الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ترحالات يحيى الرخاوى الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الخامس: أغنى واحد فى العالم (5)

ترحالات يحيى الرخاوى الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الخامس: أغنى واحد فى العالم (5)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأربعاء: 8-11-2023

السنة السابعة عشر 

العدد: 5912 

ترحالات يحيى الرخاوى

الترحال الأول: “الناس والطريق”[1]

الفصل الخامس:  أغنى واحد فى  العالم (5)

وغرقتُ فى سُحُب الدخاِن والشواءِ والكلام والعدمْ،

فرأيتهُ ُشطراً من الشعـِر انتظْم

حَسَدا جباناً مهْرباً من بُعْدِنـَا عنَّا،

أعدمتــُه بشراَ،

صيّرتُه رمزاً قتيلا بين أصداءِ النغمْ،

حـَرْفاً تقلَّبَ دامياً من وخز هزَّاتِ القلم.

السبت: أول سبتمبر 1984

………………..

………………..

كان ذلك حين أحاطت بنا النظافة ومظاهر الاحترام والانضباط فى أكثر من مكان ومناسبة، وقارنتْ هى ذلك بعكسه عندنا، فى أكثر من مكان ومناسبة أيضا، وقد كان ردى دائما على هذا الشباب المتحفز لترك الجمل بما حمل، أنه : “إذا كانت بلدنا سيئة، فلنبق لنـُـصلحها، أم أننا سنقوم باستيراد مواطنين صالحين جاهزين لذلك، وإذا كانت حسنة، فلماذا نتركها؟”. ويبدو منطقى سليما، لكنى لا أتحمس له.

تكرر هذا الموقف  مع أخيها الأكبر محمد بعد ذلك بأكثر من عشر سنوات فقد هاجر فعلا هو وزوجته وإبنه وابنته إلى نيوزيلاندا وبعد عام ونصف عام تبين أنه لا ينتمى، ولن ينتمى إلى هؤلاء الطيبين المنضبطين، تأكد أنه ذهب إلى غير مكانه، أنهم ليسوا هم، وعاد بعد أن أرسل إلى حافظ عزيز صديقه يقول له أن والده (أنا) على حق فى موقفه من الحضارة الغربية وأشياء أخرى،  لكنّه أضاف لحافظ بأنه لا يعرف بديلا.

ولا أنـا أعرف بديلا . لكن ثم بديلا حتما.

وأهمس لنفسى متعمـِّدا ألا أسمعنى، حتى أنا، أخشى أن أسمعنى وأنا أسألنى:

ـ وأنتَ؟. متى تتركها؟.

 فأجيب:

ـ حين يخنقون الكلمة فى صدرى فلا أستطيع أن أساهم بإعلان ما أرى،

 ويلسعنى كسوط خفى ذلك الجواب السريع؛ لأعترف مرغما أن هذا استسهال أخبث، وأتوقف عن الحوار الداخلى.

أحمد الله على السرقة وآثارها.

لكننى أشعر بثقل فوق قرنى الأيسر ، هأنذا أعانى من نكسة سريعة وأنا  أختبر قدراتى فى مواجهة كل هذا، وكأنى مسئول وحدى عن تعديل الكون، وإرساء قواعد حضارة جديدة، تستوعب كل هذه الحضارة المادية وتتجاوزها.  هذه الحضارة (المادية: فى الشمال شرقه وغربه) قد شاخت واستتبت.  أتعجب لتراخينا فى مواجهتها، والألعن أننا نواجهها بأن نكون الوجه الأقبح لها.. تحت عناوين دينية خالية من كل تكامل متجاوز.

يزداد يقينى أن مافعلته شركات التأمين، من حفز إلى السرقة (بضمان تعويض المسروق، ومكسب السارق). وما فعلته القوانين بالحفز إلى خرقها بالعنف الدموى… الخ. ماهو إلا الصورة الأخرى لما فعلته مناهج البحث العلمى الجزئى بتأكيد الاغتراب عن جوهر المعرفة، وهو هو ما فعلته قوانين السياسة الأحدث بتبرير الحروب والقتل عن بعد، أشياء كلها تبدو لأول وهلة: تنظيمية حديثة، ولكنها فى واقعها تعلن أن الإنسان لم يعد يثق فى نفسه، ولا فى جنسه، ولا فى شئ، فوضع كلاما على ورق، يتصور به أنه بديل عن الانتماء لـلحقيقة المطلقة، للقاسم المشترك الأعظم، للحن الأساس، لله، للبصيرة اليقظة؛

الكلام على الورق مهما بدا جميلا ومنمقا فإن المكَّلف بتنفيذه ليس ورقة ضمن الأوراق.

الأحد 2 سبتمبر 1984

كنا قبل السفر قد استخرجنا تأشيرة دخول إلى أسبانيا، لكننا عدلنا حسما حتى لا تنقلب الرحلة إلى خطفِ نظر، أو فرطِ عدو. فليست المسألة: كم بلدا زرنا، وكم كيلومترا قطعنا، دون أن نزور أو نقطع ما يقابلها من طبقات الداخل، ومساحات الناس؟. وكان ترتيبنا فى هذا اليوم أن نتجه غربا إلى “كان” وما بعدها (سان رافائيل، وسان دييجو)، ولم أكن قد تذكرت بوضوح أن “كان” هذه: هى هى “كان” التى يتردد اسمها كل عام مع أسماء أفلام ومؤتمرات ومناورات فنية لا أفهمها، وأنها هى هى التى يتباهى بالإقامة فيها أو زيارتها أثرياء العرب ومغامروهم، وكنت قد زرتها أمس مع مصطفى فى عجالة من أمرى لنقابل “المرحوم” د.حلمى شاهين فى بعض أمر ولدى هذا، فوجدته يجلس على الكراسى المرصوصة على الشاطئ فى تراخ حر، يجلس وحيدا وكأنه راض أو سعيد، وفهمت معانى أخرى للرضا، مثل تناسب المُراد مع المُتاح، أو تصور التميّز والاستقلال..، أو أى معنى لا يخطر على بالى، المهم أن “الرضا” ليس هو فقط ما أعرفه بهذا الإسم.

بدا لى هذا الشيخ الطيب فى أهدأ حالاته وهو يحكى، وهو يشكو، وهو يصر، وهو يفخر، وقد أخذ يصف لى تغير أحوال “كان” عما كان، وكيف أن الفندق ـ مثلا ـ أصبح مليئا باللبنانيين بحيث لم يعد يجد فيه المناخ الذى يُشعره بالنقلة، ومن ثم بالإجازة أو السياحة، إذْ ما فائدة أن تشد الرحال لتتكلم نفس لغتك، وتسمع نفس النكت، وأسخف، وتتلقى المقالب ذاتها وأسطح..، وتغتاب، وتنِـم، وتقارِن، وتزن، على الموجة المعتادة ذاتها؟؟.

عدت أقارن كلا مـِـن رفض الدكتورحلمى شاهين و رفضى بذلك الالتحام الذى ألاحظه بين أفراد الجنس الأصفر الغازى لهذه الحضارة الغربية، يغزونها ومعهم لغتهم وأطعمتهم وتقاليدهم. وأقارن بين انزعاجى (الداخلى) إذا سمعت صوت مصرى أو عربى يصيح أو يغنى، أو يهرج، وأنا فى سياحتى الأوربية، وبين حدبهم على بعضهم وإصرارهم على الالتصاق والتميز والتمسك بكل ما هُم، فألوم نفسى وأشك فيما تقدم من أعذار أوتبرير. ومن هذه التبريرات أننى  أتصور أننى لشدة رغبتى فى استعمال الرحلات للاستكشاف والتعرى، أريد أن أعرّض كيانى لأكبر مساحة ممكنة من وجود آخرين فعلاً، على أرضية مختلفة، فلعلّ هذا هو ما يجعلنى حريصا على عدم إضاعة وقتى مع من يمكن أن أجدهم فى بلدى، وأكاد أقنع بهذا التبرير، لكن زوجتى تقدّم تفسيرا أقسى: وهو أنى أحب مصر الأرض، ومصر الأم، ومصر الأمل، ومصر القبر، ومصر المعنى، ومصر الرمز، ولكنى لا أحب المصريين اللحم والدم، لا أحبهم أشخاصا محددين حاضرين فى وعىى فعلاً، فأنزعج انزعاجا بالغا لاحتمال صدق هذا التفسير، وأحاول أن أُفـهـمها ـ ونفسى ـ أنه لا يوجد شئ اسمه “مصر” دون “مصريين”، لكنها لا تقتنع، ولا أنا، فأدارى خجلى من عِرْيِـى وأعترف بضرورة أن أجاهد نفسى فى هذه المنطقة، لعلى أتخطى هذه الفجوة بين ما هو مصر ومَنْ هم مصريون. تلك الفجوة التى ضبطتنى زوجتى متلبسا بتوسيعها بالتجنـّى المتواصل على كل من هو مثلى، بلدياتى، وقد حاولتُ أن أنقل أزمتى هذه إلى الكهل الوطنى الحكيم (د. حلمى شاهين) بمناسبة احتجاجه على غلبة العرب فى المطعم والكافتريا والاستقبال بحيث أفقدوه شعوره بالسفر وبأوربا، ولكنى أجد فكره بعيدا عن تصورى، عزوفا عن المواجهة، مكتفياً بالأحكام والاحتجاج والتسليم فى آن، وأراجع قدرة هذا الجيل (عمر الدكتور”حلمى شاهين” هذا حوالى 08 سنة) على التمسك بوطنيته بكل عنف (ربما فى مواجهة الاستعمار) وفى الوقت ذاته، على سهولة التأثر والانبهار بهم.. وإلى آخر مدى، وأحسده على أحادية النظرة مع ذلك، وكأنه ـ شخصيا ـ خارج اللعبة، فلماذا أورّط أنا نفسى بكل هذه المراجعات والمواجهات؟

كان ذلك أمس، وقد استفدت من هذه الزيارة الخاطفة للدكتور حلمى أنى استطعت أن أقوم بدور المرشد لصحبتى فى هذا الجزء من الرحلة حتى “كان” فى اليوم التالى، وقد وصلناها فى الضحى، وبعد لفة سريعة، قررنا أن نمضى بعض الوقت حول اللسان الداخل فى الشاطىء.

يجذب نظرى ـ بوجه خاص – عجوز وحيد، لا تقل سنه (حسب نظرنا)، عن تسعين عاما، وهو يمتطى صهوة شئ أشبه بقارب صغير، قطعة خشب ملساء، فى مقدمتها شراع متواضع، وهو يمسك بحبال الشراع قرب المؤخرة فى إصرار وعناد عجيبين، وينقلب القارب فيعوم الكهل فى نشاط ويعود يقفز ليمتطى صهوة قاربه، ثم ينقلب، ثم يعاود، ثم يتمكن لبضع عشرات الأمتار، ثم يتمايل فأتمايل معه، ثم يسيطر وينتظر، فنفرح له وبه مشفقين، آملين أن نمضى قبل أن ينقلب من جديد، ويخفف عنى كل ذلك بعض آثار صورة الأمس عن هذه الحضارة وما آلت اليه،

……………..

……………..

ونواصل بقية الفصل الأسبوع القادم

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] –  المقتطف من الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الرابع: الحافة والبحر (الطبعة الأولى 2000)، وتتضمن ترحالات يحيى الرخاوى أيضا (الترحال الثانى: الموت والحنين ) و(الترحال الثالث: ذكر ما لا ينقال ) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية  فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة  الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط  www.rakhawy.net 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *