نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 5-7-2023
السنة السادسة عشر
العدد: 5786
ترحالات يحيى الرخاوى
الترحال الأول: “الناس والطريق”[1]
الفصل الثالث: فى ضيافة المرأة المُهرة (5)
……………………….
………………………
الاثنين 27 أغسطس
صباح آخر كأجمل مايكون الصباح؛ بحيث لا يصح وصفه أصلا إلا بأنه صباح حقيقى. ذلك أن الصباح الذى فرضته علينا الحياة الأحدث، ليس صباحا أصلا. فلا شمس تخرج من خدرها أمام العين مباشرة، ولا صوت لطير، ولا لفحة هواء باردة سمحة فى آن، ولا وجه إنسان خال من حسابات الأمس وأطماع اليوم، ولم تحل هذه البرامج الصباحية محل الصباح الحقيقى أبدا. بل لعل بعض برامج الصباح قد شوهت ماهو “صباح” بكثرة الأحاجى، وادعاء خفة الظل، وانثناء الأصوات الأنثوية التى لا أجد لها أية علاقة بالهواء والنقاء والخضرة ووجوه البشر الطازجة،
كانت علاقتى بالصباح قد تجددت قبيل قيامى بهذه الرحلة؛ حين بدأتُ أمارس عادة قهرية قبيحة (من حيث المبدأ: وهى الجرى “منفردا”) وذلك قبل طلوع الشمس على طريق سقارة، وكنت حين ألقى راكب حمار أو سائق “كارو” فى طريق سقارة، أجدهم ينظرون إلىّ إشفاقاً، فألقى تحية الصباح كسرا لتوهمهم أنى سائح أهبل. ألقيها بصوت مرتفع نسبياً “صباح الخير”، فإذا بى أتلقّى ردا غير الذى ألفتُه فى المنزل أو فى العمل أو فى شوارع المدينة (زى: صباح النور..الخالية من النور والدفء تحت تأثير الفول المدمس ومحشر المواصلات). أقول كنت أتلقى ردا جديدا يقول: “نهارك قشطة”، فأشعر أن هذا الرد الأكثر صدقا له طعم جديد، طعم طازج منعش مطمْئِـن معا. وحين حاولت أن أستعمل اللغة الجديدة فأبدأهم بأن: “صباحك قشطة”، كنت أتصور أن الرد سيكون “صباح الخير”، ولكن يجيئنى رد أكثر جدة: أنه “بالصلا عالنبى”. ماهو الذى هو بالصلا عالنبى؟ ومامعنى الصلاة على النبى هنا؟. تفسيرات كثيرة، ومعان طيبة جدا خطرت ببالى- ولن أذكرها- فأكتفى بفرحتى بتغيير الإيقاع الروتينى للتحيات الفاترة المعادة، وأمضى فى العدو المنفرد الخائب.. ويمضون هم إلى رزقهم على باب الكريم.
هذا صباح آخر، به نفس الطزاجة. لسعة البرد الطليانية لم تقلل من الدفء البشرى المحيط، بل زادته حرارة طيبة حانية.
وأشاهد السيدة المسئولة عن المخيم، وهى تسير أمام مكتبها، فى خطى كالقفزات الصغيرة، تملأ رئتيها بهذا الصباح، وتكاد تبخل أن تخرجه مع الزفير، وهى امرأة لاتقل سنها عن الخمسين، إلا أن بها قدراً من الحيوية والصحو يكفى لانبعاث رسائل موقظة محفزة لكل خلايا من حولها، من الرجال خاصة.
فى بشاشة مفجِّرة، تشرح لنا الطريق والمواعيد، ونشترى منها تذاكر الأتوبيس (خدمة إضافية رقيقة تجنبنا مشاكل اللغة، والفكة) وأنا أنتهز فرصة السفر لأركب المواصلات العامة، أتعرف فيها على البشر. ذلك لأن ركوبها فى بلدنا أصبح بطولة تحتاج إلى تدريب خاص. وقد كنت دائما أعتبر المواصلات مجتمعا بأسره، هذا لو أتيحت للبشر الفرصة أن ينظر أى منهم فى وجه الآخر، لا أن ينحشر بعض لحمه فى بعض لحم الآخر؛ ليصبحا جزءًا من الكتلة الممتزجة من هجين أجساد الركاب المصريين (أهمّه) فى بلدنا المكدسة بكل شىء. وسبحان مخلص الأجساد من بعضها عند المحطة التالية. يولد الإنسان المصرى من جديد كلما ركب أتوبيسا ونزل بالسلامة، ثم نقول “تكافؤ الفرص”!!. ولماذا لا ننتج؟. إن مجرد وصول مواطننا إلى عمله صباحا هو بطولة فردية يومية لابد أن يتسلّم بعدها خطاب شكر لنجاحه فى الحضور، ثم يكافأ بالانصراف استعدادا لليوم التالى، لأنه بذل من الجهد مايكفى لدفع أمة بأكملها إلى محطة أتوبيس العودة.
ثم إنى أرجو ألا يستبعد القارئ ألمى الشخصى، وأنا أسخر من حقيقة لا أعيشها بحجمها الآن، فكل هذا يغيب عادة عن راكبى السيارات الخاصة أمثالى، كما يغيب عن اللائمين والمنظـّرين من أصحاب الأقلام والقرارات، على الرغم من كثرة السفر، وحتم المقارنة. أنا حين تضيق بى الحال من فرط التفكير والعجز، تخطر على بالى حلول مضحكة لمشاكلنا اليومية، فأروح أتصور أنها حلول عملية على الرغم من يقينى باستحالتها بشكل ما. فمثلا بشأن مشكلة المواصلات عندنا، رحت أكتب حلا للمشكلة فى صورة فرمان طيب يـُـلغى به استعمال جميع السيارات الخاصة، إلا فى السفر بين المدن؛ حيث تقبع الجراجات خارج المدن (مثل رأس البر زمان أو العصلة -دهب- الآن ، قبل العاشرة مساء). ولا يسمح داخل المدن إلا بالحافلات العامة والدراجات والموتوسيكلات، وكذلك يسمح للمسنين القادرين والوزراء و”المهمين” والمعوّقين (حتى الرئيس) العاجزين عن قيادة موتوسيكل خاص بأن يركبوا فى صندوق جانبى (سيدكار) أو صندوق خلفى لموتوسيكل خاص، أو بالأجر، أو تعد لهم حافلات خاصة محددة المواعيد. أتصور بذلك أن الدنيا ستتغير، ليس- فقط – فيما يتعلق بالمواصلات، ولكن بما يخص الأخلاق والعلاقة بين الناس وإحساس المسئولين بالعامة. ويبدو مثل هذا الحل “جنونيا” لغرابته، لا لاستحالته. وعموما “فأبشِْر بطول سّيارةٍ يامُرفّهْ”. فأى حل يمس أى كبير، لـن يخرج إلى حيز التنفيذ، حتى لو كان للتوصية بمرور السيارات الأرقام الفردية يوما، والزوجية يوما آخر إلا لو أعطـوا للناس “الذين هم” لوحتين لكل سيارة يقوم السائس بوضع اللوحة المناسبة لليوم المناسب!! يوم لوحة فردية ويوم لوحة زوجية !! لن تنفد حيلهم أبدا ،هذا لم لا يملك عربتين ..إلخ!!
المهم.. ركبنا الأتوبيس حاملين مصباح سيارتنا المحترق معنا، آملين فى شراء بديل عنه؛ فهو- كما يبدو- لايـُفك إلى أجزاء، غيّرنا العملة فى محطة المطار. وجاء الأتوبيس فى ميعاده “بالثانية”، كما هو مثبت فى الجدول المعلق على مكان الانتظار- المحطة-، ووصلنا فينيسيا فى أقل من ربع ساعة.
أنا صديق للبندقية من قديم، وإن كانت صداقتى لها، لاترجع إلى أسباب جندولية محمد عبد الوهابية، ولا لأسباب أثرية تاريخية. ولكن لأسباب شخصية ، ربما تتعلق باقتراحى المواصلاتى سالف الذكر، وبحبى للماء والناس حبا جما، من أيام رحلات المركب كل خميس فى زفتا والانتقال من زفتا إلى ميت غمر ، والانتظار على المردة والسهر فوق حجارتها ليالى رمضان، كل ذلك وأنا قبل العاشرة، تمشى فى شوارع البندقية وسط مواكب وموجات الناس المتلاحقة؛ فتقترب من الناس بشكل تصعب مقاومته، لا سيارة ولا أتوبيس، وإنما ناس وشوارع مبلطة ببلاط قديم نظيف (غالبا) ومقاه، وفن على كل لون وشكل. متى وصلتُ إليها، آخذ نفسا عميقا. وأنا أخلع إيقاع وعيى اللاهث، وألقى خارج سطح إدراكى كل تلك الوجوه الملبدة بالهم والحساب.
قبل أن أبدأ جولتى مع الأولاد، رأيت أن أنهى موضوع مصباح السيارة، وهذا موضوع لا قيمة له فى ذاته، إلا أن موقف سائق التاكسى ورجل محل قطع الغيار العجوز المبدع، علّـمانى أشياء هى دين علىّ لمن أحكى له الآن هذاالحكى. فبعد سؤال صاحب الجراج الكبير فى ميدان روما، فى نهاية جسر الحرية عن بغيتى وهى إصلاح المصباح أبلغنى أن أعود عبر الجسر الطويل إلى ميستر Master (والعلاقة بين فينسيا وميستر، مثل العلاقة بين زفتا وميت غمر.. أو المنصورة وطلخا..). فتوجهت إلى سائق تاكسى وأفهمته بطريقة ما- المشكلة، وطلبت منه أن يصحبنى ذهابا وعودة، وسألته قبل أن أركب (نظرا إلى سمعة الطليان فى هذا المكان).. كم سيكلفنى هذا، فأجاب أن ذلك يتوقف على الوقت الذى سنقضيه هناك، ثم ذكر رقما تقريبيا شديد التواضع، قلت خيرا. وتواعدت مع الأولاد على مكان اللقاء، وصحبنى السائق فى “ميستر” من محل إلى محل، وهو يستبعد أن نحصل على المصباح؛ لأن الحكومة الإيطالية لا تستورد لا السيارات اليابانية، ولا قطع غيارها؛ حفاظا على مصانع فيات- ومع ذلك فقد واصل اللّف معى والسؤال نيابة عنى فى صبر هادئ حتى عثرنا على محل قطع غيار كبير، به عجوز طيب لا يقل عمره عن سبعين سنة. نظر العجوز إلى المصباح، ثم إلىّ، ثم إليه، ثم فتح “كاتالوجا”، ثم نظر ثانية وعاشرة، ثم ذهب، ثم فك، ثم عاد، ثم أعاد العملية فى صمت جميل، أخجلنى، وأدهشنى، حتى كدت أقبل يده الماهرة، داعيا له بطول العمر (حتى لو فشل)، هذا أستاذ فى الحياة والصنعة جميعا. وظل الرجل يتابع مهمته الإبداعية حتى خلق مصباحا جديدا من عدة أجزاء “وماركات” متفرقة- وللأسف، فقد سألت السائق بالإنجليزية البسيطة التى نتفاهم بها، إن كان هذا العجوز واثقا من أن هذا “الإبداع المصباحى” هو فى قدرة مصباحى القديم فعلا، فأنا على سفر، وأخشى المفاجآت. ولم يرد العجوزبعد الترجمة، بل نظر نظرة عاتبة مشفقة متعالية فخورة بما عمل. فخجلت من جديد حتى كدت أعرق، ذلك أننى قرأت فى نظرته أن هذا المصباح لابد أن يكون- والله العظيم- أفضل من المصباح الأصلى،
لابد أن حضراتكم الآن قد علمتم كم أنى شديد البحلقة والاندهاش، دائم التلمذة. ويزداد ذلـك عندما يكون أستاذى عجوزا صامتا. وقد ذكرت علاقتى بعم عطية معقب البرسيم، وعم شعبان ضاخ الطلمبة، (الماصة كابسة)، وهأنذا أتعلم من شيخ خواجة معنى جديدا للإبداع والطيبة. مثلما تعلّمت كثيرا من مهنتى من صمت أستاذى عبدالعزيزعسكر، أكثرمما تعلمت من كلامه.
…………………..
………………….
ونواصل الأسبوع القادم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – المقتطف من الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الثالث: فى ضيافة المرأة المُهرة (الطبعة الأولى 2000)، وتتضمن ترحالات يحيى الرخاوى أيضا (الترحال الثانى: الموت والحنين ) و(الترحال الثالث: ذكر ما لاينقال ) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى للتدريب والبحوث: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net