نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 9-8-2023
السنة السادسة عشر
العدد: 5814
ترحالات يحيى الرخاوى
الترحال الأول: “الناس والطريق” [1]
الفصل الرابع: الحافة والبحر (2)
… ثم تبينت أن سيدنا بوذا هو الجالس وكرشه أمامه،
غريبة، دون صليب أو مصلوب، فهمتُ- دون سؤال طبعاً،
يا شطارتى!! – أن ثمة جالية هناك من البوذيين، أو أن
عدوى شرق أقصية خاصة أصابت بعض أهل هذه القرية،
وهات يا حرية، وهات يا بوذية، ولا أحد أحسن من أحد،
وكل شئ- وكل دين- جائز فى الولايات المتحدة (ما دمت
بعيدا عن السلطة يا أبا على، دع الناس تتسلّ)
17 يوينو 1985 (وقت كتابة هذا الفصل)
استلمت السيارة، وكان شرطى الوحيد ألا تكون “أتوماتيك”، فابتسم الرجل فى شفقة (فى الأغلب) قائلا: ولا يهمك ليس عندى إلا أتوماتيك،ولا يهمك؟! إنه يهمنى ونصف، وحاولت أن أفهمه أنى أحب أن أستعمل قدمى اليسرى؛ حتى أحقق توازنا لا يعرفه هو، وأن هذه القدم اليسرى- لـرعونتها- سبق أن هجمتْ على الفرملة ذات مرة باعتبارها “دبرياج” فى سيارة أوتوماتيك جدا، فى الطريق بين دبى والشارقة، وإذا بالسيارة المارسيدس جدا جدا (لم تكن ملكى بداهة) تقف مكانها تماما بلا قصد طبعا، وعينك لاترى إلا الزجاج الأمامى، وأذنك لاتسمع إلا أصوات الفرامل من خلفى، لكن الله ستر، لست أدرى كيف؟!. ومن يومها وأنا أرعب من أى شئ يعمل أتوماتيكيا مادامت أطرافى سليمة ولله الحمد. ولم يعبأ الرجل بكلامى، وهجم علىّ يُجلسنى على عجلة القيادة فى استظراف قبيح، وجعل يشير إلى أنه: “هذا: خلف، وذاك: هيّا، وخلاص”، وانصرف جريا، خجلت أن أستوضح أكثر أو أتراجع، وركبت السيارة مرعوبا، وظللت برهة بلا حراك أصلا، ربما ظنا منى أنها من فرط أوتوماتيكيتها ستدير محركها بنفسها بمجرد أن أنوى، الأمر لله، وفعلتها، هكذا: هيا!! وسرعان ماتعودت ساقى اليسرى على الشلل الإرادى حين هددتها أنى سأربـطها فى المقعد إذا هى تحركت إلا للنزول فحسب.
انطلقت السيارة- أتوماتيكيا فعلا- تجوب شوارع سان فرانسيسكو، آسف، لاتجوب، بل تصعد لتهبط فتعود تصعد وهكذا، فسان فرانسيسكو مدينة عجيبة مبنية على جبل غير طيب، يثور فى أوقات غير مناسبة، وما زال أهلها يتناقلون أخبار آخر زلزال، يرددون التاريخ المرعب دون أن يغادروها، فلا أحد يستطيع هجر هذا البلدالجميل.، (وقد أعود فى استطرادة أخرى أحكى عن أهلها، وأحيائها: الصينى، واليابانى، والمربع الروسى الذى ليست له علاقة بروسيا إطلاقا، وحى الشذوذ الجنسى حيث “بيوت الرجال”، والمقهى المصرى غير المناسب).
أحاول أن أحتفظ باتجاهى فى محاولة إثبات بعض أفضال “التوه” الاستكشافية؛ لإثبات مقولة إنه “لا توه فى سفر”؛ حيث يصبح التوه مكسباً سياحىاً يستكشف ما هو أهم من الخطة المرسومة. وقد حدث ذلك التوْه فى سان فرانسسكو وحولها بهذه العربة “الذاتية التسيير” كما يلى:
انطلقنا فى الصباح الباكر من سان فرانسيسكو متجهين لزيارة الغابات الحمراء Red Woods، أحد المعالم التى تمثلت أهميتها عندى باعتبارها نقطة انطلاق المرحوم القس جيم جونس، صاحب أكبر مذبحة انتحارية جماعية فى العقد المنصرم، بدأت رحلته من كنيسة فى سان فرانسيسكو إلى الغابات الحمراء هذه، وانتهت بالانتحار الجماعى فى غابات جوايانا، اتجهنا إلى الغابات مهتدين بالخريطة، وما إن عبرنا الجسر الكبير حتى وجدت نفسى فى محيط من الطرق تملؤه السيارات عابرة الولايات المتحدة، وكل العلامات تشير إلى أن أقصى سرعة هى 55 ميلا، ولا يلتزم بها إلاى، وكأنى الوحيد الذى يعرف القراءة؛ حتى شككت أنى أخلط بين الميل والكيلو. ما علينا، ظللت أتبع اللافتات بالتى هى أحسن- هكذا تصورت-حتى اختفت (اللافتات)، بل اختفت الطريق الكبيرة، فنظرت إلى زوجتى بجوارى، فابتسمت- بحكم العادة، لا الشماتة. أخذت السيارة تسحبنا “أتوماتيكيا” من الأوسع إلى الأضيق، حتى وجدنا أنفسنا فى قرية جميلة لم نكلف خاطرنا أن نسأل عن اسمها، ولكنى تعجبت حين وجدت فيها كنيسة لها شكل مختلف عن الكنائس، ثم تبينت أن التمثال القابع أمامها هو لسيدنا بوذا وهو جالس وكرشه أمامه، غريبة، فهمت- دون سؤال ، يا شطارتى!! – أن ثمة جالية من البوذيين، أو أن عدوى شرق أقصية خاصة أصابت بعض أهل هذه القرية، وهات ياحرية، وهات يابوذية، وكل شىء- وكل دين- جائز فى الولايات المتحدة (ما دمتَ بعيدا عن السلطة يا أبا على، دع الناس تتسلَ)،
علاقتى بالسيد بوذا علاقة وثيقة، وأعتقد أن بينى وبينه عماراً لا يعلمه الا الله، وإن كنت لا أفهم لماذا “كرشه” أمامه هكذا. هل هذا من فرط طمأنينته الإيمانية ؟ كان والدى يمازحنا حاكيا أن مقرئا مبتدئا قرأ الحديث الشريف “المؤمن كيّسٌ فطِنٌ” خطأ هكذا “المؤمنُ كيسُ قُطنٍ”، وحين اعترض السامعون وسألوه عن معناه، ردّ مبررا أن المؤمن يتمتع براحة البال والطمأنية فيأكل براحته فيمتلئ جسمه دليلا على الرضا والشبع الحلال، وأن قلبه أبيض مثل بياض القطن، فهل كرش بوذا هذا يشير إلى مثل ذلك؟ بوذا يؤكد لى أشياء كثيرة، ويطمئننى على أفكار كثيرة، ويحيى فىّ آمالا كثيرة، ويرجعنى عن تعصبات كثيرة، وإن كان يسمح لى بشطحات غير قليلة. ألقيت على تمثاله الماثل السلام، كان اليوم أحدا، وكنت أتمنى أن يكون المعبد البوذى مفتوحا لأشاهد الصلاة البوذية؛ فأنا حريص كل الحرص على أن “أحضر” كل عبادة بكل لغة، وخاصة اللغات التى لا أفهمها، لعلى أجد فى هذا الحضور مايقربنى مما لا أعرف، وأفضل هذا “الحضور” عن مناقشات دفاعية مغتربة تدور حول احتكارات دينية مضحكة.
حين كنت فى باريس أسكن فى حى المونمارتر حيث كنيسة الساكركير، حضرت صلاة بدت لى بطقوسها وموسيقاها مثل حفل عرس فخيم، وتكرر حضورى لأكثر من “أحد”، ولكن لم يصلنى شئ ذو بال، فقد طغت الخطب والتراتيل و طقوس الزفاف بلا عرائس أوعرسان، طغت على ماذهبت أبحث عنه.
وفى مصر، حضرت صلاة محدودة فى دير وادى النطرون (الأب مقار) وجعلت ألف مع الطائفين القلائل، وأحدهم يمسك مبخرة أو فانوسا، لا أذكر، والأغانى غريبة غير مفهومة، وظللت كلما لففت لفة، ابتعدت أكثر عما جئت أتحسس تجاهه. لذلك فقد أسفت أن أجد هذا المعبد البوذى مغلقا؛ لأنى كنت سأعد المشاركة فى الصلاة فيه من بعض أفضال هذا التوه. الشوارع خالية، المقهى الذى دخلناه لتناول إفطارنا كان مزدحما صاخبا؛ حتى ذكرنى بمقاهى باريس، على الرغم من أنه فى قرية صغيرة.
عاودنا السير وأنا شامت فى صاحب السيارة فرح بأنى آخذ حقى كاملا، ناسيا أن زيادة استهلاك الوقود هى على حسابى، بدأنا فى السؤال عن الغابة الحمراء، فإذا بصبيين يشيران لنا إشارة إيقاف السيارات Auto Stop، قلنا: نأخذهما معنا نسترشد، ونأتنس، ونخدمهم، ونرى، توقفنا فركبا دون تردد. فرحت بهما لعلاقتى الدائمة بالأصغر، قالا إنهما ذاهبان إلى شاطئ بريستون، وإنه على “الجانب الآخر” من الجبل (لم نكن قد لاحظنا جبلا محددا بعد)، وأنه ليس فى اتجاه الغابة الحمراء التى نقصدها، وإن كان ثمة بضعة كيلو مترات مشتركة، وسوف ينزلان عند المفترق ويشيران لنا إلى اتجاه الغابة الحمراء، فرصة!!، وأخذنا نتحدث، وكيف أن البلاجات قليلة رغم الشواطئ الهائلة حول سان فرانسيسكو؛ لأن المسألة ليست مجرد أرض تطل على البحر، ولكنها تحتاج إلى حسابات انحدار الشاطى، وجذب التيارات، واتجاه الموج، فوجدتهما- فى هذه السن- يعرفان ما ينبغى، وأكثر، وحين اقتربنا من مفترق الطرق سألتهما: “كم ميلا بيننا وبين الشاطئ الذى يبغيان؟.” فأجابا: ثمانية، قلت فى نفسى: “بسيطة”، فنظرت إلىّ زوجتى، وقرأتنى، فوافقتْ، أو استسلمت لفكرة هى تعرفها بحكم العادة، وبدلا من أن أتركهما عند المفترق، أدرت السيارة إلى حيث يتوجهان، وما كدنا نمضى بضع مئات من الأمتار حتى وجدت صدرى ضيقا حرجا، فقد كنا نصعد فى السماء، ونظرت إلى زوجتى- وهى عندى أحيانا “بارومتر” حساس لتخلخلات الضغط، فوجدت وجهها يعلن، باصفراره، أننا فى حالة صعود حاد، ويستمر الطريق فى الضيق حتى لايعود سبيل إلى الرجوع، وجعلنا نمضى أبطأ فأبطأ، لأننا نمضى أصعد فأصعد، فنصعد، حتى تجاوزنا السحاب فعلا لا مجازا، كل هذا والعداد يعلن أننا لم نقطع سوى ثلاثة أميال، وأنا ملتزم بنهاية السرعة المبينة عند كل انحناءة، والعربات الخواجاتى تتجمع ورائى بشكل متزايد، أصوات الأبواق- على غير العادة – ترتفع، نفس الحكاية، وهنا شعرت بالزهو، وأنا أغيظ الأمريكان بحكم القانون، فهأنذا أقود مسيرة “الحضارة الغربية” !! بنفس أدواتها، ولكن بالأصول، (واللى عاجبه !!). وبعد ثلاثة أميال بالتمام، بدا الهبوط الاضطرارى اضطرارىاً فعلاً من حيث أنه لاتوجد وسيلة أخرى للعودة إلى أى مكان فيه حياة مدنية إلا بالهبوط!!، ولم يكن الهبوط أسرع من الصعود، كله بالقانون، وليس للأمريكان حق الفيتو أمام أرقام اللافتات التى وضعتها حكومتهم السنية بنفسها، والقافلة تطول خلفى، ورأسى وألف سيف إلا القانون بحذافيره، وكما كان مقياس درجة الصعود هو اصفرار وجه زوجتى، كان مقياس الهبوط هو حدة الصفير فى أذنيها. وهذا هو ثمن الاستكشاف فى الطبقات العليا. وأخيرا وصلنا إلى الشاطئ الذى يريده الصبيان، والذى لولا التوه لما رأيناه أصلا، وما إن وقفت السيارة حتى انطلق الصبيان بعد انحناءة مغتصبة (هكذا خيل إلى) إلى الشاطئ جريا، وهممت أن أنادى عليهما أنى لست سائق والديهما، لا شكر، ولا تعريف بالمكان، ولا سؤال لنا عما إذا كنا نريد شيئا، ولا إرشاد إلى كيفية العودة، وهم يعلمون أننا غرباء، وأننا غيّرنا طريقنا لتوصيلهما، وملأنى غيظ كاد يدفعنى إلى أن أعدو وراءهما؛ “أسترجع” ما أحطتهما به من إعجاب، وما قدَّمتُ لهما من خدمات، بل…ما عقدت عليهما من آمال. ولكن الطيب أحسن، اعمله وارمه فى البحر. وهذا هو البحر يشرب منه كل من لا يعجبه، حتى أولئك الأمريكيون الذين علَّمتْهم قيادتى الغريبة: آداب المرور واحترام القانون، وما كادت هذه الفكرة تخطر على بالى حتى وجدت سيارة تقف بجوارنا فى موقف الشاطىء، تطل من نافذتها سيدة شقراء، سيدة وسط أو أقل من الوسط فى كل شئ : العمر والجمال والأناقة، توقفتْ ونزلتْ واتجهتْ نحوى، وكنت ما زلت على عجلة القيادة، وشككت أنها تشبّه علىّ، وبعد أن حضّرت إجابتى المعتادة بأنى لست هنديا.. وما شابه..، فوجئت بها تفتح النار بلا إنذار؛ تحتج، وتصيح، وتشير بيدها فى غضب بالغ، ولم أفهم، فظلت تتمادى وتشير إلى السيارة والطريق؛ حتى حسبت أنى صدمت عربتها صدمة سرية دون أن ألاحظ!!. رويدا رويدا بدأت أتبين أنها كانت تحتج على قيادتى لقافلة الجبل، (بنت الأمريكانية!!) وهات يا “ردح”، إنها هى المخطئة؛ لأنى لم أفعل شيئا مخالفا، كل ما فى الأمر أننى كنت أتبع القانون واللافتات، ثم تمادت فى ثورتها أكثر حتى تصورت أنها تقول ما فهمت منه “إن الطريق ليس ملك والدى” و “إنه أفضل لى أن أركب عربة معاقين” و “إنه ينبغى أن أتعلم القيادة قبل أن أعطل الناس”، كل هذا وأنا لا أتمكن من مجرد الدفاع إلا بنفس الكلمات “القانون” “اللافتات”، وتذكرت موقف العرب فى أروقة الأمم المتحدة، ثم فى مجلس الأمن، حيث القانون قد وضع للتطبيق علينا دونهم، بحق الفيتو، وعادت السيدة الشلقة باتريكا (سميّتها كذلك على اسم مندوبة أمريكا فى الأمم المتحدة آنذاك) إلى عربتها، وانطلقت لا تلوى على شىء، أو لعلها تلوى على كثير، من أدرانى؟.
…………………….
……………………..
ونواصل بقية الفصل الأسبوع القادم
ـــــــــــــــــــــ
[1] – المقتطف من الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الرابع: الحافة والبحر (الطبعة الأولى 2000)، وتتضمن ترحالات يحيى الرخاوى أيضا (الترحال الثانى: الموت والحنين ) و(الترحال الثالث: ذكر ما لا ينقال ) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net
“فابتسمت- بحكم العادة، لا الشماتة.”
يا جمال الوصف!