الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ترحالات يحيى الرخاوى الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الخامس: أغنى واحد فى العالم (7)

ترحالات يحيى الرخاوى الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الخامس: أغنى واحد فى العالم (7)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأربعاء: 13-12-2023

السنة السابعة عشر 

العدد: 5947 

ترحالات يحيى الرخاوى

الترحال الأول: “الناس والطريق” [1] 

الفصل الخامس:  أغنى واحد فى  العالم (7)

وغرقتُ فى سُحُب الدخاِن والشواءِ والكلام والعدمْ،

فرأيتهُ ُشطراً من الشعـِر انتظْم

حَسَدا جباناً مهْرباً من بُعْدِنـَا عنَّا،

أعدمتــُه بشراَ،

صيّرتُه رمزاً قتيلا بين أصداءِ النغمْ،

حـَرْفاً تقلَّبَ دامياً من وخز هزَّاتِ القلم.

السبت: أول سبتمبر 1984

………………..

………………..

ونواصل النزول إلى الشاطئ المحدود فى جوف الجبل، فأتذكر سان اسباستيان فى شمال أسبانيا حيث اقتطَعَ جبلها ـ خلسة أيضا على ما يبدو ـ جزءا من المحيط بالطريقة ذاتها، ولكن على نطاق أوسع، وحين نصل إلى حيث بضعة النفر من الناس فى حمام السباحة الطبيعى هذا، أجد ما توقعت من العرى والطفولة والطبيعة والحرية والسماح بما يليق بالمكان والزمان. لم أنبه زوجتى (متذكرا غثيانها)، ولا أولادى (متذكرا عزوفهم المبدئى)، وإن كنت أحسب أن العرى هنا فى هذا المكان المغلق كان أقل نشازا وتحديا من العرى على الشواطئ المفتوحة. كما أنه يبدو أن التنبيه إلى الشذوذ ـ بحسب مقاييسنا ـ هو الذى يجعل الشذوذ شاذا.

يستأذن الصغيران ـ على وأحمد ـ فى غُطس عابر، وأتمنى لو أشاركهما، فقضمة البحر هذه وسط الجبل قد تكون إنعاشا لما أحتاج لإنعاشه من حمام مخيم “ألبا دورو” على مشارف فينيسيا، ولكنى أخجل من إظهار هذه الرغبة وحولى هذا الشباب الرزين والعياذ بالله، فتصنعت الحكمة وانتحيت جانبا أجلس على صخرة كبيرة مطلقا خيالى يعوم بطول الخط الفاصل بين الأفق والبحر، وقد يختفى خلف السحاب المتشكل بما يوحى بكل ما يمكن.. وغيره، واضطجع الباقون ـ حتى ينتهى الصغيران من غطسهما ـ كل بجوار صخرة تُماثِلُه، و تَكمِّله، وصورنا، وصمتنا، وكاد بعضنا أن يغفو، وانتظرنا الصغيرين حتى يشبعا، فلم يشبعا، فاضطررنا إلى توقيت ميعاد لـلرحيل القسرى، وعاودنا الصعود راضين متعجبين من كل هذه الفرص لكل الناس. يكفى أن تكون عندك سيارة، (وفى فرنسا توجد سيارة لكل ثلاثة مواطنين بما فى ذلك الأطفال)، أو أشغال سنغالية وتذكرة أتوبيس، و”سندوتش” لتتمتع بكل هذا،

 يارب لا اعتراض، ولكننا فى مصر أحوج ما نكون إلى أن نتصالح مع الطبيعة، ثم أنفسنا، وبالعكس. فى مصر جمال شاسع ممتد بلا نهاية، ذلك السحر الواعد، ماذا فعلنا به ؟ بنا؟  متى؟ إلى متى؟

يصل إلى مسامعى همْسُ عدد من رفقاء الرحله، كانوا يتداولون فى أروقة السلالم الحجرية الصاعدة: أن هذا يكفى. لأنه ـ فى الأغلب ـ لن يكون فى سان رافائيل، أو سان دييجو إلا جبل، وبحر، وعـِـرى، وطفولة، وحمد، ومقارنة، وغيظ، ورضا، وقد وصَلَنَا كل ذلك فى هذه الانحرافة المختصرة، وأعلم أنى سأخسر لو أصررت على مواصلة السير لمائة وخمسين كيلو مترا آخرين لأثبت لهم أن كلامهم غير صحيح، فرضيت مكرها، برغم يقينى أنه لايوجد جمال مثل جمال آخر،

أتصور أن للطبيعة بصمات مثل بصمات البشر، يستحيل أن تتماثل، أرنى ألف ألف صخرة، ومثلها من الموجات، والسحب، والورود، وسأريك فيها ألف ألف جمال بالعدد ذاته، مضروبا فى حالتك، فى عدد زوايا رؤيتك، ملونا بحدة إنبهارك، نابضا بدرجة انفتاح مسام وعيك، فلا يـُـفسد الجمال الا أن تشعر أنه “مكرر” أو “مقرر”، أما أن تكتشف فيه دائما ذلك التفرد، وأن تأتى ذلك مختارا، فقد ملكت نواصى الداخل والخارج مبدعا فى كل آن،

بصراحة.. نحن عندنا حس جمالى، لكنه من نوع آخر، كأننا نحس بالجمال سرا، أو فى حياء. فما زلت أذكر نظرات ذلك الفلاح الصديق الذى يعزمنى على غدائه على رأس الغيط، وهو “يدش” فحل البصل ويتأمل طبقات البصلة الداخلية الملتفة فى دوائر حتى القلب الرقيق القابع فى مركز الدوائر، فأتناوله منه شاكرا مشاركا. يتبادل ذلك مع لف عود الكرات، حول كسرة الخبز دون الإسراع بالتهامها، وهذا ليس من قبيل “ما احلاها عيشة الفلاح”، ولا هو يتم بوعى ظاهر، لكنى على يقين أن هذه العلاقة الوثيقة الهادئة بين الداخل والخارج، هى من مكونات صلابة الناس وأصالتهم، وهى الجمال ذاته حتى لو لم يعلن، وبديهى أن هذه ليست دعوة للرضا بالفقر، فالفقر على المدى الطويل كفر مشوَّه، لكنها تذكرة تنبه إلى عدم التسرع بالتماس أسباب عمانا عن الجميل بلوم الفقر ورفع شعارات جاهزة مبررة.

ماذا حدث لهؤلاء الذين اغتنوا منا فلم يزدادوا إلا ذهولا وتخديرا؟ والفقراء أيضا تصلبوا أمام التليفزيون دون الطبيعة ثَمَّ شئ قد حدث جعلنا نتخاصم ـ فقراء وأغنياء ـ مع أنفسنا فى الداخل، فنخاصم الخارج، شئ ما قد سد مسامنا حتى لم نعد نستطيع أن نستنشق الطبيعة. وحتى الدين الذى نزل أصلا ليساهم فى “تسليك” المسالك بين الإنسان والطبيعة، إلى مابعد المدى، انتهى إلى أن يصبح ـ فى الأغلب ـ عجينة من الأسمنت والجبس تجثم على مرونة الحركة وتسد المسارات الجمالية الحرة يبن الداخل والخارج، وبرغم وصية الأديان جميعا بالنظر فى أنفسنا، وفى السماء والأرض والنجوم، فإننا لا نطيع ربنا فى ذلك، بل نستعمله لإثبات أن ديننا أحسن، وألمع، وأكسب، نريد بذلك أن نشكل الناس والأفكار فى النمط “الصحيح” الجاهز الواحد، فى حين أن الوعى الفطرى لا يمكن إلا أن يرى تجليات الواحد الأحد فى كل العصور المتعددة التواجد بلا نهاية، يجمعنا ذلك النبض المشترك الأعظم فى وحدة النغم الكونى مع اختلاف الحضور والشهود والوجود باختلاف الزمان والمكان.

نعم ليست أىة صخرة مثل غيرها، والجمال ـ هنا ـ فى ثيو غيره فى سان سباستيان، غيره فى شاطئ عجيبة فى مطروح، ولابد أن يكون غيره فى سان رافائيل لو زرناها، ولكن: مادام الأمر كذلك، والعمر قصيراً، وعلى الرغم من أنه لايغنى جمال عن جمال، فقد انتبهت إلى استحالة الإحاطة بكل إبداع الحق، المتناغم فى صور الطبيعة المتنوعة، فوافقتهم راضيا دون أن اعلن احتجاجى على استسهالهم وتقاعسهم، فهم لم يكونوا كذلك.

رجعنا من طريق غير الذى أتينا منه بين “كان” و:بو ليو”، وكأننا ننفذ وصية صلاة العيد، يقابلنا مستر بوارو الفرنسى بسؤالنا عن ماذا فعلنا فى أمر السرقة. ماذا يريد هذا الرجل؟ ماذا يفعل بالضبط ؟ يواصل مستر بوارو طرح منظومات فرضه، وهات يا اقتراحات إضافية، واستنتاجات لاحقة، ونهرب منه ساخطين بكل معنى، كاد يفسد نسيانا الجميل لما حدث.

لم أكن أتصور أن عقل مثل هؤلاء الناس فارغ كل هذا الفراغ حتى يلف مكانه هكذا بلا طائل، تسلية هى أم ماذا؟ وفى محاولة الهرب من ضياع الليلة فى اجترار الأحداث التى نسيناها والحمد لله، يذكرنا الأولاد بتلك الإشارات التى كانت تدعونا إلى زيارة ملاهى” أنتيب” وهى بلدة جبلية تقع بين كان ونيس، فنعتذر أنا وزوجتى برغم خبرتنا الناجحة فى العام الماضى فى أرض الديزنى ضاحية لوس أنجلوس، وربما كان اعتذارنا نابعا من خوفنا من تشويه طفولتنا التى انطلقت منا فى أرض ديزنى تلك المرّة، ثم إن مسألة ذهابنا إلى الملاهى مع الأولاد غيرها إذا كنا وحدنا، حسب ما جربنا صدفة ـ وبصراحة فأنا ما عدت مقتنعا بالاكتفاء بأن من “أطعم صغيرى بلحة، نزلت حلاوتها بطنى”، فقد يكون هذا طيباً مرحليا. أما أن نظل نتمتع من خلال متعتهم فحسب، فهذا ظلم لنا، ولهم. هذا استعمال خفى لا يصلح طول العمر، ولا يصلح عذرا للكبار أن يتوقفوا ويدعوا، ثم يستعملوا أولادهم بدلا عنهم. لم أجد عندى استعدادا أن أذهب معهم ليفرحوا فأفرح، وفى الوقت ذاته لم أطمئن إلى قدرتى على النكوص الشخصى طفلا يلعب بنفسه لنفسه، ويشارك بنفسه، فهذا أمر احتاج فى العام الماضى إلى كل تكتيكات والت ديزنى التكنولوجية والطبيعية، حتى نجح فى اختراق طبقات حُزنى، وفى ترويض بعض خجلى، وفى تحجيم معظم حساباتى، وفى تأجيل أغلب مسئولياتى. فعلت كل ذلك هناك فى لوس أنجلوس دون استئذان، فهل يا ترى ستقدر أى ملاهٍ أخرى أن تعيد لعبة سرقتى إلى طفلى ـ أنا ـ بعد أن فقست حركاتها، هل سيسمح لى أولادى أن أكون “طفلى” وهم حولى فى هذه الملاهى الأصغر؟. لا أظن.

ما زلت أذكر تلك الخبرة التى علمتنى كيف أن بعض أذكياء الخواجات يعرفون من هم مثلى، يعرفون همومه الأزلية، بقدر ما يعرفون مفاتيح طفولته السرية، فيستدرجونه تحت أى عنوان، ثم يظلون يرددون كلمة السر، وينوعونها، حتى تفتح الأبواب الخفية إلى طفولتنا الكامنة، أو المقهورة، أو الخائفة، أو المنزوية، أو المنسية، أو المهملة، قصدا، أو بالصدفة.

هذا ما حدث فى أرض ديزنى (ديزنى لاند) فى لوس انجلوس.

كان ذلك فى العام الماضى، خلال رحلتى الاضطرارية إلى أمريكا، لم يكن عندنا ـ زوجتى وأنا ـ غير ما يقارب أربعين ساعة نقضيها فى لوس أنجلوس، فقد وصلنا مطارها قادمين من سان فرانسيسكو، حول الواحدة ظهرا، وقررنا أن نغادرها صباح اليوم بعد التالى (لست أذكر لماذا؟) وكنا قد سألنا صاحب الفندق فى سان فرانسيسكو ونحن نتجه إلى لوس انجلوس عن أى المعالم أولى بالزيارة فى هذا الوقت القصير، فدلنا على مَعْلَميْن: الاستوديوهات العالمية (ما نسميه نحن: هوليود، مع أن هوليود نفسها ليست إلا قرية على قدر حالها)، وأرض ديزنى (ديزنى لاند) ـ ولم يكن عندنا خيار كبير، فاتجهنا من فور وصولنا بعد الظهر إلى الاستديوهات محتفظين باليوم التالى للملاهى، لكننا وصلنا تلك الاستديوهات بعد قيام آخر فوج، فى آخر جولة، فجعلنا نتجول حولها من خارج، ونحاول أن نرى من خلال وجوه الناس العائدين من الجولة ـ بالإضافة إلى ما سمعته ممن سبقت له زيارتها ـ كل ما يمكن تصوره، فرأيت الخدع السينمائية العملاقة، والمدن الكاملة المعدة للانهيار ـ مثلا ـ والكبارى التى تقام فى ثوان وتنتقل فى ثوان والمطر الصناعى، وغير ذلك كثير كثير مما صوره لى خيالى، قدرت أن هذه الزيارة الخيالية من خارج السور، ومن خلال قراءة وجوه الخارجين قد تكون أرحب من الزيارة الحقيقية، حيث سمح لى خيالى أن أقارن بين ما يجرى فى الخارج وما يجرى فى الداخل،

تصوّرت  أن واقعنا المعاش ليس إلا  سلسلة من هذه الخدع العملاقة: حروب غير مفهومة، ورؤساء غير مسئولين، وسرعة غير هادفة، ومكاسب بلا عائد، وأفكار بلا مسئولية وديانات بلا إيمان. فكدت أتيقن أن كل ذلك أكثر إدهاشا مما كنت سأراه لو أنى دخلت الاستديوهات. إن الزلزال الحقيقى ـ مثلا ـ كثيرا ما يبدو لى أكثر عبثية ولا منطقية من أضخم عرض لإغارات” موبى ديك”، أو هجمات ” الفك المفترس”..، اكتفينا زوجتى وأنا من الاستديوهات بما وضَـلَنَـا  فزادت حماستنا لقضاء اليوم التالى فى أرض ديزنى شخصيا.

وصلنا “هناك” ـ أرض ديزنى ـ حول الساعة العاشرة صباحا، والسائق “المحترم” يوصينا بأنفسنا خيرا، ويعطينا اسمه ورقم سيارته وميعاد اللقاء واختيارات العودة، وكأننا أطفال يحفظوننا أسماءنا بالكامل وعنوان بيتنا حتى إذا تهنا (زحمة ياولداه!!) ذكرنا اسمنا فى قسم البوليس، بالوضوح الذى يعيدنا إلى أهلنا بأسرع ما يمكن، فأحسست ببداية تحريك الطفل القابع هناك فى داخلى حيث لا أدرى منذ لم يكن أصلا ـ ربما ـ،

……………

……………

ونواصل بقية الفصل الأسبوع القادم

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] –  المقتطف من الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الرابع: الحافة والبحر (الطبعة الأولى 2000)، وتتضمن ترحالات يحيى الرخاوى أيضا (الترحال الثانى: الموت والحنين ) و(الترحال الثالث: ذكر ما لا ينقال ) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية  فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة  الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط  www.rakhawy.net 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *