الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ترحالات يحيى الرخاوى الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الخامس: أغنى واحد فى العالم (6)

ترحالات يحيى الرخاوى الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الخامس: أغنى واحد فى العالم (6)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأربعاء: 15-11-2023

السنة السابعة عشر 

العدد: 5919 

ترحالات يحيى الرخاوى

الترحال الأول: “الناس والطريق” [1] 

الفصل الخامس:  أغنى واحد فى  العالم (6)

وغرقتُ فى سُحُب الدخاِن والشواءِ والكلام والعدمْ،

فرأيتهُ ُشطراً من الشعـِر انتظْم

حَسَدا جباناً مهْرباً من بُعْدِنـَا عنَّا،

أعدمتــُه بشراَ،

صيّرتُه رمزاً قتيلا بين أصداءِ النغمْ،

حـَرْفاً تقلَّبَ دامياً من وخز هزَّاتِ القلم.

السبت: أول سبتمبر 1984

………………..

………………..

أتساءل عن علاقتنا نحن ـ حتى الشباب ـ بالحركة الجسدية أصلا، حتى المشى، وأتساءل أكثر عن معنى التقدم فى السن لدينا، وما الذى يدفع هذا الكهل لأن يقوم بكل هذا وحيدا عنيدا، ولماذا يتركه الناس ـ هكذاـ بكل سماح وثقة، بلا نصيحة معوقة أو شفقة معجزة، وكيف يتمسك بهذه الحياة، بما تبقى له من قدرة كما يمسك بحبال الشراع الرقيقة فوق هذا اللوح فى مهب الموج والريح؟ وماذا بعد مثابرته هذه وعناده فانتصاره؟ أين سيصب ناتج انتصاره فى فعله اليومى وقد ناهز الثمانين؟ ولا أستطيع أن أتخيل معالم يومه العادى أبداً. كما أنى لا أجد إجابات مقنعة أو حتى تقريبية، فأتوقف عند هذا الإختلاف، وأتمنى ألا أنسى كل ذلك،أو بعض ذلك، فما أحوجنى إلى مثله فى أحيان كثيرة.

ونمضى بعد “كان”، فى اتجاه سان رافائيل، وما إن نتجه إلى الشمال الغربى، حتى نجدنا نصّاعد فى السماء، ويتململ الركب خوفا من أن تنقلب الفسحة الترويحية (حسب توقعاتهم) إلى مغامرة جديدة (غير محسوبة) ذاكرين جبال يوغسلافيا المتواضعة، إذ يبدو أننا مقبلون على ما هو أشد وأعتى، فأواصل الصعود دون أخذ رأيهم، ونظل كذلك حتى ترى سيارتنا زميلات لها وقد تلكأن حتى توقف بعضهن هنا وهناك على الجانبين. وكالعادة، تتباطأ هى الأخرى حتى تقف بجوارهن، فنجد أنفسنا على مشارف بلدة اسمها ثيو Theo، ونترجل للنظر من أعلى الجبل، فنرى مايشبه الخليج الصغير شبه المغلق، وكأن البحر قد استأذن الجبل ليرتاح فى حضنه، فصار هذا البعض مثل حمام سباحة هادئ مفتوح على الموج فى اتجاه واحد، أو كأن الجبل قد قضم قضمة من البحر فاستطعمها فلم يبلعها، فوقفت فى حلقه يلوكها بمتعة خاصة واختيار متجدد، ولم نكن قد ابتعدنا عن “كان” إلا قليلا،  ونقرر أن ننزل إلى هذا الخليج، نتنصت على هذا الهمس بين البحر والجبل، وقد يأخذ على وأحمد غطسا، لعلنا نتذوق مباشرة ذلك الطعم الشهى الذى منع الجبل أن يتعجل فى ابتلاع قضمة البحر. نعم.. حمام سباحة “خلقة ربنا”، ونجد المهبط معدا بدقة شديدة، سلالم حجرية، ثم منحدرات شبه مستوية، ثم سلالم، وعدداً بلا حصر من اللفات الرائحة الغادية، وهكذا، ونرجح أنهم إما يستغلون مسار تعرجات الجبل الطبيعية فيقلبونها طريقا، وإما أنهم يحاولون التخفيف من حدة الصعود بكل هذه التعاريج، ونكتشف خداع النظر، فالخليج الذى بدا لنا من أعلى مثل حمام سباحة صغير هادئ ثبت أنه عميق إلى قاع القاع، وأن نبضه غاذر قوى؟ بدت لى الطبيعة متآلفة فى قوة: قطعة البحر قد استقرت آمنة وهى ترقد فى حماية الجبل من كل جانب، لكنها لم تفقد زخمها وعنفوانها.

 نقابل فى طريقنا على المهبط ذلك السنغالى الطويل الرفيع الأسود، وهو يمسك بيده عدة مشغولات جلدية، ومن الخرز، يعرضها للبيع بأثمان زهيدة فعلا، ويتعرف على جنسيتنا، ويتكرر الحوار “مسلم؟”. مسلم!: “لا إله إلا الله” “أهلا” “متى العيد الكبير؟” ياه!!، ونكتشف أن العيد ـ وكنا بصراحة قد نسيناه فى زحمة الترحال وضياع معالم الزمن ـ هو بعد  ثلاثة أيام، ولكن ما الذى أتى بهذا السنغالى إلى هذا المكان، فى هذا الجبل؟. وما هذا الذى دفعه إلى أن ينزل إلى هنا يعرض بضاعته على عدد من الزبائن لا يزيد عن عشرة وليست عند أى منهم ـ فى الأغلب ـ نية الشراء؟ فما “لهذا” قدموا “هنا”؟. وهذا السنغالى؟ ماذا فى ذهنه؟. كم يكسب؟. وكيف أتى؟. ولماذا ـ هنا ـ بالذات؛ حيث لا تجمعات ولافرص، وأتأكد من أن هذه الدنيا تسير وفق حسابات أعقد وأخفى مما يبدو على ظاهرها، يقال عن بعضها مما يناسب المقام “أرزاق”، هذا المعنى الذى اختفى ـ تماما ـ وراء النظام التأمينى للحياة؛ فطالبُ الرزق الآن لا يسير فى مناكبها، ولا يقف على “باب الله”، ولا يحسب نفسه وجهده “سببا”، (.. فهو متسبب) يُجرى الله “من خلاله” ما يتجلى به فضله على عباده، كل هذا أصبح يعد موقفا سلبيا وقدريا وغبيا. أما الموقف الذكى جدا فهو انتظار قرار القوى العاملة، أو الوقوف فى طابور معاش البطالة فى الدول المتحضرة، ويبدو أن هذا السنغالى لم يستوعب ـ مثلى هذه القوانين الجديدة بالدرجة التى تُقعده فى بيته. سألته (بعد المساومة، والتخفيض إلى النصف، والشراء، والرفض من بقية الرفقاء)، سألته: لماذا؟ هنا بالذات؟. وكيف؟. قال إنه طالب يدرس، ويريد أن “يصيـّف”، فيحاول أن يجمع مصاريف رحلته بهذه التجارة المتواضعة، وصدقته نصف نصف، ثم تذكرته بعد ذلك فصدقته تماماً لما رأيت مواطنيه من مختلف الأعمار يحملون البضاعة عينها بالعشرات فى البيجال، وحول الساكركير فى باريس. ولم تمنعنى شكوكى من أن أفرح بهذا الرحالة الشاب المتواضع ولمعة سواده تبرق تحت الشمس وكأنها أقرب ما فينا إلى الطبيعة الحية القوية حولنا، وأنا شديد الضعف أمام ذلك الأسود الرفيع الطويل، وهو عندى غير الزنجى، وغير السودانى (مثلا). فالزنجى عندى هو صاحب الأنف الأفطس والشفاه الغليظة والشهية المفتوحة لكل ما هو بدائى قوى شبقى متقد. والسودانى هو أنا وأنت وكل صاحب ملامح عربية “غامقة” وشهامة ورِقة فى آن واحد. أما رفيق الطريق هذا ذو الملامح المنمنمة، والسواد اللامع، والجذع الممتد مثل شجرة الأبنوس، فهو يشعرنى برهافة الطبيعة بدرجة تحرك فى داخل داخلى كل ما هو حمأ مسنون.

ثار داخلى يوما فى هذا الاتجاه نفسه المنجذب نحو السواد الفطرى حين رحت أتحدث بالإشارة مع فتى أسود، سواده لامع جد،  وهو طويل، ورقيق جدا، كان يقوم يتنظيف حجرة فندقى فى الخرطوم (سنة 1980) كان طويلا حتى حسبت أنه لن يمر بباب الحجرة إلا منحنيا، وكانت له بسمة رائقة رائعة تنفرج عن ذلك البياض الناصع الذى يذكرنى باللبن الحليب الطازج فى طاجن محروق، دون أن يغلى، ثم يذكرنى ـ أيضاً ـ بما هو قلب طفل لم يُختبر، وكان يوجد بطول خديه، وعلى جبهته، عقد منتظم من بروزات دقيقة مرتبة، وقد علمت من هذا الفتى السودانى فى الخرطوم (بالإشارة الإنجليزية ـ أساساـ فهو لا يعرف العربية ولا يجيد الإنجليزية) أنها وشم منذ الطفولة يميز أبناء قبيلته من البوير فى الجنوب، وقد أثارنى كل هذا حتى كتبت فيه شعرا، وان كنت قد أنهيت القصيدة رافضا هذا النوع من المشاركة بالانفصال الفنى الذى يخفف من نبض إيقاع الوعى، الشعر قد ينزع عن الإنسان نبضه الحاضر إذ يقلبه   إلى رمز مغترب أو صورة بعيدة، مهما كانت جميلة، وكأننا نكتب فى الناس والأوطان شعرا أو نثراً أو وصفا؛ لنخفف بذلك من مسئوليتنا عن تحمل مسئولية المشاركة، فكرة قديمة، أزعجتنى وحيرتنى كثيرا.

تذكرت فتى البوير هذا، وأنا أتطلع إلى الفتى السنغالى على الدرج الحجرى الهابط إلى قضمة البحر عند ثيو، وجعلت أقول لنفسى “أفريقيا”، هذه الأفريقيا، يستحيل أن أكتمل أو أعرف ماذا أنا إلا إذا غرقت هناك فى محيط سوادها مباشرة، السواد هو الأصل.

حين كنت فى الخرطوم فى تلك السفرة كنت مع المرحوم الأستاذ يحيى طاهر لفحص زميل متهم (رحمه الله) فى جناية قتل، وكان من بين أقوال بعض الشهود وصفهم المتهم بأنه “الزول الأزرق”، ولم أفهم صفة الأزرق هذه إلا بعد أن خدّم علىّ فتى البوير فى الفندق، فلفظ الزول يعنى الشخص، والأزرق هو من ليس أسوداً هذا السواد اللامع الغطيس، هو ما يرادف لفظ أسمر عندنا (وليس أسود).  أتم فتى البوير هذا تنظيف الحجرة على أكمل وجه، وكان عوده الفارع الدقيق، وابتسامته العذبة، وعينيه المليئتين بالحب والألم، كان كل ذلك فيه من الرسائل ما يكفى لتحريك كل ما تعاطفتُ معه به، وتصورته عنه من هجرة، وغربة، ووحدة، ورقة، وقد فوجئت به فى بهو الفندق فى المساء ونحن ننتظر مائدة العشاء من الشواء الفاخر وغيرذلك. فوجئت به وهو يجلس خلف صندوق تلميع الأحذية، ربما كان هو يزيد دخله بعمل إضافى بعد الظهر، وربما كان أخوه، وربماكان بلدياته، نفس العود، ونفس الألم، ونفس الوشم: حبيبات من اللحم بعرض جبهته وليست مجرد رسوم دق أو كىٍّ محدد.

 لم أحتمل ما غمرنى من تعاطف و ألم، فوجدتُنى أرسمه شعرا، وكأنى بذلك أنساه، أو ألغيه، وتنبهّتُ إلى موقفى القديم الذى أشرت إليه حالا، والذى يتهم الفن عموما، والشعر خصوصا بأنه قد يكون مهربا وتسكينا، وليس بالضرورة محركا ومحرّضا. وبدلا من أن أسمح لنفسى أن أُفرغ انفعالى به شعرا بعيدا عنه، رحت أعرّى الشعر نفسه كوسيلة لإلغاء الآخر، فكتبتُ ما أسميته: المقصلة”، أو “الإعدام بالشعر”:

( 1 )

والوشم حبّاتُ الزبيبِ والعرقْ، حلمات أثداءِ الأمومةِ والطبيعةِ والشبقْ. والليل يشرق ساطعاً من وجه عملاقٍ رقيقْ، حَمَلَ البدايةَ والمصيرْ،  فتطلّ من عَينْيهِ أحدا ثُ الليالى الصامتة ْ قامت تمطّـت بعد دهرٍ ثائِر، فى الكهف سرُّ الكونِ والبعثِ الجديدْ، رحـِمُ الحقيقِة والأجنّةُ كامنهْ، فى البذِر تنتظرُ المطرْ.

( 2 )

يــا إبن أمّ: كيف السبيلُ إلى المياه الغائرهْ؟ تروى القبورْ ؟ والعين أطْفَأَهَا رماد الجرى فى غَيْرِ المحاجرْ، والقلب منقوع السآمهْ ؟

( 3 )

 أصدرتُ أمراً غائما من فوق قمّة الهرم، من مخبأ الصمم: [يا لمعة الحذاء فى حفل المساء، ما بين سادة عجمْ ] فضّ الغطاء وابتسم، فمضى الشعاعُ السيفُ يخترقُ المدَى. تجلـو الملاِمحَ فى غَيَاباتِ الحَزَن.

( 4 )

..وغرقتُ فى سُحُب الدخاِن والشواءِ والكلام والعدمْ، فرأيتهُ ُشطراً من الشعـِر انتظْم حَسَدا جباناً مهْرباً من بُعْدِنـَا عنَّا، أعدمتــُه بشراَ، صيّرتُه رمزاً قتيلا بين أصداءِ النغمْ، حـَرْفاً تقلَّبَ دامياً من وخز هزَّاتِ القلم

( 5 )

نادى الخليفةُ حاجبهْ، دخل النديمُ مهلـِّلاً، قرأ القصيَدَة فانتشى، قد راق مولانا الغناءْ.

أين لى هذه الفرصة التى أتواصل فيها مع أصلى، أصلنا، الأسود الرائع؟

فى أفريقيا، فى الجنوب، فى السواد الأعظم، لن تكون سياحة للفرجة؟ إذن، ماذا تكون؟ تكون مخاطرة الكشف المرعب، حتى أنى أتصوّر أنها غير قابلة للكتابة، ستكون أعمق وأكبر من الكتابة.

لماذا الكتابة؟

…………..

……………

ونواصل بقية الفصل الأسبوع القادم

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] –  المقتطف من الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الرابع: الحافة والبحر (الطبعة الأولى 2000)، وتتضمن ترحالات يحيى الرخاوى أيضا (الترحال الثانى: الموت والحنين ) و(الترحال الثالث: ذكر ما لا ينقال ) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية  فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة  الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط  www.rakhawy.net 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *