نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 11-10-2023
السنة السابعة عشر
العدد: 5884
ترحالات يحيى الرخاوى
الترحال الأول: “الناس والطريق”[1]
الفصل الخامس:
أغنى واحد فى العالم (1)
... وغرقتُ فى سُحُب الدخاِن والشواءِ والكلام والعدمْ،
فرأيتهُ ُشطراً من الشعـِر انتظْم
حَسَدا جباناً مهْرباً من بُعْدِنـَا عنَّا،
أعدمتــُه بشراَ،
صيّرتُه رمزاً قتيلا بين أصداءِ النغمْ،
حـَرْفاً تقلَّبَ دامياً من وخز هزَّاتِ القلم.
السبت: أول سبتمبر 1984
هات شومه يا جدع
واه، واه، يا بوى
وانا ادلع الجدع
واه، واه، يا بوى
دى “بلدهم” ياجدع
واه، واه، يا بوى
أنا قلت لابويا حسنين
واه، واه، يا بوى
أنا عندى فكرة زين...
تنطلق المجموعة، وبلا مناسبة ظاهرة كالعادة ، بهذه الأغنية. وتصدر الفكرة الزين من أى من أفراد المجموعة، فنستجيب لها، أو لا نستجيب، ولكننا نتمتع بحرية الغناء، وحرية البدء، وحرية المشاركة ما دامت الخطط المسبقة غير محكمة الإلزام. وتستمر الأغنية تصدح من داخل حافلتنا الصغيرة، تحكى أفكار الصعيدى الذى يحلم بالقفزة الى المدنية (أو المدينة)، أو إلى ما ليس “كذلك” أو ما ليس “هنالك”؛ وذلك بأن يزرع: “الخمس قراريط، بيضا وجبنا وسميطا، ويبذرها دُقة، ويرويها بالزيت..إلخ” ويعلو صوت الأغنية من داخل العربة – على الرغم من أن ذلك ممنوع أصلا فى بلاد الفرنجة، هكذا قالوا لنا فيما بعد – لكننا نواصل فى الممنوع، وكأننا نعلن بذلك عن وجودنا المتميز وسط “أيها خواجات”، فخورين بالنغمة واللغة والروح التى تدفعنا، فنعلن هويتنا دون استئذان. وفى الممنوع، قبل أن نعرف أنه كذلك، ويبدو أنه لم يكن ممنوعاً جداً فـلم ينبهنا أحد إلى التوقف عن الغناء.
كان أتوبيسنا الصغير قد اعتاد الطريق من “فيل نيف “Ville Neuve -المدينة الجديدة ـ إلى نيس وبالعكس، وكأنه يتجول فى طريق صلاح سالم، (آسف…، فقد احتج الأتوبيس، وهمس لى بأنه تشبيه سخيف، وأنه كان أولى بى أن أقول ما بين شاطئ أبى هيف والمنتزه مثلا،).
أرجع بهذه الفكرة (فكرة أن يحفظ الأتوبيس الطريق متى ألفه) إلى أيام كنت أذهب مع أبى إلى الحقل، وأُصر على البقاء معه طول النهار، ويصر هو على أن أرجع للبيت مبكرا قبله لعمل “الواجب” المدرسى، أو “لسبب لا أعرفه”؛ فأدعى، ثم أؤكد: أنى لا أعرف الطريق الى البيت، فيضعنى على الحمار، ويقول لى ألا أحاول أن أوجهه إلى أى اتجاه، وسوف يوصلنى تلقائيا إلى البيت، وأمتلئ غيظا من أبى، ومن الحمار المفسِد لخططى نتيجة ثقة والدى به، أكثر من ثقته بى.
أشد خيط الذاكرة فى هذه المنطقة، أو هو ينساب وحده، فإذا بتاريخى مع وسائل المواصلات التى استعملتـُها طول حياتى يتجلى لى، فأذكر تطور علاقتى بقطار الدلتا ذى الخط المنفرد، والشخصية المتميزة؛ حيث بلغت بى خيالاتى الإحيائية أنى تصورت أنه يأكل الذرة المشوية، والخيار، والعنب، التى كنا نهديها الى محصليه وسائقيه فى مواسم حصادها… (لا تصدقوا حكاية عزومة الشراقوة للقطار فلابد أنهم كانوا مثلى، إحيائيين، لا أكثر)، وقد ظل قطار الدلتا يمثل علامة خاصة فى أرضية وعيى بالحركة وبالناس بما تميز به من صفتين خاصتين: بطؤه المتبختر، وعدم انتظام مواعيده إطلاقا، مثل قصيدة حداثية، نعم، كان قطارا ذا مزاج خاص تماما، تفرق مواعيد رحلاته عدة ساعات تأخير (أو تقديم إذا اقتربت الساعة من اليوم التالى)،
ذات مرة تأخر قطار العودة من زفتا إلى بلدتنا، من الثانية إلى السادسة بعد الظهر، وترتب على ذلك اتهامات من أخى الأكبر: أين، ومع مَنْ كنت؟ ولماذا؟ واحْلِف. وسنى لم يكن يتعدّى العاشرة آنذاك، اتهامات ما زالت ترعبنى وتثيرنى، برغم أنى تبينت بعد سنوات أنه كان يمزح (!!!). أى والله، يمزح،!! أى مزاح هذا الذى يبقى أثره عشرات السنين؟؟.
كان التفاهم وثيقا بين هذا القطار ووالدى، حتى أنه كان يرسلنا قبل وصوله ـ أحيانا ـ لنطلب من إدارة السائق أو ناظر المحطة أن ينتظره؛ حتى ينهى ما هو فيه بالمنزل أو بالحقل. وكان السائق والكمسارى يستجيبان لمثل ذلك بترحيب مصرى، ودى، ،سهل ،
ذات مرة (كان عندى 9 سنوات) طلبت من السائق (الذى يعرف أننى إبن والدى!!!) أن يطيل انتظاره فى محطة “كفر الجنيدى”؛ حتى أذهب الى منزل أحد الزملاء فى الكفر أستعير منه طربوشا “زيادة”؛ حين تبينت أنى نسيت طربوشى حيث لم أجده قابعا فى الحقيبة المهلهلة. كان الطربوش ضرورة رسمية للسماح بدخول المدرسة، حتى ونحن فى الابتدائى، حتى وسراويلنا قصيرة، فردة أقصر من فردة أحيانا دون أن ألاحظ، أما الاستعمال الاستثنائى للطربوش فهو فى لعب الكرة إذا لم نجد غيره نتقاذفه أثناء عودتنا.
ظلت صورة قطار الدلتا ذى الخط الواحد مرتبطة بذكريات بلدنا بشكل ماثل، وارتبط ذلك بفرحة ومخاوف تتعلق بما هو سوق، وسويقة وسوق بديل، حين يختلط الفرح بالخوف تنتج مشاعر أخرى ليس لها اسم، لكنّها رائعة، كانت فرحتى بيوم السويقة والسوق متواترة وحاضرة، وكان من ضمن ما تتباهى به بلدنا أن بها ثلاثة أيام سوق، سويقة بلدنا الخاصة كل اثنين وخميس، يضاف إليها يوم السبت وهو سوق بركة السبع، حيث يذهب الناس سيرا أو على الحمير فى الأغلب، يتسوقون بيعا وشراء واستبدالا، والبعض يذهب فى قطار الدلتا لكنّه قد يعود ساحبا أو راكبا أو العكس، ولم تكن بركة السبع قد أصبحت مركزا بعد، ولم تكن بلدتنا منوفية أيضا (بعد)، وكان بعض ناس بلدنا، ونساؤها بالذات، تستقرب وتفرش حاجتها على قضيب قطر الدلتا وهى فى انتظاره، وأحيانا يتم البيع والشراء ويوفرون الانتقّال إلى سوق السبت فى بركة السبع أصلا، وكنت أرعب كل سبت وأنا أرى النساء وقد فرشْن أشياءهن على القضيب بالذات، وأتصوّر أن القطار قد يأتى فجأة ويدوسهم، مع أنى أعرف أن كلمة “فجأة” هذه لا توجد فى قاموسه أصلا، وحين كان يأتى القطار كان النساء يهرولن بعيدا، فى دلال، وليس فى فزع كما تبينتُ فيما بعد، وبمجرد أن يمر القطار يهرولن عائدات إلى مواقعهن على القضيب.
حضرنى كل هذا وأنا أرسم نوعا من زحمة الانفعالات أثناء نظرى فى عيون بعض أصدقائى ومرضاىَ فى العلاج الجمعى، وتجرأت ورسمت الصورة من خلال هذه الذكريات المصوّرة، مع أنى أعرف أنه لا زملائى، ولا أحد من الجيل الأصغر عنده أدنى فكرة عن هذه الصورة التى أسميتها “السويقة”، قلت:
والنظرة التانية الزحْمهْ، زى سويقةْ السبتْ.. فى بلدنا. زى القفف المليانة حاجات وحاجات. محطوطه بالذات. على قلب شريط قطر الدلتا. كل ما القطر يصفّرْ: بتلاقى الزحمةْ اتفضتْ، والقفف السودا النسوانْ، بتشيل القفف البيضاَ المليانهَ حاجات، وحاجات، وَمَّا القطر يعدى:
ترجع كومْةِ القفف النسوان، القفف النسوان تتلخبطْ على بعض… كما دقن الشايب.
آهى نظرة عينُهْ زىّ سويقة السَّبْتْ فيها كل كلام الدنيا، وفْ نفس الوقت. فيها “رغبهْ” على “دعوهْ” على “إشمعنى”، على “رعشةْ خوفْ” على “صرخةْ طفل”، على حلَمةْ بزْ، على “عايزه اختار”، و “انا مالى ياعم” “مش عايزه ألمْ”. على “نِفْسِى أعيش”، “بس ما تمشيش” “خلينى معاكْ”، “خلينى بْعيدْ” وِاذَا قلت أنا أهُهْ، أنا جىْ يسمعنى كما صفارة القطر، ويخافْ. وينط كلام العين جوّهْ: فى البطن، أو تحت الأرض. وتْلاقى سوادْها وِبَياضها بيجرُوا ورا بعض، زى النسوان اللى بتجرى بقففها. وامّا ابعد تانى، ترجع كل الكلمات الساكته المليانه ألم وحاجات، و “تعالَى” وْ “روحْ” و “قوامْ” و “استَنَّى”، “وانا نفسى تْقَرّب.. إٍلا شوية”، “طبْ حبّه كمان”. “يانهار مش فايتْ !!، أنا خايفَهْ”. “أنا ماشْيهْ”. والقفف المليانه الغلّهْ الكوسهْ البادنجان، الحب العطف الخوف العَوَزَان، تِفْضَى من كلهْ. ولا يفضل غير قضبان القطر، زى التعبان الميت. مستنّيه السبت الجىْ، إللى ما بيجيش.
أعود من رحلة ذكرياتى هذه الى حافلتنا الصغيرة الطيبة، وقد سارت معها المسألة حتى اعتادت الطريق، وأنِست إلى العربات الخواجاتى، وإلى أضواء المرور المنضبطة، وخفة ظل الشاطئ ومَنْ عليه، وسعادة الناس بالناس، وقد زاد انطلاقها وخفتها وألُفتها، بعد أن عملت لها الخدمة الدورية (الصيانة) فى محطة قريبة، فإذا بها أسلس قيادا، وأخف خطوا، وأكثر تلقائية، فأعلم أن نصف صعوبات الجبل كانت نتيجة لإغفالى حاجتها العميقة لهذه اللمسة الضابطة التوازن، والدافعة إلى الانسياب السهل. ويلومنى على هذا الإهمال من أحبوها كثيرا، زوجتى وابنتى منى يحيى، فأعتذر لها أولا، ثم لهما، فتقبل هى، ولا تقبل ابنتى ولا زوجتى.
المهم أننا بعد أربع وعشرين ساعة من وصولنا إلى مقر المخيم على هذا الشاطئ اعتبرنا أنفسنا من أهل الحى، برغم أنف احتكار الناس الفوقيين لهذا “الكوت دازير” ـ والذى أسميناه شاطئ الزير منذ البداية، مسخاً، واعتزازاً، وتذكرة بالزير سالم، ومن يعجبه، نعم.. اقتحمناه بطيبة شجاعة، و آنسناه بما نعرف، فسمح لنا بما نحن فيه، فأين كل هذا الوهم الشائع بتميز رواده إلى “فوق الفوق”؟
حدث حادث فرض نفسه على بداية الإقامة على هذا الشاطىء؛ بحيث جعل هذه البداية لا تخلو من غُصة لها مذاقها المر بثقل خاص. ذلك أنى كنت قد اتفقت مع ابنتى فى الليلة الماضية، أن تمر علىّ فى الصباح الباكر لنذهب الى المطار القريب نستبدل العملة، حيث البنوك العادية مغلقة يوم السبت. واستيقظت كعادتى فى الصباح الباكر جدا، وسحبت أوراقى وكتبى، وجلست فى الحديقة الخلفية للموتيل، والمذياع الصغير يؤنسنى بما لا أفهم، والأراجيح الصغيرة البيضاء “الخاصة” تتحرك بهدوء، أمام دفع نسيم الصباح الحانى، والدنيا فى أجمل حالات الطيبة والتمام، فأجدنى فى أرحب تجليات الحمد والحفز.
………..
………..
ونواصل بقية الفصل الأسبوع القادم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – المقتطف من الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الرابع: الحافة والبحر (الطبعة الأولى 2000)، وتتضمن ترحالات يحيى الرخاوى أيضا (الترحال الثانى: الموت والحنين ) و(الترحال الثالث: ذكر ما لا ينقال ) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net