الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ترحالات يحيى الرخاوى الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الخامس: أغنى واحد فى العالم (3)

ترحالات يحيى الرخاوى الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الخامس: أغنى واحد فى العالم (3)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأربعاء: 25-10-2023

السنة السابعة عشر 

العدد: 5898 

ترحالات يحيى الرخاوى

الترحال الأول: “الناس والطريق”[1]‏‏

الفصل الخامس:  أغنى واحد فى  العالم (3)

وغرقتُ فى سُحُب الدخاِن والشواءِ والكلام والعدمْ،

فرأيتهُ ُشطراً من الشعـِر انتظْم

حَسَدا جباناً مهْرباً من بُعْدِنـَا عنَّا،

أعدمتــُه بشراَ،

صيّرتُه رمزاً قتيلا بين أصداءِ النغمْ،

حـَرْفاً تقلَّبَ دامياً من وخز هزَّاتِ القلم.

السبت: أول سبتمبر 1984

………………..

………………..

المهم.. عدت بينى وبين نفسى إلى اتهامى للمرأة التونسية (حول الثلاثين، شديدة النشاط، وابنتها الوحيدة فى الخامسة، تلعب فى الحديقة). أخذت أبحث فى نفسى، عن سبب إصرارى على موقفى هذا بهذه الصورة، فاكتشفت أنه ينبع من خبرتى، حول ما سمعته عن الجزائريين فى باريس، ولكنى اكتشفت أكثر من ذلك، أن هذا يرجع إلى احتقارى ـ ضمنيا ـ لذاتى وأهلى العرب دون أن أدرى، وهذا وذاك متضمن فى حماستى، الأسبق إلى تبرئة الخواجات أصلا وتماما، وملأنى هذا الاكتشاف غيظا، سواء صدق تفسيرى أم أخطأ!!. وظلت المرأة التونسية تروح وتجىء، وشكى يزداد فيها، فأقول لزوجتى المترددة فى موافقتى، المتحفظة فى اتهامها: “إبعدى عنى هذه المرأة برطانها العربى  الغبى، لا فائدة”.

رحت أتمادى فى التفسير وأردد فى نفسى أنه يكاد المريب يقول خذونى فهى تحضر لنا ابنتها، وإن شاء الله أعدمها إن كنت أخذت حاجة، ثم تعود بعد دقائق تسألنا “هيه.. هل وجدتموها؟”. وكأننا سنجدها فى خلال هذه الدقائق “هكذا”، ويزداد غيظى حتى أقدم على ما كنت أفضل ألا أقدم عليه، ذلك أنى كنت حريصا على ستر هذه الخادمة حتى لو كانت هى السارقة، فمهما كانت الخسارة، فهى من دمى، وربما هى أولى بالنقود حقيقة وفعلا من أولادى، لكن إصرارها واستفزازها وتذاكيها أثارونى حتى اندفعت إلى صاحبة الموتيل أستفسر عن سلوك هذه الخادمة، فجعلت المرأة تجزم بأمانتها طوال مدة خدمتها، وأن صفحتها بيضاء من غير سوء، بل إنها تثق فيها أكثر من زميلتها الإنجليزية، “زميلتها مـَنْ؟”. الإنجليزية؟!”. أين هى؟. لم أكن قد لاحظت أن لها زميلة إنجليزية. صحيح أن ثمة فتاة شقراء رقيقة نحيفة، حول الخامسة والعشرين، تفعل مثلما تفعل التونسية، تذهب، وتجئ، وتنظف، وتسوى، نعم هو هو، العمل ذاته، لكنى لم أتصور أنها خادم أصلا، فضلا عن أن تكون إنجليزية (!!). واكتشفت ـ فى نفسى ـ أنى مقهور من داخل الداخل، لأن العمل ذاته (العمل ذاته !!) إذا قامت به امرأة عربية، سمىت “خادمة”، فاذا قامت به إنجليزية سميت راعية منزل، أو مديرته، أو ماشابه من أسماء جديدة رقيقة، ثم من أين لى أن أعرف أنها انجليزية، وكيف أفترض ذلك، لقد رجحت ـ على أحسن الفروض ـ أنها فرنسية، وأنها ـ لست أدرى لماذا ـ قريبة صاحبة الفندق، وكأنى بذلك أوهم نفسى أنها ليست خادمة مرتزقة وإنما هى تساعد قريبتها شهامة (جدعنة)، ثم لماذا إنجليزية؟ وما الذى يجعل إمرأة انجليزية “محترمة” و..، وشقراء، تتكلم الإنجليزية دون أن تخطئ فى الأجرومية، ما الذى يجعلها تأتى لتخدم امرأة فرنسية فى أقصى الجنوب هكذا؟ أهى آثار بطالة مسز تاتشر؟ أم أن الحال انقلبت دون أن أدرى؟ وأقول إن الدنيا على “هذه” و “تلك”، وإن الناس تختبئ فى ما ترتديه،…إلخ، المهم أنى فرحت بشهادة صاحبة الموتيل لصالح أمانة التونسية، بالمقارنة بالإنجليزية، على الرغم من ذلك، فلم تنتقل شكوكى إلى  المرأة الإنجليزية، ولو لتؤكد اكتشافى أن الإنجليزيات يمكن أن يخدمن فى بلاد الغربة مثلنا، وأنهن يمكن أن يسرقن كذلك. وتحتار زوجتى فى منطقى هذا، ويظهر فى الصورة زوج صاحبة الموتيل، وبسبب إصرارى على أنها عانس، أتصوره زوجا مع إيقاف التنفيذ، جاء يمارس دورا جديدا لم أفهمه إلا بعد مدة، فقد نادانى، وأخذ منى تفاصيل التفاصيل باهتمام بالغ، تعجبت له حتى أحسست أنى أمام أحد هواة التقصى الخائبين مثل البوليس السرى الخاص. وذكرتنى نظراته، وما يسجله فى مفكرة صغيرة معه بالتقليد الأبله لحركات المخبر هيركيول بوارو فى روايات أجاثا كريستى الحاذق.

 كان من السهل علىّ أن أقارن بينه وبين بوارو.. ذلك أن أحد أولادى قد ترك “هناك” قصة لأجاثا كريستى، رُحْت أستفيد من قراءتها التى تساعد حركة الوظائف البيولوجية، أستغرق فيها حتى “يسهلها” الله علىّ. وكان قد مضى على آخر قصة بوليسية قرأتها، أكثر من ربع قرن، وإذا بى أكتشف أن فى مثل هذه القصص شيئا آخر غير التفاهة، وألعاب الحذق، وإعلان أن الجريمة لا تفيد. اكتشفت من خلال هذه المراجعة، هذا المستوى الآخر من النشاط العقلى الضرورى، لكل من يدعى الجدية والعمق. اكتشفت أن عقلى يحتاج إلى قدر من ذلك “الأجاثا كريستى”؛ باعتباره “ماليس كذلك”، ما ليس جادا محكما، أو عميقا منضبطا. اكتشفت حاجتنا إلى ما نسميه “الكلام الفارغ” أو “السطحى” أو “التافه”، ليوازن تلك الجرعة الأعمق من  المعلومات الراسخة ، بل وأيضا ليوازن  جرعة المعاناة فى الإبداع القَِلقْ. وهكذا اعتبرت أن الإقبال على ما يسمى تافها هو نوع من الاسترخاء العقلى النشط.  آنسنى أيضا وأنا أقرأ كريستى من جديد أننى  أشارك عددا هائلا من البشر، فى مستوى آخر من متعة القراءة العابرة، التافهة الجميلة. أفضّل التأكيد  على كلمة “المشاركة” هنا فى مقابل كلمة “الفرجة”، لا يوجد عمل تصورت أنى أعرفه. ثم اختبرته، بالمشاركة خاصة،  إلا وأكتشف أنى لم أكن أعرفه. يستوى فى ذلك وقفتى وأنا أتناول إفطارى (حتى الآن) على عربة يد محاطة بعمال يومية فى طريقهم إلى عملهم، (ياعم حسن، شوية بعشرة، شوية حار، يابو على ، خمسة فلافل، زوّد الشطة وحياة والدك) وكذلك تكرار محاولاتى الإمساك بالفأس عددا من الساعات المتصلة، (وليس لمجرد وضع حجر الأساس!! (أنظر أيضا الترحال الثالث) ـ أقول إنى ـ دائما ـ أخرج بطعم آخر من المشاركة دون الفرجة، وأتصور أن المثقف سيظل “مثقفا جدا”، وفقط، بالمعنى المغترب أبدا؛ ما لم يعرق أياماً متتالية، فى علاقة مباشرة مع عمل جسدى (لا مجرد عمل هواياتى يدوى).

أعود إلى قراءتى أجاثا كريستى مؤخرا، وشعورى بهذا المستوى المشارك مع عقول سريعة ذكية ومحددة الهدف، تؤنسنى وأنا أتمتع بحقى فى التفاهة الرائعة، بقدر متعتى بحقى فى العمق القلق وبقدر ضيقى من تسميع المعلومات الجاهزة. جعلتُ أقارن بين “حركات” “زوج هذه العانس” المخبر الهاوى الأقرب إلى قفزات عبد السلام النابلسى منه إلى  حصافة هيركيول بوارو، وأضحك فى سرى. وينصحنى الزوج المخبر السرى بألا يثنينى إبلاغ البوليس واستلام المبلغ(!!) عن مواصلة السعى لاكتشاف السارق وتعرية الحقيقة (ياسلام!!!)، استلام ماذا؟. استلام المبلغ؟.هل يمكن أن أستلم المبلغ دون أن نجده ؟ دون ضبط السارق؟. كيف؟. هل السارق ـ هنا ـ فى بلاد الخواجات يوصل ما يسرق إلى البوليس أولا بأول، ويأخذ نسبته، وينصرف، وحين استفسرت فهمت، ثم تيقنت فى قسم البوليس مما فهمت.

 ذلك أننى عرفت أن ما يعنى رجال الشرطة ـ أساساً ـ هو قيامهم بالتعويض ـ بموجب بوليصة التأمين على الرحلة ـ  يعطونك مقابل ما ضاع منك ، ولو بالتقريب، على الفور، ثم يحاسبون  هم  شركة التأمين على مهلهم !!! وذلك  حتى لا ينغص الحادث رحلة الضحية أو يعوقها، كذا؟. كذا؟. لكننى ياعم “بوارو” لم أؤمن على الرحلة، ولا على شىء، ولن أفعل مثل ذلك مستقبلا حتى بعد هذه الكارثة  ، اللهم إذا تحضّرت رغما عنى . بل إن نصيحة أصدقائى السابقين بأن أستبدل بنقودى شيكات سياحية لم ترُقْ لى أصلا؛ فأنا لا أفهم هذه المعاملات الحديثة أبدا. مهما بدت منطقية، بل إن استعمال الشيكات لا يدخل فى حياتى كثيرا، من باب أننى لا أحترم إلا النقود الصاحية، وحين علمت قديما أن ما نحمل من جنيهات ليست إلا سندا على البنك أو الحكومة فزعت حتى رُفع هذا الشعار المشوّه لأوراق البنكنوت والمشككنى فى قيمتها، كثيرا ما تصورت ـ حتى الآن ـ أن ملعوبا ما يتم، حتى يفصلنا عن القيمة الحقيقية للنقود والأشياء، فننسى، فنظل عبيدا لأوراق وهمية، قال ورقة قال: أكتب عليها رقما، وأوقع، فتصير نقودا، لا ياعم، هذا ملعوب لن أُستدرج إليه لأظل أعرف حقيقة ما أفعل، وهدفه، ومقابِلهُ، بقدر ما يمكن.

أما حكاية التأمين فقد أوضحتُ موقفى منها من قبل، لكنى أظن أنى، من خلال هذه التجربة، تبينت عمقا آخر فى هذه اللعبة ـ لعبة التأمين ـ . تيقنت أن وظيفة التأمين “هكذا” قد تساعد بشكل ما على السرقة، فالكل مستفيد بشكل أو بآخر، أولا: مَـنْ سرق النقود سيصرفها بأقل درجة من الشعور بالذنب، لأنه ضامن أن شركة التأمين ستعوض صاحبها، وفورا.  وثانيا: مَـنْ فقد النقود سيستردها بمجرد محضر بوليس، وثالثا: إن البوليس سيرتاح باله لأنه لن يشعر بالتزام ملح للبحث عن السارق ما دامت النقود قد عادت إلى محافظها سالمة. ورابعا: إن شركات التأمين تكسب فى كل الأحوال، إذْ أن عدد السرقات (بما فى ذلك ادعاء السرقة) لن يفوق ـ بحال من الأحوال ـ مجموع المبالغ المؤمّن بها من الكافة. وحين يفوق، بسيطة، ترفع الشركات فئة التأمين من واقع الإحصاء والمستندات،

(ياحلاوة!!) تشجيعٌ هو على السرقة إذن!! تحت عنوان التأمين والذى منه، خطر ببالى، أيضا،  أن من مصلحة هذه الشركات أن تزيد السرقات قليلا، وأن يتحدث عنها الناس كثيرا.فيزيد عدد المؤمنين بالتأمين حتما.

وأزداد أنا تمسكا بموقفى “يا كل هؤلاء “. أنا لاأعرف لى تأمينا إلا فى استمرارى فى العمل، وفى قدرتى على اليقظة، وكل ما عدا ذلك، باطل..، وفى حوزة قُوى لا أدركها، فإذا هددنى العجز ـ وهو قادم لا محالة ـ فلابد أن ثَمَّ قانونا ـ طبيعيا ـ سيحمينى حتى أقضى، واذا لم يحمنى هذا القانون الطبيعى، فلا بد أن عدم الحماية هذا هو من طبيعة هذا القانون (ألاّ يحمينى أحد أو شئ حين العجز) .

أجدنى وحيدا أتخبط فى انحناءات مقاومتى لانجازات العصر، مع يقينى بهزيمتى الحتمية فى النهاية، فنتيجة هذه المقاومة هى دائما فى غير صالح أفكارى، حيث أنساق فى النهاية، مثل كل فرد متخلف (ولو، بإرادته)، إلى أن يرمينى على المر (اللجوء إلى المعاملات العصرية) ما هو أمر منه (الخوف والوحدة وغلبة ضعف الأخلاق عند الكافة اعتماداً على التحايل على القانون).

عندما كنت أسير فى شوارع نيويورك غير آمن على أى شىء، أى شىء، كنت أشعر أنى فى بلد متخلف قبيح بالمقارنة إلى الرقى الرائع فى بلدى الفقير المنهك، حيث تسير ابنتى ليلا فى شوارع المقطم، حتى المقطم، دون هذا الرعب المُشِل، حتى حكايات الخطف الأخيرة عندنا مازالت تُعتبر نادرة برغم أنف تصيّد صحفنا لحوادث فردية، واعتبارها ظاهرة،  وقد شعرت هناك (فى نيويورك) أن العلاقات قد تدهورت حتى ساد قانون حيوانى يخضع للفعل المنعكس المباشر بلا ردع أو ترابط مانع،

ذات ليلة هناك، فى نيويورك دعوت أحد طلبتى الأطباء على سندوتش “ماك الكبير” وكنت سأسافر فى صباح اليوم التالى، وعند الدفع لم أجد معى إلا ورقة بمائة دولار ـ، ولم تكن فى المحل فكة، والساعة الحادية عشر، فبادر زميلى بالدفع على الرغم من أنه هو المدعو، فخجلت خجلا كبيرا، فأصررت أثناء عودتنا سيرا على الأقدام أن أعطيه مائة الدولار ـ يبقيها معه ويصبح هو مدينا بالباقى بدلا من العكس، وكانت الساعة بعد الحادية عشرة مساء، فاذا به يفزع ويقول لى وهو يخطف منى الورقة يخفيها فى جيبه بسرعة ليعيدها لى فى الفندق، ويشرح أن هذا تصرف خطير، لأن مجرد “رؤية” منظر “نقود ما” فى يد أحد، يستهوى القناصة من أى زاوية أو ناصية أو مدخل بيت، ياخبر!! فى بلاد التقدم والمدنية وغزو الفضاء والتأمين والتكنولوجيا، يختفى الأمان منها متى ظهر “منظر النقود” فى مرمى البصر، ثم يقولون قانون وتأمين وادخار؟.. و… و… و، وحضارة؟ المسألة أصبحت “منعكسا انقضاضيا فوريا؟!

………………

………………

ونواصل بقية الفصل الأسبوع القادم

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] –  المقتطف من الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الرابع: الحافة والبحر (الطبعة الأولى 2000)، وتتضمن ترحالات يحيى الرخاوى أيضا (الترحال الثانى: الموت والحنين ) و(الترحال الثالث: ذكر ما لا ينقال ) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية  فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة  الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط  www.rakhawy.net 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *