الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ترحالات يحيى الرخاوى: الترحال الأول: “الناس والطريق”: الفصل الثالث: فى ضيافة المرأة المُهرة (7)

ترحالات يحيى الرخاوى: الترحال الأول: “الناس والطريق”: الفصل الثالث: فى ضيافة المرأة المُهرة (7)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأربعاء: 19-7-2023

السنة السادسة عشر 

العدد: 5800 

ترحالات يحيى الرخاوى

الترحال الأول: “الناس والطريق” [1]

الفصل الثالث: فى ضيافة المرأة المُهرة (7)

………….

…………..

مازلنا فى يوم الاثنين 27 أغسطس

كل ذلك خطر لى وأنا فى حمام السباحة مع أحمدرفعت  وعلى عماد . فارق السن بينى وبينهما يقترب من خمسين عاما، وأنا أتصنع أنى أرعاهم، وأحرص عليهم من الغرق، والواقع أنى كنت أعيش كل الخبرة الممكنة فى هذه اللحظة بشكل ذاتى أساسا، وبصحبة أقرانٍ أحرار، وتمر سحابة محملة بما تيسر، وتتوسط السماء فوقنا تماما، وترُخ رخة قصيرة، فأفرح فرحتين، وأنا أتمتع بمنظر الماء الهابط من السماء يتلألأ على الماء الصناعى بعض محاولات الإنسان الدائبة لتجميل الحياة، والإضافة إلى الطبيعة بكل ما أوتى من إبداع مثابر.

هطول المطر فى بلدنا مصاحَب أبدا بذكريات فصل الشتاء، ومغامرات الأوحال، والحوادث، وأعطال المرور. أما أن يهطل المطر عليك فى جو منعش، وأنت فى حمام سباحة نظيف حالة كونك “تبلبط” طفلا مع الأطفال، فهذه نغمة أخرى عزفها رب الطبيعة والناس، حين ألهم الناس أن يحسّنوا وسائل متعتهم لتتناغم مع خلقهم. ليست المسألة ليست حمام سباحة بديلا عن الطبيعة ،بل تنويعات مضافة تتكامل مع الطبيعة.

كانت حمامات السباحة فى بلدنا لا تمثل عندى شيئا ذا بال، بل إنى كنت أنفر منها نفورى من النوادى التى تحتويها. فأنا لا أعرف مجتمع هذه النوادى أصلا، ولست متأكدا على ماذا يجتمعون، و على أى شئ يفترقون. والمرة الوحيدة التى دخلت فيها نادى الجزيرة، كانت بدعوة من صديق اعتقد أن عندى ما أقوله بمناسبة عرض فيلم “ابنة ريان”، وكان لى فيه رأى منشور، وقد خرجتُ من هذه التجربة بخبرة لا تسر. فقد شعرت أنى أكلم ناسا لا أعرفهم، على موجة إرسال ليست فى أجهزتهم ما يستقبلها.

لم أتعرف على ما هو حمام سباحة (جدا) إلا فى خلوة لاحقة، وعلى مساحة رائعة من مياه فيروزية قابعة وسط صحراء الخليج العربى، تتحدى كل جفاف وجفاء، كل ذلك فى فندق “أبللى” فى رأس الخيمة. كنت أنزل فيه ذات أغسطس، والحرارة فوق54ْ، وتذوقت لأول مرة طعما فسّر لى ماكان يقال فى بلدنا عن أم كلثوم من أنها كانت تستحم باللبن الحليب، ربما تفسيرا لجمال ونعومة وقوة صوتها الرائق، أفهمنى حمام رأس الخيمة هذا معنى حمام أم كلثوم المزعوم، ليس فقط بسبب نعومة وقوة صوت أم كلثوم، ولكن يبدو أنى استشعرت فيه معنى الرضاعة أيضا حيث درجة حرارته تقترب من دفء حليب لبن الأم. وأذكر عاملا آخر شجعنى على أن أختلس نزول ذلك الحمام دون توتر- المرة بعد المرة – وهو أنه كان خاليا معظم الوقت، لم يكن يشاركنى فيه أحد إلا نادرا، ومن هؤلاء تلك الهيفاء التى لا يمكن أن تميّز إن كانت ترتدى لباس الاستحمام أم لا. كانت تنساب وهى تسيرحول الحمام قبل أن تنساب فى مائه وكأنها تعوم دون أن تحرك ذراعيها أو ساقيها، قشر بياض يؤكد ازدواجية أصل الإنسان ، إذ يبدو أن مثل هذا الحريم انتقل من مرحلة  السمك إلى مرحلة الغزال دون المرور بحلقات القرود والغوريللا التى اختص بها تطور الرجال الخناشير.  فى هذه الصحراء المحافظة جدا كنت أتأمل هذا الإبداع الخاص جدا حتى أنسى درجات الحرارة ، والرطوبة والسوْنا الطبيعية، ثم فجأة ، يهاجمنى  هذا الإلحاح المستمر فى التفكير فى الفقراء جدا، الذين لايجرؤون على مجرد تخيل أن يروا هذا أو بعض هذا.

حمام سباحة آخر مزّقنى بين المشاركة فى رفاهية ليست  فى معجمى، وبين  العجز عن  التخلص من إلحاح الهم العام وأنا مشغول بالناس الشديدى الفقر على بعد خطوات منه. كان ذلك فى هيلتون الخرطوم. كنت فى مهمة فحص متهم طبيب لتقدير مسئوليته الجنائىة فى جريمة ملتبسة، كان المسبح (والفندق) مليئا بناس تكساس ذوى القبعات العالية المخططة و العريضة  ذات الريش، وكأنى أشاهد النسخة المعكوسة من فيلم لرعاة البقر أو ادعاء تحرير العبيد فى ولايات الجنوب الأمريكية،  هؤلاء الرعاة  الباحثون عن البترول فى الأغلب يقومون بتعبيد الأحرار السود، وليس بتحرير العبيد. كان هذا الحمام يحتوى داخل الماء بارا يقدم كل المشروبات (فى الماء أيضا) وحوله كراسٍ صخرية أو رخامية يغطيها الماء يجلس عليها السباحون ويشربون، ثم يعاودون النكوص.

ظللت أتساءل ، وحتى الآن: كيف لاتقتل كل هذه الرفاهية كل إحساس بالحاجة إلى العدل وضرورة اليقظة؟. وكيف يستطيع أن يذكر الناس فى هذه الحمامات، هكذا، ناسا آخرين على بعد أمتار أو أميال لايجدون مايسمح لهم بمجرد استمرار دخول نَفَسِ الهواء وإخراجه؟ وكيف لمن يدّعى- مثلى- أنه لاينسى الفقراء المحرومين، أن يستمتع بنعمة الله ونعم البشر، وهذه الأفكار لا تفارقه؟. وما حال من هو أصغر وأصغر ـمن أبناء الأكثر ثراء ـ ممن يتصورون أن الحياة هى كلها “هكذا” فهم لم يروا إلا ماهو “هكذا””، حتى لو كان كل مايكسبه أهلهم شريفا جدا؟ هكذا يزعمون جدا.

كيف تسربت هذه الأسئلة إلىّ الآن بهذه الصورة؟  هل هذا وقته؟ أسئلة كلها تجلب الغم فى وقت يُعتبر الغم فيه جريمة أو خطيئة لابد أن يحاسبنا الله عليها. وهل عدم قدرتى على الاستمتاع التى أشرت إليها سابقاً، هى التفسير الذى يجعل صورة المحرومين تقفز إلى ظاهر وعيى فى مثل هذا الموقف؟ وماذا سوف يفيد المحرومين إذا أنا حرمت نفسى من المتعة أسفا عليهم، ثم لا أعمل شيئا حقيقيا لهم؟

الحمد لله. حمام المخيم الإيطالى هنا هو حمام شديد التواضع، وإن كان شديد النظافة، شديد الجمال، وناسه طيبون “منا وعلينا”، ولا يوجد تناقض ظاهر على بعد أمتار أو أميال، وكل من يملك ما يساوى بضعة جنيهات يستطيع أن يمضى هنا يوما أو بعض يوم، وهو أمر يشجع على النسيان، وحمدِ الله دون تنغيص ادعاءات حب العدل.

ونخرج من الحمام إلى الكوخ، وأرشو الطفلين ببعض “الفكة” التى يمكن أن يمارسوا بها ألعاب التسلية فى مقهى المخيم، واعدا إياهم بأنى لن أبلغ قيمة هذه المبالغ إلى أمينة الصندوق، ابنتى المسئولة ؛ كانت هذه الرشوة أملا فى أن أنفرد بنفسى أكبر وقت ممكن، لعلنى أكتب شيئا. وانفردت بها:

أخذت أتأمل نزلاء هذا المخيم الفخم ذى الأربعة النجوم (فالمخيمات مثل الفنادق تحدد درجتها السياحية بعدد النجوم أيضاً، ولكن ما كل نجمة نجمة) – وتساءلت: هل هؤلاء الناس ذوو العربات الفارهة والبيوت المتحركة، يسترخصون الإقامة فى مثل هذا المخيم، عن الفنادق اللائقة بأمثالهم أو حتى عن بيوتهم؟. ويجيئنى الجواب معادا: إن المسألة ليست فى درجة الرفاهية ونعومة الخدمات، وإنما فى فكرة الخلاء، والخدمات المشتركة، وتنشيط كل ما هو فطرى وكريم وسمح ومتعاون فى وجودنا الذى زحفت عليه دهون البلادة والخوف والحسابات. ويتأكد عندى هذا المعنى، حين أذكر أن مثل ذلك يحدث مع ناس أكثر ثراء، حين يبحثون عن المتعة والتغيير فى أماكن أقل خدمات وأوفرمشقة. ذلك أن من عادات أهل الجزيرة العربية من الأثرياء ـ مثلا ـ أن يخرجوا إلى “البر” بين الحين والحين. ولم أفهم فى بادئ الأمر أن “البر” هو الصحراء المترامية الخالية. فطول عمرى أعتبر البر هو الشاطئ، إذ هو “خلاف البحر” ومقالبه. الا أن “البر” عند إخواننا هناك كان يعنى “المخيم” و”التخييم”.

مرة وأنا فى رأس الخيمة-لمدة أسبوع خاطف- علمت من صديق يسكن قصرا (بحق وحقيق) مكيف بكل شئ (…مما لايخطر على قلب بشر) أن عائلته فى البر منذ فترة، وعلمت – بطريق غير مباشر- أنهم هناك يمارسون حياة بدائية كاملة (بما فى ذلك- ولا مؤاخذة- قضاء الحاجة)؛ لأنه لا توجد خدمات متحضرة، كما هى الحال فى هذه المعسكرات المتواضعة فى أوربا. وجعلت أتساءل وأنا فى دورة مياه قصر هذا الشيخ، وكأنها من الذهب الخالص!!- “أيتركون هذا الحمّام الذى يخجل واحد مثلى أن يلوثه حتى ولو حيل بينه وبين وظيفة بيولوجية حتمية، “ليعملوها” هناك فى الخلاء كيفما اتفق؟. ياسبحان الله!! ـ ومازلت أذكر أيضا كيف عاد ابنه (متبنيه) الأصغر (7 سنوات) من البر، ومعه جحش صغير، يريد أن يدخل به الصالون المكيف!! (بعد أن عثر عليه فى البر و”شبط فيه”. حيث الحمير هناك بلا صاحب لأنها ملكية مشاع) – وتعلمت من هنا وهناك أن المسألة ليست مسألة رفاهية وتكييف طول الوقت، وأن هذا النشاط وذاك ليس وراءهما إلا التذكرة والتأكيد على ضرورة النكوص، والاتصال المباشر بالطبيعة

نحن فى مصر لا حصّلنا هذا ولا ذاك. لم يبق لنا من مثل هذا النشاط إلا شد الرحال إلى بعض الموالد حيث مازالت الجِمال تحمل الأمتعة والعائلات أياما وليالى،  من الصعيد إلى مولد السيد البدوى، أو من وجه بحرى إلى سيدى عبد الرحيم القناوى. المهم : شد الرحال. والفرق شديد بين ناس يخرجون إلى الخلاء (الخاص… أو العام) من كثرة النقود ودغدغة الرفاهية، وآخرون يدخلون إلى ساحة الأولياء وزحام الناس من إلحاح الرجاء و “قلة مفيش”- ومع ذلك فقد أحسست أن الفكرة متشابهة. فثَمَّ انتقال، وتخييم، وناس أغراب يلتقون دون سابق معرفة، ونشاط جماعى دون اتفاق، وهدف مشترك- فى مساحة ما- دون إعلان.

أنا أعتبر نشاط الموالد من أهم ما تبقى لنا من فرص النكوص الدورى الجماعى، إلا أنى – بكل ألم- أسمع نغمة جديدة يتزايد علوها فى الهجوم – أيضا- على هذه الموالد، يهاجمها المتمدينون باعتبارها “تخلفاً وقذارة”، ويهاجمها المتدينون المتزمتون باعتبارها مسخرة وبدعة. ونحن شطار فى الهجوم دون إعطاء بديل أو اقتراح بتعديل. فبدلا من أن نوسع فى المكان، ونقدم خدمات النظافة والإخراج، نهاجم، وننذر، ونتعالى، بل إننا لانعتنى بمثل هذه الخدمات العامة حتى فى الأماكن السياحية المعدة للتخييم فى مصر، وما أقلها، وكأن ثمة خطة مدبرة قصدا عندنا تمنع الناس من مغادرة منازلهم… اللهم إلا القادرين.. يغادرونها إلى منازل أغلى وأثقل تسمى الفنادق،  أو القرى السياحية، والباقى يـُرَصُّ رصا أمام التليفزيون بأمر سلطوى، يبدو أنه متفق عليه بين أصحاب السلطة الفكرية والإعلامية والسياسية والدينية جميعا.

أتساءل بانزعاج: فماذا بعد؟.

لو أننا واصلنا حرمان شعبنا أكثر فأكثر من هذه النشاطات الجماعية النكوصية الدورية (الموالد، والمهرجانات، وحلقات النشاط الجماعية – النكوصية والإبداعية والإيمانية جميعا) تحت دعوى الإلتزام الدينى القامع، أو التحضر السطحى الكاذب… إلخ…أى مصير ينتظر حركة وجودنا الدورية؟. وأى خصام مع دورات الطبيعة، ودورات النكوص الحتمية؟

مازلت أذكر زفة مولد النبى فى زفتى. الحرفيون فوق عرباتهم “الكارو” يستعرضون أنشطتهم المختلفة فى بهجة ما بعدها بهجة، ولست أدرى هل مازالت هذه الطقوس تقام حتى الآن أم لا. ثم يحضرنى عبد الحكيم قاسم وهو يرسم حيوية مولد السيد البدوى “فى أيام الإنسان السبعة”، وأدعو الله دعوة إجمالية لا أعرف محتواها، وبالتالى لا أعرف كيف يمكن أن تتحقق، ولكنه ـ سبحانه ـ أدرى.

أفتقد فى هذا المخيم – فى رحلة تأملاتى وحيدا- هؤلاء “الغجر” من الخواجات الذين كان منظرهم مألوفا لدَّى فىّ أثناء إقامتى فى مخيمات فى سويسرا وإيطاليا (سنة 1969) فإذا كانت الأسر الكبيرة، والقادرون فى شبه الجزيرة العربية يخيمون نكوصا إلى ماهو قبيلة، فإن الشباب المحدثين (الهيبز وما شابه) يرتحلون ويخيمون نكوصا إلى ماهو “غجرى”… بما فى ذلك أخلاق الغجر بما لها وما عليها.

تحضرنى لندا دارنل  بحول خفيف فى عينيها، يزيدها جمالا، فى فيلم “عنبر إلى الأبد”، تبتسم لى وتشير بسبابتها على فمها ألا أفسر أكثر من هذا، فلا أسمع لها، ويهف على وجدانى ذلك الخليط من المشاعر التى تحركت بى حين شاهدت ـ لأول مرة ـ فى معسكر ما فتى وفتاة من هؤلاء، وقد تجمعت عليهما قاذورات الرحلة والطريق والزمن، حتى فاحت منهما رائحة العرق بالشبق والحرية، فاستقبلت كل ذلك بخليط من مشاعر الدهشة، والغيظ، وحب الاستطلاع، والغيرة، والإعجاب، ولا أطيل حتى لا أكشف أكثر على ماهو أكثر، ويمكن للقارئ- لو صدقنى- أن يقوم هو بجمع هذه الصفات والمشاعر بعضها إلى بعض، (لا على بعض). وقد يقرأ هو مالم أكتبه، وقد يتمتع  برائحة الشواء واللقاء مجانا.

أرجعت خلو مخيمنا هذا(الألبا دورو = أظن أن معناه هو “الذهب الأبيض” ربما)  من مثل هؤلاء “الغجر” إلى احتمال انحسار أمثال هذه الموجات (الهييبز.. إلخ) أصلا منذ بداية السبعينيات، أو لأن المخيم ذا أربعة نجوم، وهؤلاء الغجر يفضلون الأرخص والأقذر.

ويعود ولداى (حفيداى/ رفيقاى/ صديقاى) فرحين باكتشافهما لطريقة ممارسة ألعاب الحظ والشطارة، ويحاولان أن يستدينا منى مايصرفهما عنى، فأوافق طلباً لاستمرار خلوتى بنفسى، وينصرفان فأُخـْرج ماصحبت معى من أوراق، وقد عقدت العزم على الكتابة، وأجد موضوع “تطور الوجدان” يطل على من بين الأوراق البيضاء، فأخجل من أفكارى “العلمية” حول هذا الموضوع، فى هذا الجو المشحون بشتى العواطف والمشاعر والوجدان والأحاسيس.. وكل ماينتمى إلى هذه “المنطقة” من الوجود.

الفكرة وراء هذه “النظرية” التى تشغلنى عن تطور الانفعال، هى أنه – حين يتكامل الشخص نموا – لا يوجد عنده شئ اسمه عواطف أو انفعال أو حتى وجدان، بالمعنى الشائع الذى يصورها باعتبارها وظائف مستقلة ذات معالم خاصة بها. فإن صح ذلك وتم إلغاء ماهو عواطف ووجدان: فما هذا الذى أنا فيه؟. وبم أسميه؟. وكيف أصفه بمصطلحات العلم الوصى على الخبرات (الذى يقال له: علم نفس!!)

قلت لنفسى. لنفرض أنى- شخصيا- أقترب من أعلى مراتب الوجدان تطورا فرديا (وهذا غير صحيح) فليكن ما أنا فيه هو ما أحب أن أسميه “المعنى الجوهر”، أو “المعنى الشامل” أو “الحقيقى” أو “النابض” أو “المتناغم”؛ وهو مايفيد نتاج الالتحام الطبيعى بين مايسمى وجدانا بما يسمى فكرا إذا أصبحا “واحدا” يستحيل فصمه إلى أجزائه، وبالتالى ما حاجتى إلى انفعال مستقل إذا ملأنى المعنى؟ فيردُّ علىّ قائلا: ولو. وأعجز عن كتابة أى حرف، على أىة ورقة.. ولو على سبيل نقاط للتذكر مستقبلا.

ينقذنى من مواجهة عجزى هذا حضور بقية أفراد الرحلة من جولتهم، فى حالة من النشوة والانبهار ليس لها مثيل، ويعرضون على غنائمهم، وأستعيد حبى لألوان “المورانو” الرائعة، ويحاولون إفهامى أن مفارش “فينسيا” “صنع اليد” هى أكثر فنا وذوقا من هذا المورانو المقوْلب فى الغالب، فلا أفهم. وعموما.. فأنا من بلد لايقدّر “شغل اليد” حق قدره كما يفعل “الخواجات” والذين يفهمون، وتحاول ابنتى أن تشرح لى كم من الساعات أنفقتها الفنانة التى “شغلت” هذا المفرش. فأقول فى نفسى قولة جورج سيدهم فى “المتزوجون”: “ناس فاضية”.. ولكن: أبدا، هذا فن حقيقى يحتاج إلى تأمل خاص، هو ليس فى مجال قدراتى الآن، وأعد نفسى- مثلما أفعل بالنسبة إلى الموسيقى – أن أفرغ له يوما.

ويبدأ الإعداد للعشاء، وكانوا قد اشتروا من الآنية ما أغنانا عن استعارة جديدة، الحساء جاهز وكأنه يلوّح لنا بما خرج منه، والتقشف له طعم شهى.

أكلنا وشربنا الشاى، وسهرنا، وحاولنا أن نسمع إذاعة مصر فلم نفلح، وكنا فرحين بأول ليلة استطعنا فيها أن ننام فى مكان معروف لنا مسبقا من أول النهار!!،

وأذهب وزوجتى إلى المقهى النادى الملحق، نتأمل الوجوه، ونشارك من بعيد، ثم نشارك من قريب، ثم نشارك جدا،  ونحمد الله حمدا كثيرا طيبا نرجوا أن ننتفع به.

الثلاثاء  82 أغسطس 1984:

صباح حقيقى آخر، بكل الآمال المجهولة، والرسائل الهامسة، والأنغام الجياشة الواعدة، والصمت الناطق بالهدهدة الدافئة، ويستيقظ الأولاد على راحتهم لأول مرة، ويعد الإفطار المناسب والذى منه، وكنا قد بدأنا نستعمل منضدة مخيمات اشتريناها من أثينا، فردناها، فجمعتنا فى رحابة ذكية. فضّل ولداى الأصغران (رفاق الأمس وحمام السباحة) أن يمضيا اليوم فى المخيم دون النزول إلى فينيسيا، ففرحت فرحا شديدا؛ لأنى سأجد سببا يبقينى فى المخيم بحجة رعاية الصغيرين، فأعلنت ذلك، وأخذت أعد نفسى بيوم كامل أرتب فيه داخلى.. وقد تتاح لى فرصة أفضل لكتابة بعض ماوعدت، وكان المخيم بكل أشيائه وأجوائه قد استقر فى وعيى حتى أحسست أنه بيتى وأكثر، وكأنى أقيم فيه منذ تناسخى الرابع عشر بعد المائة..، والمرأة الُمهرة المسئولة عن المخيم تمشى فوق قفزاتها الصغيرة، أمام “مكتب الإدارة”، وهى تطلق دفء الفتوة ذات الرائحة الشبقية، وإذا بزوجتى تفضل أن تبقى معنا فى المخيم . حاولت أن أثنيها عن عزمها خشية أن تكون “جاءت على نفسها” من أجل خاطرى، إلا أنها أصرت أن تبقى حتى لو ذهبتُ أنا والأولاد. وقلت: فرصة. أبدأ معها جولاتنا الصغيرة  فى الحوارى والأزقة المحيطة إن وجدت، ولا بد أن توجد، جولاتنا لايعرفها السياح فى مجموعات، ولا السياح ذوى الياقات الزرقاء.

ما إن رحل الأولاد الكبار، وانطلق الأصغران إلى الحمام دونى، حتى صحبت زوجتى بعد الضحى إلى السوق الأعظم (السوبر ماركت).قصدت إليه أصلا لأصلح ما أفسدته تجربة بلجراد فى كيس نوم خيمتنا، وجدته مليئا بكل ماحلمت به من معدات التخييم ، فاشتريت ما أحتاج إليه وما لا أحتاج إليه استعدادا لأسفار مجهولة  لا تحدها ولا شطحات ألف ليلة ، أبتاع كلما أتصوّر أنه سيحافظ على استمرار حركتى فى بلاد الله لخلق الله، وأنوى أننى  حين عودتى سوف… وسوف… وسوف.

………….

…………..

ونواصل الأسبوع القادم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] –  المقتطف من الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الثالث: فى ضيافة المرأة المُهرة (الطبعة الأولى 2000)، وتتضمن ترحالات يحيى الرخاوى أيضا (الترحال الثانى: الموت والحنين ) و(الترحال الثالث: ذكر ما لاينقال ) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية  فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط  www.rakhawy.net

 

تعليق واحد

  1. ( ما حاجتى إلى انفعال مستقل إذا ملأنى المعنى؟ )
    أول مرة انتبه إلى واقع عبارة ” ندور حول المعنى ” فتارة ندور حوله بانفعال العواطف و الوجدان و تارة بانفعال الفكر و فى كل تارة منهما نعجز عن إدراك جوهر حقيقته بنبض شموله
    و فى حالة التحام الوجدان بالفكر نصل إلى جوهر المعنى الشامل الحقيقي النابض تناغما …… هكذا وصلتني
    يا خبر !!! ليتنا ندرك كيفية الوصول إلى ذاك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *