الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ترحالات يحيى الرخاوى الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الخامس: أغنى واحد فى العالم (8)

ترحالات يحيى الرخاوى الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الخامس: أغنى واحد فى العالم (8)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأربعاء: 20-12-2023

السنة السابعة عشر 

العدد: 5954 

ترحالات يحيى الرخاوى

الترحال الأول: “الناس والطريق” [1]

الفصل الخامس:  أغنى واحد فى  العالم (8)

وغرقتُ فى سُحُب الدخاِن والشواءِ والكلام والعدمْ،

فرأيتهُ ُشطراً من الشعـِر انتظْم

حَسَدا جباناً مهْرباً من بُعْدِنـَا عنَّا،

أعدمتــُه بشراَ،

صيّرتُه رمزاً قتيلا بين أصداءِ النغمْ،

حـَرْفاً تقلَّبَ دامياً من وخز هزَّاتِ القلم.

السبت: أول سبتمبر 1984

………………..

………………..

دخلنا إلى أرض العجائب صنع الإنسان العجيب، فبدأت فروق الأعمار تتضاءل رويدا رويدا حتى لم يبق إلا العمر الموحَّد لكل الموجودين، العمر الذى ليس له رقم فى شهادة ميلاد أو أىة أوراق رسمية. وهو العمر الذى يستطيع ـ دون استئذان أو حرج ـ أن يصادق ميكى ماوس شخصيا صداقة تسمح له بالطلب، والعتاب، والمشاركة، والاستزادة، والإعادة، والاستغماية. فتلفتُ حولى وأنا أنسلخ من نفسى خشية أن يرانى أحدهم متلبسا بطفولة لم أعهدها، لاحَ لى وجهٌ فى مرآة ما أثناء استبدالى آلة التصوير الفورى (دون مقابل)، فوجدته وجهى مليئا بما يشبه الحزن، أريد ألا أشعر إلا بما أشعر به، هو شعور ليس له علاقة بهذا الوجه وصاحبه. نما هذا الشعور الحر السهل حتى كدت أنسى، لكننى كنت أسمع بين الحين والحين حديثا بالعربية، فأرتد إلى عمرى الحالى، وأكثر، فى لمح البصر، فأجدُنى لبستُ أول ما لبستُ دروع  مهنتى مستعدا أن يستشيرنى هذا الصوت العربى (أو المصرى خاصة) فى مسأله صداعه، أو أن يسألنى فتوى فيما يتعلّق بخلافاته الزوجية، أو  أن يسترشدنى عن أحسن وسيلة للاستذكار، تمنع رسوب ابنه، أو  أن يحدثنى عما وصلت إليه درجة اضطهاد رئيسه له، وألعن هذه المهنة التى تفرض علىّ أن أكون مستشارا طول الوقت، وكأنى أملك بها (بهذه المهنة) مفاتيح السعادة (والبلادة) وأسرار العواطف وترياقاً “ضد الفشل”. وقلت لعلى أبالغ فى تجنبهم بسبب هذه المهنة التى لـُـصقت باسمى، ثم حلت محلى حتى كادت تخنقنى، وكأنى بتجنبى أبناء بلدى إنما أتخلص من هذا الدور المهنى مؤقتا بعناد وإصرار، ربما.

ونشترك فى اللعبة تلو اللعبة، والمركبة تلو المركبة، حتى ننسى أو نكاد، ولا يبقى أمامنا وحولنا وداخلنا  إلا الأطفال بما فى ذلك ذو الشعرالأبيض، والكروش المتهدلة، والعـِصىّ التى تسند الظهر المنحنى، والسروال “الجينز”، والقفزة المرحة، والشعر الأجعد، أو المرسَل. أعمار وألوان وأجناس انصهرت فى أرض واحدة لتتمازج فى كتلة طفلية واحدة، وكلما كان الطابور طويلا، كانت اللعبة أدعى إلى المشاركة، ومن كثرة الالتواء لم نستطع أن نتبين إلى أىة لعبة يؤدى الصف الذى وقفنا فيه لمجرد أنه طويل.

 قلنا: مثلنا مثل غيرنا، ومن ينتظر يرى. وتمر نصف ساعة ونحن نتحرك فى كتلة ممتزجة، كمثل طابور نمل يجر قالب سكر بأكمله. وكلما تقدمنا تجاه مكان قطع التذاكر فالدخول، واجهتنا اللافتة تلو الأخرى “تحذر”، “إن الإدارة غير مسئولة”، عن ماذا يا ترى؟.كيف يحملونا المسئولية ونحن أطفال فى أطفال؟. تحذير آخر يقول: “على السادة مرضى القلب أن يعدِلوا راجعين”، الله !! تبدو الحكاية جدا، ثم من أدرانا بقلوبنا ونحن لسنا من أهل الفحص الدورى، وأقول لزوجتى التى تركب أى مصعد بالكاد إن المسألة ليست سهلة، وأتوقع أن تقترح أن نعود إلى أدراجنا، بعد أن وقفنا ساعة وبضع دقائق، لكنها ترجح عنادى، فتسكت علامة الرضا الذى هو والرفض المطلق سواء، وحين نصل إلى التعرف على اللعبة، نفاجأ بأنها “رحلة فى الفضاء”، أهكذا؟

نتذكر متحف سفن الفضاء فى واشنطن دى سى D.C.، وكيف دخلنا “الكابسولة” فى طابور طويل مماثل، وكيف أخذنا نتحسس جسمها وأماكن الرواد، وكأننا نحصل على البركة؛ إذ نلصق ظهرنا بانحناءاتها، تماما مثلما كنا نفعل صغارا فى قبلة السيد البدوى الملساء، أو قبلة مريديه المحيطين بضريحه. وقد تصورت هناك أن النقلة من رحلة الفضاء العامر التى كان يقوم بها السيد البدوى فى مجاهدته للكشف والتجلى، إلى رحلة الفضاء الخالى داخل كبسولة مغلقة محكمة، هى رمز النقلة التى حدثت وتحدث للإنسان المعاصر.

المهم، وصلنا إلى مدخل رحلة الفضاء “اللعبة”، فى أرض ديزنى، وجعلت أنظر إلى وجه زوجتى، فلم ألاحظ ارتياعا أو امتقاعا كما توقعت، ربما من فرط التسليم، أو بسبب يقين اليأس من التراجع. وربما من فرط شجاعة تفاجئنى بها عادة فى الأزمات، فواصلنا السير إلى مقعدينا فى إحدى المركبات، على الرغم من التعليمات بأن يمسك كل منا بكلتا يديه العمود الصلب المستعرض أمامنا، فقد أمسكته بيد واحدة، وأمسكت زوجتى باليد الأخرى، متصورا أن فى ذلك بعض الشهامة ونوعا من الاعتذار عما أعرضها له بسبب عنادى وإلحاحى فى تجريب ما لاأدرى، لكن هذا الوضع قد ألحق بى ما لم أحسب. فإن يدا واحدة لم تسعف فى حفظ توازنى، واليد الأخرى لم تساهم فى طمأنتها، ونحن ننطلق بسرعة هائلة بين نجوم صناعية، وشموس باهرة، وسقوط غير متوقع. وكانت النتيجة أن شعورى بالذنب أو بالمسئولية من جانب، وبعدم الأمان والتهديد من جانب آخر، تضاعفا. وهات يانجوم سابحة، ونيازك ساقطة، وبراكين ثائرة، ومطبات غائرة، وعينك لا ترى إلا النور، أعنى الظلام. وتعلمت كيف أن “الحداقة” المصرية التى أغرتنى بادعاء الشهامة الزوجية، وبالتالى بتجاوز التعليمات “لا تفيد”. كما حاولت أن أنتبه كيف ينبغى أن أحاول أن أكف نفسى عن التفكير نيابة عن الآخرين تحت زعم حمايتهم، أو تحت محاولة الاستغفار أو الاعتذار عما اضطررتهم إليه، خاصة وأننا بمجرد انتهاء رحلة الفضاء الوهمية وجدت زوجتى أثبتُ جنانا، وأهدأ بالا منى، ليس فقط لأنها أنهت الرحلة، ولكن لأنها لم تتكلف كل هذه الحسابات والادعاءات والوصاية.

تصورت أن مثل هذا الموقف يقع فيه كثير من رؤسائنا القدامى والمعاصرين، فهم يفرضون علينا قهرا والديا تحت مختلف العناوين، ثم يعوضوننا ـ أو هكذا يتصورون ـ بحماية مشبوهة لا ترحمهم ولا تـُنضجنا، وهكذا.

لم يخفف من آثار رعب هذه التكنولوجيا اللعبة إلا رحلة وهمية أخرى فى قارب يخترق أدغالا وبحيرات مصطنعة فيها نماذج بالحجم الطبيعى لحيوانات معاصرة ومنقرضة وقبائل بدائية برقصاتها وأدواتها، وتصورت أن وظيفتها أنها تنشط فى داخلنا تاريخنا الحيوى بشكل أو بآخر، وكأن هذه الرحلة الأخرى تدعونا أن نتذكر أصلنا إن نفعت الذكرى وأن نتحمل مسئولية ما وصلنا إليه من بشرية، ونحن إذْ لا ننسى جذورنا تمتد وفروعنا تثمر.

 قد يكون كل هذا الذى أقوله وأستنتجه صحيحا، ولكن الأصح أن “يصل” إلى وعيى دون أن أدرى به أو أعقلنه، نعم لا بد أن تصل الرسائل تلقائيا عبر كل تحفظاتنا، ومن خلالها، وبالرغم منها… إلى نبض طفولتنا، ولا أعنى بالطفولة تلك المرحلة الأولى من تطورنا البشرى، ولكنى أشير أيضا إلى المراحل الأولى من طفولة البشرية وما قبلها، وهذا وذاك لا يكون له معنى ولا قيمة ما لم يكن حاضراً فينا الآن، وقابلا للتنشيط الحالى. وكأن وظيفة هذه الملاهى العملاقة هى أن تنزعك انتزاعا مما تتصوره عن نفسك لتضعك إقحاما فى مواجهة ما نسته من نفسك.

يتصادف وجودنا فى أرض ديزنى ذلك اليوم مرور لست أدرى كم عاما على اختراع شخصية “ميكى ماوس”، ولعل كل يوم طوال الـ 565 يوما يخترعون مناسبة مختلفة يحتفلون بها مع الرواد بنشاط متجدد ويعلن ذلك فى المكبر، وتمتلئ شوارع الملهى العملاق بكل شخصيات الكارتون التى ابتدعها والت ديزنى، تسير بيننا تصافحنا وتداعبنا، ثم تنتظم “الزفة” مثل زفة مولد النبى التى أشرت إليها قبلا فى “زفتى”. ولكنها زفة موسيقية تكنولوجية، حديثة، ورائعة، ولا يستطيع أى من زوار هذه الأرض مهما بلغت رزانته ودفاعاته إلا أن يسلّم نعمته إلى كلية مهرجان اللحن البهيج، وأكاد أنسى كل مآسى العالم، وبالذات تلك التى يتسبب فيها هؤلاء الأمريكيون أنفسهم فى كل أنحاء العالم، وأنجح جزئيا حتى تنتهى الزفة وسط زخم النسيان والنشوة،

كيف ينجح هؤلاء الناس فى أن يسحبوا من هو مثلى سحبا إلى ما هو طفل بهيج فى داخلى، ثم لا يتورعون عن قتل أطفالى الحقيقيين بالنابالم فى المخيمات، أو بالجوع فى أكواخ القحط؟ أو بالذل فى تدابير القهر المعوناتى؟. هل هذا التناقض المريع هو من طبيعة الحياة الحرة وحسابات الديمقراطية الغربية؟.

هل نجحت هذه الحضارة فى أن تفصل بين إحياء وجدان الأفراد “فرادى”، لتسهل سحق هذا الوجدان بسلطة مركزية خفية، تتحكم فى مصائر الجماعات والمؤسسات بآلات الدمار وشروط الإطعام؟

أستبعد هذه المنظومة الإضطهادية التآمرية المحبوكة حين أتذكر أن سرقتى إلى ما هو طفل بهيج لم تتم ـ فقط ـ فى هذا الملهى العملاق، بل إنى خبرت تجربتين تلقائيتينْ لم يكونا من صنع الأمريكان بالضرورة.

قبل هذه التجربة بأيام، كنت فى سان فرانسيسكو، وكان يوم أحد، ولاحظت بجوار الفندق، وفى ساحة متسعة أمام مكتب استعلامات حكومى، على ما أذكر ـ أن ثمة فرقة كبيرة، كأنها أسرة كبيرة، قد تجمعت بآلاتها الموسيقية البدائية، وخيل إلىَّ أنهم من جزر هاواى، أو ما شابه، بملابسهم الملونة والممزقة فى أشرطة جميلة هفهافة، ووجوههم الملوحة بسمرة رائعة، لاتخفى الملامح الآسيوية عموما، وقد تزينوا بريش جميل الألوان وأشياء كثيرة لا بد أن تـُرى حيث لا أسماء عندى لوصفها، وقد تجمع حولهم المواطنون والسياح على حد سواء فى مشاركة مجانية رائعة، ولأمر ما… التقطتنى فتاة منهن، لا أحسب أنها تتعدى الثالثة عشر من عمرها، وسحبتنى إلى وسط الحلقة، فحاولتُ أن أتملص منها لكنى خجلت من إصرارها، وتلقائيتها، وعدم اعتبارها لفارق السن، وأخذتْ هى تشير بما فهمت منه أنها دعوة لى أن أرقص معهم جماعيا، فأُفهمها – بالإشارة أيضا – أننى لا أعرف أى رقص، بأى شكل. فتصر أن هذا أفضل، وكأنها لا تريد منى ما أعرف، ولكن ما لا أعْرف، وأنه ماعلى إلا أن أفعل مثلما تفعل هى، أو مثلما أستطيع، أو مثلما أى شىء. وأحسست بذلك الشعور العجيب الذى يراودنى، فى مثل هذه المفارقات والمواقف وغيرها، أحسست أنى أمام أم طيبة (13 سنة) تصبر علىّ وتشجعنى بكل ما أوتيتْ من أمومة صبورة متحملة، فخجلت من التمادى فى الدلال، أو ما يبدو أنه كذلك. وشعرت ـ ربما فجأة ـ أنى فى أشد الحاجة إلى ما تدعونى إليه، ودقت الطبول، وقفزتْ، فقفزتُِ، ودارتْ فدرتُ، وشاركتُ، ونسيتُ ـ أو كدتُ، ثم … ثم انسحبتُ، ثم ياويلى: تذكرتُ، فاكتشفتُ أننى ما نسيت: لا هذا، ولا ما قبله، ولا ما معــه.

 ياساتر!! لم ذاك؟.

……….

………..

ونواصل بقية الفصل الأسبوع القادم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] –  المقتطف من الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الرابع: الحافة والبحر (الطبعة الأولى 2000)، وتتضمن ترحالات يحيى الرخاوى أيضا (الترحال الثانى: الموت والحنين ) و(الترحال الثالث: ذكر ما لا ينقال ) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية  فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة  الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط  www.rakhawy.net 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *