من قرأ الرواية أكثر من الشخصيات الأساسية. وجعلتُ أراجع نفسى بهدوء وأحاول أن أثيرها “ضد” أى شىء، فلا أستطيع. اللهم إلا ضد التعصب والاستغلال. وأعترف أنى مازلت لا أفهم أمورا كثيرة حول هذه الأمور. يزداد الأمر تعقيدا حين أحاول أن أغوص فى مسألة الشذوذ الجنسى (رغم كونه جزءا من تخصصى).
ذات مرة وأنا أقيم فى نفس الفندق مع زميل لى، تراهنا على نوع إحداهن (هكذا قلت) فى حين أن زميلى كان يؤكد لى أنه أَحَدَهُن!!، وليس إحداهن. فأصرخ فيه، وماذا عن الثديين؟. فيقول معاندا: “صناعى” (عيرة). ومرة أخذنا نلف حوله (حولها) من بعيد، لعلّنا نرى ما يجعل أحدنا يكسب الرهان، ولكن لا فائدة، وحين هممنا بسؤال السيدة صاحبة الفندق، تراجعنا فى آخر لحظة خوفا من سوء الفهم. أيضا، ولم نتحقق من منا على صواب أبداً، كان لابد من إقدام استكشافى تحت زعم آخر، لم أكن أنا ولا هو مستعدان له.
………..
………..
ونواصل بقية الفصل الأسبوع القادم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – المقتطف من الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الرابع: الحافة والبحر (الطبعة الأولى 2000)، وتتضمن ترحالات يحيى الرخاوى أيضا (الترحال الثانى: الموت والحنين ) و(الترحال الثالث: ذكر ما لا ينقال ) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net