الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ترحالات يحيى الرخاوى الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل السادس: “لابد من باريس، وإن طال السفر” (2)

ترحالات يحيى الرخاوى الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل السادس: “لابد من باريس، وإن طال السفر” (2)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأربعاء: 17-1-2024

السنة السابعة عشر 

العدد: 5982 

ترحالات يحيى الرخاوى

الترحال الأول: “الناس والطريق” [1]

الفصل السادس: لابد من باريس، وإن طال السفر (2)

…………….

دربى بِكرٌ فوق حصاهُ تسيل دماءُ القدم ِالعارِى

يتبعنى الناسُ الـمِثلي،

ليسوا مثلي.

من مثلى لا يسلكُ إلا دربـَــهْ.

يحفرهُ بأنين الوحدهْ

يزرع فيهِ الخطواتُ الأولىَ

دوماً أولىَ

يَرْويهاَ بنزِيفِ الرّؤيْــةْ

16 ديسمبر 1985 (وقت الكتابة)

………………..

………………..

نتجول فى ليون حسب مزاج السيارة، وتوجيهات أى نور أخضر لمدة نصف ساعة، هكذا قررنا، وكلما ابتعدنا عن مركز المدينة أطل علينا وجه الهدوء، فالمرتفعات، فالخضرة، فالجمال يالحقدى الذى لا ينتهى على هذه الأوروبا الخضراء بالطول والعرض.

نتوه ـ كالعادة ـ توها طيبا، كأنه مقصود، فتكشف لنا البلدة الكبيرة عن بعض وجهها أكثر فأكثر، ويكشف لنا ناسها عن بعض طيبتهم، ثم نقرر العودة فتبدأ الأسئلة. وكانت مرشدتى ـ هذه المرة ـ هى كبرى بناتى “مايسه السعيد” وأعقلهن جدا(جدا)، وكأنها قد ورثت حكمة والدها المبكرة، حكمة يكمن وراءها خوف دفين ـ ألمحُه ولا تدركُه ـ خوفٌ من أن تخطئ حتى بالصدفة. فكانت إذا سألتْ أحد المارة عن الاتجاه إلى باريس، راحت تكوّن جملة مفيدة مسبوقة بنداء مناسب، ومنتهية بشكر مهذب. مثلا: “سيدى من فضلك، هلاّ أرشدتنا عن الطريق إلى باريس، مع جزيل الشكر”؟ ” تقولها وكأنها تجيب عن سؤال مُدرسة اللغة الفرنسية فى حصة مطالعة. وبدهى أنها حتى تتم جملتها التى بالغت فى إطالتها ودقتها من فرط الحكمة والأدب، تكون السيارة قد مرقت بجوار “سيدى” هذا، قبل أن يدلنا على شىء، إن كان قد سمع أصلا، أو تكون الإشارة الحمراء قد اخضرت مما اضطرنا إلى الحركة قبل أن يجيب، فجعلتُ أقول لها إن الجهل نعمة. ولأنى لا أعرف الفرنسية إلا أقل القليل، فقد رُحـْتُ أصيح فى بعض المارة بلهجة استفهامية جدا، بكلمة واحدة “..باريس؟؟. ” وأحيانا بدءا بنداء بالعربية “ياعم والنبى… باريس؟. ” فيلتقط هو باريس والاستفهام فورا، ويبتسم ويشير، لكننا عجزنا ـ من كثرة الاستفهامات أن نخرج من “سحر” ليون. كان لزاما أن نتوقف لنرسل مندوبتين راجلتين كلا فى اتجاه، تدخل إحداهما إلى أحد الحوانيت. وتسأل الأخرى بائع فاكهة قريب، فتعودان بخريطتين ذهنيتين مختلفتين، ونضحك؛ إذ يبدو و أننا كنا نسأل على ما لا يُسأل عنه أصلا، فكل الطرق – فى الأغلب – تؤدى إلى باريس، وما علينا إلا أن نمضى حتى نعثر على الإشارات الواضحة، وما أكثرها، وسرعان ما وجدنا أنفسنا فى الطريق السريع إلى باريس دون سؤال.

كنا فرحين بالخطأ والخيبة والحوار والمحاولة جميعا، فقد أتاحت لنا وقتا أطول فى بلد قد لا نراه ثانية، ثم إننا لم نكن فى عجلة من أمرنا، حيث تيقنا أن أغلب بقية الرحلة سوف تكون فى الليل، فقد اقتربنا من المغرب، أو اقترب منا المغرب، إذ لم أكن على يقين أينا أكثر ثباتا، وأينا أنشط حركة (نحن، أم المغرب؟). ورحم الله كوبرنيكس، و”أينشتاين” معا، ذلك أنه فى السفر خاصة، لابد أن تصاحب “الحركة” بدرجة يستحيل معها أن ترى شيئا ثابتا. فأنت فى السفر، لا تقطع الزمن بل تواكبه، وتدور مع دورات الشمس، وتبادل الليل والنهار، فالزمن على “الطريق” يصبح كائنا حيا، يقترب منك، كما تقترب منه، ويوازيك، ويستأذنك، وتستأذنه، ثم تلتقيان، أو يتوارى أحدكما عن الآخر قليلا أو كثيرا ليعود متراخيا أو مقتحما، وهكذا، و لعل تحريك الأفكار، وإعادة النظر وتجدد البهر يرجع بعضه إلى هذا التنشيط المتحرك من كل اتجاه، وفى كل إتجاه.

تحضرنى علاقتى بهذه الحركة المتبادلة، أو المتداخلة مُنذ كنت أركب القطار طفلا فأشعر أنه يسير إلى الوراء ثم أكتشف أن القطار المجاور هو الذى غادر المحطة، (كان ذلك قطار طنطا لأن قطار الدلتا (زفتى بركة السبع) كان خط جديد واحد= غير مزدوج). كما كنت أحاول الإمساك بالأشجار على جانبى القطار وهى تتراجع منى الواحدة تلو الأخرى، من أيامها: وأنا أعيد النظر فى مسألة الساكن والمتحرك؛ لأكتشف أنه “لا سكون”، وإنما هو اختلاف سرعات الحركة واتجاهها لكل المتقابلات فى آن. وقد صالحنى هذا اليقين المتأخر على علاقة الزمان بالمكان، وبالعكس. ومع تحريك الزمن عرفت كيف يولج الله الزمان فى الزمن، وبالعكس. كيف يولج ربنا الليل فى النهار ويولج النهار فى الليل، وعدت أصالح القَسَم “بمواقع النجوم”، و أعايش وأدور مع “الشمس وضحاها، والقمر إذا تلاها” ـ بل إنى عدت أقرأ العين الحمئة التى تغرب فيها الشمس باعتبارها زمانا لا مكانا، وحتى الطرق جعلتها زمانا يتحرك. الطرق لا تعلن لك مرتفعاتها أو العكس فى وضح النهار، بل هى تسحبك سحبا إلى أعلى أو إلى أسفل على المدى الطويل، فما بالك بالليل… هذا الليل الرائع المرؤع الحاضر المحيط.

رحت أستنتج أننا فى مطلع حين “تزوم” سيارتنا الطيبة أو تئن فتتباطأ سرعتها، على الرغم من حسن نيتها ومحاولتها الاستجابة لقدمى على بدال الوقود، فأنتبه أو ينبهنى أحد الرفاق، فأستجيب بدورى، لكن المسألة انقلبت جدا لا يحتَمِل هذا الحوار الرقيق؛ إذ سرعان ما أدركنا أننا داخلون على فصل الشتاء شخصيا، وبسرعة فائقة، فانخفضت درجة الحرارة، وغامت السماء مع زحف الليل اللاهث.. “ثم”.. (ويا ليتنى أجد لفظا أقصر من “ثم”) انفتح الطوفان شلالا من جوف السماء. لم تكن المسألة هذه المرة مجرد تغيير فى الطقس، أو إعلان للانتقال من مكان إلى مكان، لا… ولم تكن ـ طبعا ـ أفواها للقرب كما اعتدنا أن نصف المطر الغزير، لكنها كانت نقلة من فصل إلى فصل، من صيف إلى شتاء خلال نصف ساعة ،دون المرور بخريف أو غيره، وكأن السماء قد قررت ـ فجأة ومن فورها ـ أن تحفر نهرا جديدا يكون موقعنا هذا هو منبعه شخصيا، وابتسمت، فسنشهد نهرا ينبع!!، إن لم يكن فى الخارج، ففى داخلنا..، ولم أكمل ابتسامتى، فقد تسارعت لطمات الماء من أمام ـ والسيارات تمرق بالسرعة ذاتها، وكأن شيئا لم يكن، وقد سبق أن أشرتُ فى هذه الرحلة إلى مثل ذلك فى الطريق إلى زغرب، لكن التجربة هنا كانت أقسى وأشد مما يبرر التكرار. فقد اجتمع الظلام مع المطر، مع الطريق السريعة، مع ما تثيره العربات المارقة من لطم واجهة سيارتنا، مع عدم خبرتى. اجتمع علىّ كل هذا أنا شخصيا، وكانت العلامات الفوسفورية المنظمة على جانبى الطريق هى وسيلة الاتصال الوحيدة بين ناظرَىّ والعالم الخارجى؛ حيث لا أستطيع أن أتبين أن السيارات التى عبرتنى قد عبرتنى إلا بما تثيره من عواصف مائية، أما معالمها فلابد أن تُقَدّر بالتقريب. وكان أكثر ما يرعبنى أن يمر بجوارى هذا الكاميون الطويل الذى لا أعرف متى سينتهى، وأتعجب من سرعته، مع العلم أنى أسير بسرعة تقترب من المائة، فكيف يمر بى هذا الحوت (موبى ديك) بهذه الصورة وهذه السرعة؟ ومرة أخرى أعلن دهشتى من طمأنينة صحبتى التى تبدو وكأنها الشجاعة، والبرد لا يزيدهم نشاطا، بل يهيئهم لنوم أعمق، وتيقنت تماما أن السلامة فى يده وحده فعلا، ومادام كل أفراد هذه الصحبة من الطيبين الأبرياء على ثقة ـ هكذا ـ بالحياة ومانحها، فلابد أننا نسير “فى السليم”!!. وما إن تعودنا على الطريق الجديدة، والدلالات الجديدة حتى نام من نام، وتمدد من تمدد..، ولم يبق معى إلا مرشدتى، والحافلة، وأفكارى، وعلامات الفسفور.

يواصل المطر حفر منبع النهر الجديد، بلا انقطاع، لمئات الكيلومترات حتى ينتصف الليل، ومازلنا نسير، ونلمح إشارات دالة على مكان الانتظار القادم.. فننحرف يمينا ثم يمينا (ونحن فى أقصى اليمين من أصله)، ثم ندخل إليه لنسوى أمورنا، ونفرد ظهورنا، ونطلق عنان سائر الوظائف الفسيولوجية. وبكل غيظ، يتباطأ المطر حتى يكاد ينقطع.؟ ما هذا؟ هل يقصد أن يغيظنا؛ فيخف حين نتوقف ثم خذ عندك حين نسير؟ وقد كنت أحوج ما أكون إلى أن يهدأ المطر قليلا؛ لألتقط أنفاسى ولو دقائق أثناء السير المارق من حولى، لـَكَ فى ذلك ـ وغيره ـ حـِكـَمٌ يارب.

نتشاور فى بقية الرحلة، ونحسبها، فلم يبق على باريس سوى مائتى كيلومتر وبضعة عشر، فمتى نصل؟ قرب الفجر؟. وكيف سنتعرف على طريقنا فى باريس فى هذه الساعة المبكرة، بهذه السيارة الطيبة المتهادية؛ إذ يبدو لى أنها تجنست بالمصرية الحقيقية رغم أصلها اليابانى، وأنا لا أعرف باريس إلا راجلا، أو تحت الأرض، وهى ـ السيارة ـ تبدو لى منهكة صبور، تؤجل الاحتجاج حتى نصل، تتحمل لطمات المارقات العملاقة دون شكوى (!!!)، فلها العتبى حتى ترضى. لا.. لن يكون الأمر سهلا؛ إذا وصلنا باريس بعد الفجر هكذا. إذ من نسأل..؟. وكيف نهتدى إلى الفندق الذى ألفنا النزول فيه؟.. فيقترح البعض أنه مادام مبيتاً بمبيت؛ فلنعرج على أول “موتيل”، وقد تعلمنا أن الموتيلات دائما أرخص، وأظرف، وأوافق من حيث المبدأ، على الرغم من أنى لاحظت أنه فى مثل هذه الطرق السريعة لا توجد موتيلات واضحة أو كثيرة أو قريبة. المهم وافقت وتعهدت، وبدأنا مواصلة المسيرة بعد تغيير المرشدة المهذبة الهادئة، بمرشدة متحفزة يقظة، تعرف جيدا أنى أحتاج بين الحين والحين إلى نصف كوب من أىة مياه غازية بها سكر. وقد لاحظتْ أن طلبى هذا قد تكرر بانتظام حتى نبهتنى مرشدتى الصغيرة “منى السعيد” أننى أصبحت مثل السيارة أستهلك كذا لتر “ميراندا” أو “ببسى” كل كذا كيلو، وأنى لابد سأتوقف اذا نفد وقودى، أو وقود السيارة، أينا أسبق، لذلك كنت احتفظ بزجاجة خاصة لى لزوم احتراق الطاقة المنتظم هذا، الأمر الذى جعلنى أتوحد بالسيارة أكثر فأكثر.

وتمضى ساعة وساعة، ونقترب أكثر من باريس، ومن إشارة الموتيل معا، وأقول فى نفسى: كيف يا جدع أنت، ستدفع فى الموتيل الشئ الفلانى لمجرد قضاء ساعتين… نصفها فى عمليات بيولجية، وأخجل من أننى مازلت أحسب كل شىء، وكل قرش، وأقارن، وأفضل، الطريقة ذاتها التى اعتدتها وأنا فقير وأنا جائع، لماذا؟، وأكتشف أننا فى باريس قد نقع فى المطب ذاته، إذ قد ندفع ليلة كاملة إذا شغلنا الحجرة قبل الظهر، ثم إن هذا الموتيل بعيد عن العاصمة، فلابد أنه أرخص، فاخـَتـْر وما فيهما حظ لمختار، ولا أعلن عن أفكارى هذه لأنى أعلم أنها نابعة من كومبيوتر الفقر القديم، حتى لو كان كل واحد من أفراد الرحلة مسئولاً عن ماليته مستقلا كما اتفقنا.

ظـَهـَر الموتيل، ليس كغيره مما جربنا فى هذه الرحلة، فهو ضخم فخم، يبدو كمجمع خدمات، قهوة.. أو ناد أو بار: صالونات فخيمة، وناس أفخم، محترمين على ما يبدو، أغلب الوجوه هادئة مرسومة، لا يبدو عليها آثار “عدوان” السفر أو المطر، أو جهاد اقتحام العادات القديمة واكتشاف الطبيعة الجديدة، ناس مرتاحون!، فنظرت فى وجوه صحبتى، فوجدت فيها مثل ما طاف بى.. “هذا ليس مكاننا” ـ هكذا قلنا لبعضنا دون كلام. ومع ذلك، فأين نمضى الآن، ولم يبق على باريس سوى بضعة وستين كيلومترا، كما لم يبق على الفجر سوى ساعة أو بعض ساعة؟.

………………………..

………………………

ونواصل الأسبوع القادم بقية الفصل السادس

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] –  المقتطف من الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الرابع: الحافة والبحر (الطبعة الأولى 2000)، وتتضمن ترحالات يحيى الرخاوى أيضا (الترحال الثانى: الموت والحنين ) و(الترحال الثالث: ذكر ما لا ينقال ) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية  فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة  الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط  www.rakhawy.net 

 

تعليق واحد

  1. المقتطف / وأنا أعيد النظر فى مسألة الساكن والمتحرك؛ لأكتشف أنه “لا سكون”، وإنما هو اختلاف سرعات الحركة واتجاهها لكل المتقابلات فى آن.

    التعليق / حسيت أن هذا ينطبق أيضا على شعور السكينة حين يستشعرها أحدنا حيث لا سكون فى المتقابلات المتضادة فينا
    و لكن شعور السكينة هو مجرد إختلاف فى سرعة و إتجاه المتناقضات داخلنا

    كم هو ملهم الانصات لسردك خبرة ترحالاتك يا مولانا الحكيم كما هو ملهم الانصات لكل مايصدر عنك دمت ملهما و معلما

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *