الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ترحالات يحيى الرخاوى الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الخامس: أغنى واحد فى العالم (4)

ترحالات يحيى الرخاوى الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الخامس: أغنى واحد فى العالم (4)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأربعاء: 1-11-2023

السنة السابعة عشر 

العدد: 5905 

ترحالات يحيى الرخاوى

الترحال الأول: “الناس والطريق” [1] 

الفصل الخامس:  أغنى واحد فى  العالم (4)

وغرقتُ فى سُحُب الدخاِن والشواءِ والكلام والعدمْ،

فرأيتهُ ُشطراً من الشعـِر انتظْم

حَسَدا جباناً مهْرباً من بُعْدِنـَا عنَّا،

أعدمتــُه بشراَ،

صيّرتُه رمزاً قتيلا بين أصداءِ النغمْ،

حـَرْفاً تقلَّبَ دامياً من وخز هزَّاتِ القلم.

السبت: أول سبتمبر 1984

………………..

………………..

وفى بوسطن نزلت فى فندق متوسط (هوليداى إن) بالقرب من أشهر وأقدر مستشفى أمريكى عام “ماس جنرال”، ولأن الداعى كان شمجيا (نحتّ كلمة شمجى مقابل VIP لتعنى: “شخص” “مهم” “جدا”). فقد اعتبرونى وزوجتى شمجيين أيضا؛ فنزلنا فى دور خاص، لا يصعد إليه المصعد إلا بمفتاح خاص. قلت: ياسلام على الأمان، وأخذت أشفق على غير “الشمجيين”، ممن قد يتعرضون فى الفندق للسرقة والسطو. أما نحن؟ فإيش أوصل اللص لسر المفتاح؟، وكنت إذا صعدت المصعد، ضغط “العامة” على أزرارهم، أما أنا الشمجى، فأخرج مفتاحى الخاص لأدير به الزر الخاص، فينظر إلىّ العامة فى ما يشبه الاحترام الخاص (ولا أقول الحقد الخاص، لأنى كنت أستبعد احتمال الحقد الخواجاتى على أمثالى).

كان من ضمن الحفاوة بالشمجيين فى هذا الدور، أن ثَمَّ “بوفيها” (كافتريا صغيرة)  إضافيا  وسط الدور، فيه خدمة مجانية دائمة طول الوقت، وتليفزيون كبير ثابت راسخ (قطعة موبيليا فخيمة)، ومشهيات ومأكولات صعبةٌ أسماؤها، ومذاقها جديد، حتى كنت أخشى تناولها، وإن كنت أسعد بتأمل زملائى الشمجيين وهم يتعاملون معها برقة ومهارة فائقتين. ذات صباح، ذهبت أتناول بعض العصير قبل استيقاظ عـِلية الشمجيين، فاذا بى أفتقد التليفزيون، فحسبت أنه أرسل إلى الصيانة أو الإصلاح، وخجلت من السؤال واكتفيت بالموسيقى الداخلية، والوجه الحسن، ولكنى علمت بعد قليل أن التليفزيون (الموبيليا) الضخم الفخم قد سرق شخصيا، على الرغم من كل الاحتياطات والمفاتيح الخاصة… الخ. ياصلاة النبى!!، تعيش أمريكا العليا المؤمّنة.

ثم أذكر أول يوم نزلت فيه نيويورك (أحد أيام أغسطس 83)، إذ رحت أنطلق سيرا على الأقدام ـ كالعادة ـ مع اثنين من قاطنيها من زملائى الأصغر، لنرى كل ماليس كذلك، خلال جولة جاوزت ست الساعات، رأينا فيها كل ما أردنا، وصادفنا تنويعات الإجرام والحرية معا: من بائعى الهيروين على الأرصفة، إلى لاعبى الثلاث ورقات، إلى رجال البوليس يرقبون من بعيد، وأنا لا أفهم سلبيتهم، وأفترض، وأسمع عن نظام الإتاوات الشهرية وحمايات المافيا، ووظيفة الناضورجية، ونقترب من شارع برودواى وشارع 24 الشهير، وإذا بهرْج كبير، وجرى كثير، وسواد ضاغط، فأسأل مضيفى ومرشدى عما يجرى،  فيقول “لست أدرى، لم أعتد مثل ذلك، حتى فى هذا الحى الشهير، وإن كنت لا أستبعد شيئا”، وكانت زوجتى ممسكة بحقيبة صغيرة بها كل شىء، (كل شىء، نعم.. تذكر عنادى ألا أتعامل مع الأوراق وإنما مع النقود الصاحية)، ويتدفق النهر الأسود كفيضان مباغت، فتهدينى قرون استشعارى إلى أن أخطف الحقيبة من زوجتى وأنتقل بسرعة وهدوء إلى الطوار (الرصيف) الآخر، تاركا زميلنا مع زوجتى وسط الفيضان الأسود، ويتجنبنى التيار بالصدفة على بعد أمتار، ولكنى ألمح تعبيرات الوجوه التى كانت الأيدى التابعة لها تحمل أشياء قبل الإغارة، ثم انحسر عنها الفيضان الأسود، فإذا بالإيدى خالية الوفاض، والوجوه مليئة بالحسرة. إذن فقد نفذت بجلدى وبحقيبة زوجتى بالصدفة البحتة، ثم أسمع أصوات النجدة والبوليس وكأنها تحيى الزفة الفيضانية السوداء، لا تواجهها، والاسم: “أمْن واجب”، ولا نعرف تماما ما هى الحكاية؟ ولكننا نقرأ فى اليوم التالى فى الصحف أن نيويورك قد تم ” اجتياحها ” بما لم يتكرر منذ إنقطاع الكهرباء فى الستينيات، وتبين لى بعد ذلك ما حدث: ذلك أن المغنية الزنجية ديانا روس كانت تحيى حفلة (مجانية على ما أظن) فى الحديقة المركزية Central Park فى نيويورك، وكان بنو جنسها من السود يحيونها أطيب التحية بالشرب والرقص والتصفيق، فامتلأت الحديقة (فدادين عددا) بهذا السواد الأعظم، حتى إذا ما انتهى الحفل، وكانت الجموع قد انتشت تماما، التحمت فى كتلة واحدة هادرة، فانطلق الفيضان البشرى الثمل الأسود يجتاح الشوارع اجتياحا ليخطف، ويصدم، ويؤذى بلا تمييز، ربما انتقاما لظلم وقع، أو ظلم واقع لم يرفعه القانون ولا التأمين،.. وربما إجراما بدائىا مرتدا لا أكثر.

كل هذا لا يعنى أنى أنكر شهامة كثيرين من الخواجات ومبادراتهم الطيبة التى أشرتُ إلىها فى أكثر من موقع فى هذا العمل، لكن ثمة فئة فاض بها الكيل، وثمة نظاماً يتسحّب يكاد يعفى الإنسان من إنسانيته بفضل الاعتماد المطلق على قوانين الخارج، ولابد من الانتباه إلى الدلالات السلبية لهذا النظام الخارجى، وتلك الدلالات التى نعلنها فى هذه الصور من العنف والنهب والإغارة، أما الشهامة والطيبة والنخوة الخواجاتى فهى ـ دائما ـ فى متناول من يريد ألا يسرع بتعميم الأحكام.

من ذلك أن أحد نزلاء الموتيل حيث فقدنا الكيس، ظهر ـ فجأة ـ ليتبرع مشكورا بشهادة مفصلة، ويتبرع ـ أيضاً ـ أن يذهب مع ابنتى إلى البوليس، فيضيع ساعات بأكملها، لعلها هى كل ما أعده للفسحة، هو وزوجته، فعلاها بنخوة لا أنساها. فذهبا للبوليس، وذكر الرجل فى شهادته أنه رأى طفلة ذات خمس سنوات، وهى تتناول الكيس الجلدى من على المنضدة، وأنه ظن أنه ملكها، أو ملك أهلها، وأخذ يصف الكيس والنقوش الفرعونية التى عليه وصفا دقيقا لم نكن نعلمه لا أنا، ولا صاحبته (ابنتى). وصف كل ذلك بمنتهى الدقة على الرغم من أن رؤيته لكل ذلك، قد تمت من شرفة الدور الثانى، وكان شابا طيبا رائع الملاحظة واضح المنطق، سلس الترابط،  وما إن سمعتُ شهادته تلك حتى أحسست بدش بارد يكاد يغطينى من خارج ومن داخل حتى لا أكاد أرى أو أفكر، بل إن صدرى ضاق بى حتى ثقل تنفسى خجلا وخزيا من سابق اتهاماتى للمرأة التونسية بالذات، وحاولت أن أتجنب نظرات زوجتى العاتبة تؤاخذنى على حماستى العدوانىة التى أصرت على اتهام المرأة التونسية، ولم أستطع أن أفصل فرحتى ببراءة مظلوم من اختلاطها بهذا الكم من الخزى والشعور بالذنب، صحيح أننى تجنبت أن أوجّه أى اتهام مباشر إلى بنت العم هذه لكن داخلى أنا أدرى به، ولا جدوى من إنكار دلالات سوء ظنى هذا. وقد طردت كل فكرة اعتذار أو هدية تعويض، لأنى أحسست أنها ستزيد من الإهانة، لكن عندك، لقد شاركتنى هذه المرأة التونسية اتهامها لنفسها بفرط دفاعها العصبى الغريب، إذن فأنا لم أتهمها وإنما اتهمت نفسى، بالقدر ذاته الذى اتهمت هى به نفسها، وإلا فلماذا لم تفعل زميلتها الانجليزية مثلها؟، إذن، فأنا وهى، والاستعمار، والدونية شركاء فى “احتقارنا”، فأخذت أمسح وجهى وأنفض سروالى.

حركت هذه الشهامة التلقائية من هذا الخواجة الشهم، شهية المخبر الهاوى “تقليد” السيد بوارو زوج المرأة القط العانس، فأخذ يعيد سلسلة الأحداث، ويرتبها، فيكتشف أن والدَىْ الطفلة من مارسيليا، وأن سيارتهما فولكس فاجن، وأنه لا يعرف رقمها. (إذن ماذا؟) ثم يسب أهل مارسيليا مرة، والنزلاء الطيارى مرة، وبدأت أضيق به وبالحكاية كلها فقد علمتُ نهايتها منذ بدأتْ، وبلغَ رفضى له أقصاه حين جاءنى يتسحب وعيناه تتلفتان يمينا ويسارا ثم يهمس لى، وكأن أحدا سوف يسمعنا، قائلا: إنه ـ أحيانا ـ ما يجد الأطفال شيئا ثم يلقونه هنا أو هناك، إهمالا أو خوفا من قادم، وأن ذلك يعنى أن الكيس قد يكون ملقى فى أحد جوانب الحديقة، وامتلأت غيظا على غيظ، فقد كنت قد أنِست إلى اليأس، ورضيت بالاعتذار لما ألحقه فكرى ببرىء، وقلبت الصفحة نهائيا، وحين قلت له ـ ردا على إغاظته هذه ـ أن يقوم عنى بهذا البحث فى الحديقة، مط شفتيه، وجعل ينبهنى ألا أسكت!! فجعلت أسأله: أليس هذان المارسيليين فرنسيين؟ ألم يسجلا عنوانهما فى الفندق ؟. أم أن مارسيليا فى قارة أخرى؟ قال: نعم.. هما كذلك، فأبديت عجبى من مستوى الخلق الفرنسى الذى يسمح لعائلة فى سياحة أو إجازة أن تأخذ ابنتهما  ما ليس لها بما يفسد خلقها  فى هذه السن، وكان أولى بهما أن يسلما ما عثرت عليه البنت إلى ربة الدار فى حضورها لتتعلم، وما كان أسهل عليهما أن يكتشفا الكيس الغريب  من النقوش الفرعونية أو الأوراق العربية ليعرفا أن  صاحبه مصرى أو عربى من نزلاء الفندق، وإذا بالسيد بوارو العجيب يضحك حتى يكاد يستلقى، ثم ينفخ الهواء من بين شفتين مضمومتين (حركة فرنسية مشهورة)، ويحرك حاجبيه فى امتعاض ساخرا ليقول بكل هذه اللغات إنه “كان زمان” “بـَلاَ فرنسى بلا دياولو”!! “كلهم لصوص”، ولا أحد يمكن أن يثبت شيئا بعد أن يتخلّصوا من الكيس ويكتفوا بمحتواه، قالها وكأنه يوصينى ألا أثق فى خواجة أبدا، وألا أحمل نقودا بعد ذلك، وألا أصدق زميل طريق، وألا.. وألا…،

ماهذا ياسيدى؟ سياحة هذه أم لعبة عسس ولصوص؟. ملعون أبو هذه حضارة وتقدُّم اذا كانت نهايتهما أن نسير نتلفت حولنا طول الوقت هكذا، إذا كانت سوف توصى أن نودع ضمائرنا وعلاقتنا الحميمة فى أدراج البنوك، وملفات شركات التأمين، وسجلات مكاتب المحامين. رفضتُ كل هذا، وأخذت أسترجع من جديد ما سبق أن خبرته من ضروب الشهامة الخوجاتية، من إرشاد هادئ، إلى تعاون مخيماتى..، إلى بسمة حقيقية، فمنعت نفسى أن أتمادى فى السخط والتعميم لمجرد حادث سرقة عابر، أنا لست مثل هذا البوارو المزيف ، لقد شاركتُ ـ شخصيا ـ بإهمالى فى حدوث ما حدث، وكلام كثير من هذا…

فى المساء يفاجئنا الأولاد بدعوة تعويضية على العشاء حيث يخيمون، وقد أعدوا الحساء بطريقة أخرى، ثم “سبَّكوا” المكرونة، وصنعوا سلاطة الفواكه، ويصرون ألا ندفع نصيبنا فى العشاء، لا زوجتى ولا شخصى (كان نصيب كل منا ما يعادل ثلاثة دولارات، لا أكثر) وكفى ما دفعناه بعد الحادث. وسررنا بهذه المبادرة سرورا خاصا، وحمدنا الله حمدا كثيرا.

فجأة، ونحن نتناول العشاء نحاول أن نبتلع ما حدث مع ما نأكل تقول ابنتى “منى” فى صوت واضح، تقول وكأنها تعلن قرارا حاسما نهائياً: “..لا…لن أهاجر”. ولم أستطع أن أتذكر لأول وهلة متى حدثتنى ابنة العشرين هذه عن احتمال هجرتها، ولا إلى أين، قلت لها إن “الطيب أحسن”، ولكن ماذا غيـّر رأيك؟ (ما دامت قد أعلنت قرارها بالنفى فقد كان رأيها الأول هو العكس!)، قالت “هذه السفالة، أولاد الذين هؤلاء؟!” ألا يشعرون..؟ لنفرض أن حضرتك لم تكن معنا.. أو أنك لم يكن معك ما يكفى، ألا يتصورون ماذا يعنى أخذ أكثر من ألف دولار من حافظة صغيرة لمجموعة صغيرة من الأولاد والبنات مثلنا؟” شعرتُ بألمها، وفرحت أن نبَّهَهَا الحادث لخطورة استسهال القرارات والأحكام، وتذكرت ـ حينذاك فقط ـ متى ذكرت ابنتى هذه موضوع الهجرة من قبل؟.

………………..

…………………

ونواصل بقية الفصل الأسبوع القادم

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] –  المقتطف من الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الرابع: الحافة والبحر (الطبعة الأولى 2000)، وتتضمن ترحالات يحيى الرخاوى أيضا (الترحال الثانى: الموت والحنين ) و(الترحال الثالث: ذكر ما لا ينقال ) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية  فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة  الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط  www.rakhawy.net 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *