نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 7-2-2024
السنة السابعة عشر
العدد: 6003
ترحالات يحيى الرخاوى
الترحال الأول: “الناس والطريق” [1]
الفصل السادس: لابد من باريس، وإن طال السفر (5)
…………….
دربى بِكرٌ فوق حصاهُ تسيل دماءُ القدم ِالعارِى
يتبعنى الناسُ الـمِثلي،
ليسوا مثلي.
من مثلى لا يسلكُ إلا دربـَــهْ.
يحفرهُ بأنين الوحدهْ
يزرع فيهِ الخطواتُ الأولىَ
–دوماً أولىَ–
يَرْويهاَ بنزِيفِ الرّؤيْــةْ
16 ديسمبر 1985 (وقت الكتابة)
………………..
………………..
ركنّا الحافلة فى مكان رائع، بين رصيفين معدين لذلك، وقررنا أن نتركها تستريح بضعة أيام؛ فقد فضّلنا ألا نعود اليها إلا عند شد الرحال إلى خارج باريس. فباريس عندى ـ وربما عندهم ـ هى المشى والمترو والناس، السيارة تحول دون ذلك.
يقترب منا ونحن ننزل أشياءنا ذلك الوجه العربى، متأملا فى أرقام السيارة بالعربية، وأفرح بهذا الإعلان المميز الجاذب للأخوة وأولاد العم، ويقول: “بالسلامة”، فنفرح مهللين أن يسلمه الله، ونتعرف عليه “جزائريا/باريسيا” ممن أعتبرهم من معالم باريس بالذات. سألناه ـ وكأننا تذكرنا فجأة ـ عن العيد، فقد كنا قد انقطعنا تماما عن متابعة الزمن العادى، فلا صحف، ولا متابعة أخبار إذاعات عربية، ونحن نعلم أننا بالقرب من العيد الكبير، فقال لنا “فجأة” (أيضا) إنه اليوم، وفزعنا لأول وهلة، ونظر بعضنا إلى بعض فى غيظ وعتاب، ثم انفجرنا ضاحكين، سُرقنا والذى كان قد كان.
هكذا وجدنا أنفسنا فى وسط العيد بلا إشعار سابق. لا…ليس هذا هو العيد، لا يمكن أن يكون اليوم، ليس هو العيد الذى نعرفه.
فالعيد هو الاستعداد للعيد: يابرتقال احمر وجديد، بكره الوقفة وبعده العيد، يابرتقال أحمر وصغيّر، بكره الوقفة وبعده نغيّر، فإذا أتى اليوم التالى فــــ: بكره العيد ونعيد، وندبح أبوك الشيخ سيد. ثم يأتى العيد، فيصبح العيد هو صلاة العيد، والسلام على الناس الذين لا تعرفهم باليد، والرجوع من الطريق غير الطريق الذى قطعناه ذهابا، ثم قبض العيدية، أو إعطاء العيدية (حسب السن والمقدرة). وينتهى العيد مع ضحى النهار. نعم هذا هو العيد، ولا عيد بغير هذا، لا عيد بغير “انتظار” العيد، ثم إنى كنت ـ حتى الآن ـ إذا حدث ـ لا قدر الله ـ أن فاتتنى صلاة العيد، كنت أشعر شعورى نفس هذا الشعورالذى لطمنى فى باريس، أنى سُرقت، وأن فجوة قد فتحت فى حائط الزمن بلا مبرر، فأصاب بحزن دفين أخفيه عن المعّيدين حولى بكل وسيلة.
أتساءل: لماذا أعطى كل هذه القيمة لصلاة العيد، وهى السُّنة المؤكدة لا أكثر؟ ولماذا كانت سنة بالذات، وما كان أسهل أن تكون فرضا، وما أخف أداءه مرتين فى العام؟. وأجيب نفسى فرحا بأن هذه الصلاة ربما لم تـُفرض لأنها تـَفرض نفسها بهذه الدلالة وهذه الوظيفة. فأنا أميز بها العيد تحديدا، وأكتشف علاقتى بالسُّنة، وعلاقتى بالفرض، وكيف أنى قبلت تفسير الحديث الذى أوردت معناه فى هذه الرحلة، من أن “ركعتى الفجر خير من الدنيا وما فيها “قبلت تفسيرا يقول إن الحديث يشير إلى ركعتى السنة وليس الفرض، وأتذكر “قيام الليل”، الذى نزل بشأنه أمر مباشر “قم الليل إلا قليلا، وأتأكد من تفسيرى الخاص لعلاقة الفرض بالسنة فالسنة فعل طواعية واختيار، وكأن الشرع قد نظم علاقة الفرض بالسنة. نظاما يحل مشكلة الحتمية والحرية، يفرض الحد الأدنى لنتحرك بعده مختارين.
أرى أن هذه الطقوس والعبادات التى تجعل يوم العيد مختلفا هى نوع من الوقاية ضد ما يمكن أن يسمّى “اكتئاب الأعياد”، وهو أمر شائع من أيام “عيد بأية حال عدت يا عيد”، والشطر الثانى الذى يربط العيد بالتجديد له دلالة خاصة، لأنه يربط العيد بـ”التجديد”، وحتى لو لم يكن المتنبى يقصد تجديد الذات أو إعادة الولادة، وأنه كان يركز على تجديد علاقته بسيف الدولة، فإنه لاعيد دون تجديد، وكل ما هو جديد وتجديد يحوى جرعة طفليّة طازجة، بدونها لابد أن نشكك فى حقيقة وعمق التجديد.
أحسب أن اكتئاب الأعياد (وإلى درجة أقل: اكتئاب الإجازات) هوالنتيجة المباشرة لإحباط الطفولة حين تصطدم بالفرق الشاسع بين الوعود (الداخلية، والخارجية)، وبين الواقع المتواضع، ربما هذا الوعد بالفرحة هو الذى يفسر أنه لاعيد دون انتظار واعد، وحيث أن الوعود، لا تتحقق عادة ، لأن أغلبها يكون سريا، فهو الاكتئاب.
بعد ضحى عيد طيّب، بدا طيّبا، كنت فى الاسكندرية، والعيد ليس إلا يوما واحدا مهما زعموا غير ذلك، بل إنه ينتهى فى أول أيامه بعد الضحى مباشرة، هذا ما نبهتنى إليه أمى، وهى تردد: “قال دا لإيه؟ للعيد، طب دا لإيه؟ للعيد. مستنى إيه؟ العيد. كلّه عشان العيد، قال إيه؟!! ضحْويةً وفات العيد”، مهما طال الإعداد أسابيع أو شهورا”، فالعيد ينتهى عند الضحى فعلاً خاصة عند الفلاحين الذين ينطلقون إلى الحقل قبل ظهر أول يوم.
فى هذا اليوم أول شوال سنة 1402 ـ الموافق 12 يوليو 1982 ـ هكذا وجدت الورقة مؤرخة بهذا التاريخ وجدتها يوم 12 يوليو 200 وأنا أعيد أوراقى المبعثرة، فتذكرت أننى فى ذلك اليوم احتدت وحدتى وأنا أشاهد المعيّدين من شرفة بيتى – فى الاسكندرية – المطلة على بلاج السراية (أبوهيف)، احتدّت وحدتى حتى غمرت وعيى دون سبب، فى الأغلب نسوا طفلى تماما بفضل حركاتى طبعا، وجدتُنى بين أوراقى بهذا التاريخ أنهنه قائلاً: مارتَّبَ مهدى قبل النومْ، بعد النومْ” ما مرّت كفٌّ حانيةُ ـ غافلةُ ـ فوق الخصلهْ ما أعطانى اللُّعبه فحملتُ الآلهْ حدباءَ بغير علامهّْ.
من هو الذى قصّرفى ترتيب مهدى؟ ليس والدى على كل حال، وليست والدتى فعلاقتى بهاعامّة (أنظر بعد، ربما فى الترحال الثالث إن شئت)، وفى الأعياد خاصة لا تسمح بانتظار ذلك أصلا. رجّحت مؤخرا جدا، قريبا جدا، من”هو” الذى لم يعطنى اللعبة، ولم يرتب مهدى. تذكرت أبا العلاء (هذا تفسيرلاحق) وهو ينبهنا أن كل واحد منّا، وإن طالت سلامته “..يوما على آلة حدباء محمول”.
من طقوس العيد الطفلية، مهما بلغت سنّك، أن تلبس جديدا، وقد تراجعتْ هذه العادة بشكل أو بآخر، وأرجّح أن معنى لبس الجديد، يرتبط بشكل أو بآخر بالتجديد الذى كان يبحث عنه المتنبى، وبطزاجة الطفولة، أو حتى إعادة الولادة التى تكمن وراء هذا وذاك، ما زلت أذكر حكاية جلبابٍ اشترته لى عمتى بتكليف من والدى كاد يفسد علاقتهما،سمعت صوت حفيف هذا الجلباب الجديد وأنا أقرأ:
( 2 )
ما حاكت لى جلباباً ذا صوتٍ هامسْ لم يمسسه الماءُ الهاتكُ للأعراضْ لم يتهدّل خيطــُــه لم تتكسَّر أنفاسُــه
( 3 )
صدّقتُ بأن المَاحَدثَ طوال العامْ يأتينى الآنْ
لم يأتِ سوى الطيف الغامضْ
لا تتوقف التوقعات من العيد عند حد، و”العيدية” التى أصر على إعطائها حتى عهد قريب لكل من حولى حتى زوجتى (ثم إنى -دون سبب – كدت أتراجع مؤخرا)، هى رمز أبوتى المزمنة، فمن يعطينى أنا عيديتى؟
أجرِى بين الأطفالِ وأرتقبُ “العادهْ”، ذات بريق وحضورٍ وروائح وكلامْ. يقطر ثدىُ العمَّ رحيقَ الرُّضَّعْ
أتلفع بُالورقةِ تُدْفئنى تتمايلُ، تتأرجحُ مثل الأيام
تتفتَّح أكمام الحبَّ الآخرْ فأخاف النوم وصبحا يترقَّبنُى
أحيانا، عند من تحتد بصيرتى بما لا أحتمل، ولاقوة إلا بالله، أبطّن أحلامى بإحباط جاهز. هذا نوع من الوقاية التى تجعل وقوع البلاء مثل انتظاره، وربما هذا الموقف أيضا هو ما يفسّر هذا الغم الخبيث الذى يحرم المصرى خاصة من فرحته، حين ينبّه نفسه فى عز بهجته أنه “اللهم اجعله خيرا”، والخوف من النوم فى آخر الفقرة السالفة هو خوف من يقظةٍ تالية قد تؤكد أن كل توقعات العيد لم تكن إلا حلما فعلا. أقف بذيل الصَّفَّ وأفركُ كفى، أيديهم فرحَهْ، تبحثُ عن ظِلَّ البسمهْ، وذراعى مبتورهْ، تختبئ بثنيات الوعد الميّت،
أنزعُها..تَــنـْــزَعُــنى، أهربُ من كومة ناسٍ مختلطهْ، أخرج من باب الدرب الآخرْ .
أكثر ما يغيظنى، فى مثل هذه المناسبات، وأحسب أن شيئا من هذا قد حدث فى ذلك اليوم البعيد، هو أن يصدّقنى من حولى، أن يتصوّروا أن عندى حل بديل، أن يحسبوا أن لى دربا يجدر بهم أن يسلكوه ما دمتُ لاأشاركهم، أظن أن هذه لعبة أنا مسئول عنها بشكل أو بآخر، ولا أعرف كيف أوصل لهم، وربما لى، أنه ليس لى درب أعرفه، وأن غاية أملى هو أن أجد من “يحاول” فى نفس الاتجاه، سعيا إلى توجّه يعد أن يضمّنا يوما ما، حتى لو لم يأت هذا اليوم أبدا، من يتحمّل آلام الجدّة معى؟
دربى بِكرٌ فوق حصاه تسيل دماءُ القدِم العارِى، يتبعنى الناسُ الـمِثلى، ليسوا مثلى، من مثلى لا يسلكُ إلا دربـَــه يحفرهُ بأنين الوحدهْ يزرع فيهِ الخطواتُ الأولىَ ـ دوماً أولىَ ـ يَرْويهاَ بنزِيفِ الرّؤيْــةْ تتفتح أكمامُ العيد بلا موعدْ ذات بريقٍ وحضور وروائحَ وكلامْ
……….
………..
ونواصل الأسبوع القادم بقية الفصل السادس
ــــــــــــــــــــــــ
[1] – المقتطف من الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الرابع: الحافة والبحر (الطبعة الأولى 2000)، وتتضمن ترحالات يحيى الرخاوى أيضا (الترحال الثانى: الموت والحنين ) و(الترحال الثالث: ذكر ما لا ينقال ) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net
كيف حالك يامولانا:
المقتطف : من مثلى لا يسلكُ إلا دربـَــهْ.
يحفرهُ بأنين الوحدهْ
يزرع فيهِ الخطواتُ الأولىَ
–دوماً أولىَ–
يَرْويهاَ بنزِيفِ الرّؤيْــةْ
التعليق : آاااااااه يا مولانا من أنين الوحدة ونزيف الرؤية ،كأنك تطرق بمطرقة كلماتك على جراح غائرة تأبى أن تبرأ …ظنوك عنيدا ولم يعرفوا أنك ببساطة قد قبلت وجودك ودفعت ثمن وعيك من وحدتك وألمك ….العزاء في الكدح إليه