الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ترحالات يحيى الرخاوى الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الخامس: أغنى واحد فى العالم (2)

ترحالات يحيى الرخاوى الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الخامس: أغنى واحد فى العالم (2)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأربعاء: 18-10-2023

السنة السابعة عشر 

العدد: 5891 

ترحالات يحيى الرخاوى

الترحال الأول: “الناس والطريق” [1] 

الفصل الخامس:  أغنى واحد فى  العالم (2)

وغرقتُ فى سُحُب الدخاِن والشواءِ والكلام والعدمْ،

فرأيتهُ ُشطراً من الشعـِر انتظْم

حَسَدا جباناً مهْرباً من بُعْدِنـَا عنَّا،

أعدمتــُه بشراَ،

صيّرتُه رمزاً قتيلا بين أصداءِ النغمْ،

حـَرْفاً تقلَّبَ دامياً من وخز هزَّاتِ القلم.

السبت: أول سبتمبر 1984

………………..

………………..

حمدُ الله عندى له طعم خاص، ومقياس خاص، وناتج خاص، إذ لابد أن أجد به ومعه توجها إلى فعل مرتبط بكلمة، لها حضور واقعى يـِعُد بأثر باق، إلى الناس وفى الناس، وحين أتعثر أو أتراخى فى الحمد إذ يصدر من شفتى لا من نخاع عظمى، أعرف أنها حالة حمد فاتر لا داعى له، حمد استرخاء مشبوه. حينئذ تبطئ الكتابة ـ مثلا ـ حتى أكاد أتوقف، وباستعمال هذا “الترمومتر” الدقيق، أحاول أن أكون أكثر صدقا مع ربى، فيعود القلم يفرز ما ينساب فى مجراه الدقيق، ثم أصبح أنا والقلم والورق واحدا، فتتجه “الأمانة” الى مستقرها، فأقول لنفسى ـ اقتناعا أو تبريرا ـ : لا شك أنك يا ولد تستأهل “هذا”، ما دمتَ لا تنسى “هكذا”، ما دمتَ لا تتوقف للراحة، أو تتجنب المخاطرة، فأرضى عنه، ويرضى عنى.

يتجسد لى معنى ذلك “الرضا” فيما حمانى ـ حتى الآن ـ من ألعاب الحسابات الغبية والأطماع الخفية، فالغلبة عندى هى شعورى طول الوقت أنى فى “رضا” يجعلنى أغْنَى الناس قاطبة، بغض النظر عن الإمكانات الحقيقية؛ ذلك أنى عودت نفسى ـ مثل المصرى المتمرس على خبطات الزمن ـ ألا “أرجو” ما لا أقدر عليه، وألا أحسب أكثر مما فى يدى.

 كم كان طيبا يوما ما، بعد تخرجى وزواجى المبكر، والحالة شديدة الشدة، أن أذهب كل مساء إلى مستوصف شعبى ملحق بجمعية مسجد سيدى نصر ببولاق أبو العلا، أمارس فيه التطبيب العام ـ على الرغم من اكتمال تخصصى فى الطب النفسى. الكشف فى هذا المستوصف كان بشلن كامل، لا أنال منه إلا ثلاثة قروش ؛ ليصل صافى الحسبة فى نهاية الليلة إلى حوالى الخمسة عشر قرشا بالتمام (بعد المواصلات والقهوة) ـ فأفرح بها فرحة المنتصر الكسّيب، وأشترى أثناء عودتى رغيفين “ملدنين” من الحجم الكبير، بنصف فرنك، ثم بثلاثة قروش باذنجاناً مخللاً بالشطة، وطعميتين كبيرتين، محشوتين بأشياء حريفة لم أعرف ماهيتها أبدا، ويتبقى معى عشرة قروش أعود بها إلى زوجتى، فنتناول عشاءنا بذلك “الرضا” الخاص، وأشعر أنى قد كسبت فى هذا المشوار ما هو كاف لعشائنا.. و.. وزيادة، صحيح أنى كنت محتاجا ـ آنئذ ـ لكل دقيقة وأنا أحضر رسالة الدكتوراه، ولكن صحيح أيضا أنى كنت محتاجا للقروش العشرة، ولأنْ أتناول مع زوجتى عشاء ما، وظللت هكذا أتحرك فى منطقة الأمان هذه ما بين إمكاناتى واحتياجى المنضبط حتى يومنا هذا، مهما كانت الظروف.

 وأُرجع تاريخ اكتسابى لهذه “الحسبة” الراضية المُرضية إلى عهد سحيق، كنت أتدبر فيه أمر التعريفة، مصروفى اليومى، فأشترى من عم جمعة (بجوار المسجد الكبير بزفتا، مسجد الرفاعى على ما أذكر) بمليم دومة، وبمليم لباً، وبمليم حب العزيز، وبمليم بختا أختار به طلبين زيادة لو كسبت ثم يتبقى معى مليم للظروف والأدوات المكتبية الترفيهية الزائدة.

 وعندما انتقلنا الى مصر الجديدة، أدخلتُ نفسى بعد توفير خمسة أشهر متتالية تجربة سرية ـ وكنت حول الرابعة عشرة ـ لأختبر قدرتى على”ذلك”. إذْ قررت فى هذه السنة (ما يقابل سنة ثالثة ثانوى نظام هذه الأيام) أن آكل طول الشهر بذلك المبلغ الذى اقتصدتـُه خلال خمس أشهر (كان مائة وخمسين قرشا بالتمام) آكل به لمدة شهر كامل، ثلاثين يوما، أى بشلن فى اليوم الواحد، وفعلتها دون تفسير، ممتنعا عن الأكل فى منزلنا مما أثار عجب أمى التى تصورت أنى “زعلان” من شئ ما، أو من “أحد” ما، من والدى مثلا، أو من أحد إخوتى، ولا هذا، ولا ذاك كان واردا، لكنه التجريب والتحدى، ولم أصرح لها ولا لغيرها بطبيعة ما أفعل حتى انقضى الشهر، ونجحت التجربة، وتتعمق معانى الرضا والقدرة معا.

يتكرر الموقف بعد ذلك فى فرنسا (“عمرى 36 عاما” سنة 1969)؛ حين أعلم أن بعض العمال الجزائريين قد لا يتحصل الواحد منهم ـ آنذاك ـ إلا على ثمانمائة فرنك شهريا، يسكن منها، ويرسل بعضها إلى ذويه، ويعيش بالباقى، فقلت: كيف ذلك؟. ولم لا أجرب حتى أشارك، وأفهم؟ فقررتُ أن أعيش شهرا كاملا بمائتى فرنك بما فى ذلك المواصلات (عدا السكن)، وتعلمت من خلال هذه التجربة أن كيلو البطاطس أبا ثلاثين سنتيما لا يفرق ـ فى الطعم ـ عن ذلك أبى فرنكيْن وستين (وإن كنت لم أفهم سر الفرق السعرى حتى الآن). وكان هذا الكيلو (أبو30سنتيماً) يكفينى مسلوقا لوجبتين كاملتين، مع بعض الملح والزيت اللذيْن يعتبران من الرصيد الشهرى الدائم.

من هذا، ومثله، تأكد اقتناعى بأنى أغنى واحد فى العالم، وتعلمت أن الغنى إنما يتحقق بمحاولة ذكية، وليس بالجمْع التراكمى، بالقدرة على ضبط الحاجة على قدر المتاح طول الوقت، ولأننى أعرف كيف “أترك”؟. وماذا “أرجو” ؟. عشت بهذه المعادلة الطيبة التى حلّت لى مواقف بلا حصر، وساعدتنى فى إتخاذ قرارات حاسمة.

 حين سترها الله، توارت المشكلة المادية فى خلفية حياتى، ومع ذلك ينقضّ على وعيى، أحيانا،(أصحبت نادرة والحق يقال) ما يشبه التهديد بالموت جوعا، فأكتشف من خلال ذلك أن بداخلى مازال يوجد عمقٌ خفى لم يصلــه ما أكرمنى الله به من ستر. ثم أصبحت مسألة الرضا هذه ـ بعد الستر ـ لا تقتصر على ضبط احتياجاتى فى حدود أدنى من قدراتى الآنية، إذ دخلت فيها حسابات أخرى سخيفة سبقت الإشارة إليها فى هذا العمل، فقد امتدت حساباتى إلى احتياجات الناس، فنغّصت علىّ حقى فى هذه المتع التى لا ينالها غيرى. وراح يعاودنى بنكد شائك إلحاح التساؤل عن شرعية هذه المتع التى جمعت أسبابها بجهدى وعملى شخصيا. لا أنا ورثتها، ولا أنا سرقتها، ومع ذلك كثيرا ما ينغص علىّ استمتاعى بها، ولن أكرر مناقشة هذه المسألة وعلاقتها بشكّى فى قدرتى على التمتّع غير المشروط، فقد كررت ذلك من قبل كثيرا، على أن ما يطمئننى دائما هو أننى حين أسمح لنفسى بالمتعة لا أتفرج، أو أترفه، أو أسترخى،أو أنسى، أو أدعى. ومع ذلك فكثيراً ما أحرم نفسى ـ بغباء ـ من متعة أشتهيها؛ لأسترجع شعورى بما يشعر به الناس، لكنى أكتشف أن هذا عبث وتصنعّ لا يحل شيئاً، و هو حتى لا يبرر شيئاً.

كنت وحدى فى الحديقة الخلفية للموتيل: أقرأ، وأخطط، وأعلق، وأكتب، وأحمد، راضيا حتى جاء ابنى وابنتى حسب الميعاد، فوجدانى مستغرقا ـ كما تعودا ـ فجلسا إلى المائدة ذاتها، وأنا لا أكاد أشعر بهما، ثم أفقت، فلملمت أشيائى بسرعة، واستأذنت أتركها فى الحجرة حيث زوجتى لم تخرج بعد. وعدت مخفيا سخطى من مقاطعتهم لما كنت فيه “بالذات” (على الرغم من أنهم حضروا بناء على موعد سابق). وانطلقنا سراعا فى اتجاه المطار، وهو لا يبعد سوى ثلاثة أو أربعة كيلو مترات. وما إن قطعنا ما لا يزيد عن مائتى متر، حتى تذكرت ابنتى أن كيسها (حافظتها) ليست معها، وكان بها ما جمعت من كل أفراد الرحلة، من عملات يريدون تغييرها (ما يربو على ألف دولار) فسألـَـتْ أخاها معنا إن كان قد أحضر الحافظة (الكيس) من على المنضدة حيث كنت أجلس حالة كونى كاتبا حامدا، فنفى أنه لاحظها أو التقطها أصلا. فطمأنتـُها أنى أحمل حافظتى الخاصة، وبها ما يكفى للتغيير المطلوب، وأن المشوار لن يستغرق سوى دقائق معدودات، وأننا حتى لو حاولنا الرجوع، فلا سبيل إلى الدوران إلى الخلف إلا بعد حين، وسوف نستغرق الوقت ذاته تقريباً؛ إذا غامرنا لنكمل المشوار، وأنه لا داعى للجزع، وأن الدنيا بخير، وأن الموتيل محترم.. وأن.. وأن…، ومع امتقاع وجهها رحت أتمادى فى الضغط على بدّال الوقود. وأتمادى فى طمأنتها، قلت لها إننا فى بلاد “الأمانة” و “الحضارة” (وكنت أعنى ما أقول على الرغم من خبرتى فى نيويورك)، ولا أحد سيمد يده لما ليس له فى حديقة خلفية، وأنى (هكذا سحبت من لسانى كالعادة) مسئول عن ذلك.

رحنا، وعدنا، عدوا وفرط سرعة، وكأن حافلتنا وفتاة البنك قد تفهمتا موقفنا فتم كل شئ بسرعة فائقة، واستغرقت المهمة كلها مايقل عن عشردقائق، لكن مائدة الحديقة كانت خالية عارية، فرجحت ـ بمنتهى الثقة، أن أكون قد أخذت الكيس مع كتبى وأوراقى؛ إذ لماذا أتركه دون سواه؟. فنبهتنى زوجتى ـ وأنا أبحث فى الحجرة، وأسألها ـ أنى ـ عادة ـ لا أهتم إلا بهذه الكتب والأوراق دون غيرها، مهما بلغت أهمية غير ذلك، وفى كل الظروف، فأظهرت رفضى لهذا الاتهام، لكننى صدقتُها من عمق آخر. المهم أننا لم نجد الحافظة، وهنا بدأت سلسلة من الأحداث والمعلومات، أفهمتنى ما لم يكن يخطر على بالى:

فقد ذهبنا من فورنا إلى صاحبة الموتيل (القط العانس ذات الزوج الحائم) فسألتُـها، ففزعت فزعا مهنيا مناسبا، وبرّأت نفسها وإدارتها ابتداء، وأن هذه مسئوليتنا تماما. وبعد أن اطمأنت إلى فهمنا لحدود حقوقنا، وأننا “نسأل” لا “نطالب”، سألتْنا: هل معنا بوليصة تأمين؟. أو نحفظ رقمها؟. وقلت لنفسى فى تعجب: تأمين؟. تأمين ماذا؟. على ماذا؟ ولم أكن قد نسيت بعد حكاية التأمين المتعدد الدرجات حين أجّرت  السيارة اياها فى سان فرانسيسكو، ولكن المسألة هنا لا تتعلق بحادث لا قدَّر الله أوسيارة، ماذا تعنى هذه السيدة ؟  نؤمّن بنقود على نقود؟. ما أعجب ذلك؟ لم أستفسر أكثر، كان دمها ثقيلا حتى وهى تشفق علينا (أو ربما هى لا تصدّق!).

وبدأنا رحلة البحث والتقصى والتعلم والدهشة.

 جاءت خادم الفندق التونسية (وقد كنت أحسبها جزائرية حسب العادة، ولا فرق فى هذه الظروف، فى هذه المهن) جاءت، وانزعجت، وأقسمت بطريقة مصرية مألوفة، فقفز الشك إلى عقلى بطريقة بشعة (وقلت: “أقسمتْ؟. جاءها الفرج”)، ثم تمادت وانسابت الدموع والنهنهة (قلت: احتياطيا!!)، ثم راحت تجرى إلى حجرتها تجلب أشياءها، وملابسها الأخرى بما فى ذلك الملابس الداخلية والروافع والجوارب، وتنثرها أمامنا بطريقة متشنجة، وتطلب منا تفتيشها، فرجحت يقينا بعد هذه المسرحية (هكذا قدّرت) أنها هى التى أخذت الكيس بما فيه، وأنه لذلك هى  متحمسة هكذا أبلغ الحماسة، مقسِمة أغلظ الإيمان، نائحة أعلى النواح، بريئة حتى الشعور بكل هذا الذنب!!. وأخذت أؤكد لزوجتى أنى أقبل أن تأخذ ما أخذت، لكنى أعترض على محاولتها استغفالنا “هكذا”؛ إذ لو أنها سرقت الحافظة، فكيف ستحضرها لنا ضمن أشيائها وملابسها هذه تعرضها علينا بنفسها لنفتشها (فنجدها!!)؟. إنها ليست ـ فقط ـ سارقة، وإنما هى متذاكية تثير الغيظ والنفور معا. قلت ذلك، وأنا أعدّ نفسى للاستسلام لما حدث. إذ ْ لا جدوى من إضاعة الوقت فى مالا طائل وراءه مما أعرف نتيجته مقدما، وتذكرت انسحاب لسانى حين أعلنت مسئوليتى لابنتى عن هذا الإهمال الذى لا ذنب لى فيه، وحتى لو لم أعد بذلك، فهل كان أمامى خيار، وندمت على ثقتى بأمانة المكان والفرنجة!!، فبادرتُ بإعطاء ابنتى ما يوازى المبلغ الضائع إلا قليلا، خاصة وأنه لم يكن مبلغها وحدها، بل حصيلة ما أراد بقية الأولاد أن يستبدلوه، وحسبتُ أنى بذلك أختصر الحادث إلى خسارة مادية، لحقتْ بى شخصيا، محاولا بذلك تجنب إفساد الرحلة وتعكير الجو العام. لكن الغريب بعد كل ذلك أن ابنتى ازدادت ـ بالتعويض ـ ألما وخجلا، وجعلت تساومنى أن تتحمل النصف، أو حول ذلك (مع أن هذا النصف، هو كل ميزانيتها المستقلة طول الرحلة). وكلما رفضت، تكثف أساها أكثر.

…………………

………………..

ونواصل بقية الفصل الأسبوع القادم

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] –  المقتطف من الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الرابع: الحافة والبحر (الطبعة الأولى 2000)، وتتضمن ترحالات يحيى الرخاوى أيضا (الترحال الثانى: الموت والحنين ) و(الترحال الثالث: ذكر ما لا ينقال ) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية  فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة  الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط  www.rakhawy.net 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *