الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ترحالات يحيى الرخاوى الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الرابع: الحافة والبحر (10)

ترحالات يحيى الرخاوى الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الرابع: الحافة والبحر (10)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأربعاء: 4-10-2023

السنة السابعة عشر 

العدد: 5877 

ترحالات يحيى الرخاوى

الترحال الأول: “الناس والطريق”([1])

الفصل الرابع: الحافة والبحر (10)

ثم تبينت أن سيدنا بوذا هو الجالس وكرشه أمامه،

غريبة، دون صليب أو مصلوب، فهمتُ- دون سؤال طبعاً،

يا شطارتى!! – أن ثمة جالية هناك من البوذيين، أو أن

عدوى شرق أقصية خاصة أصابت بعض أهل هذه القرية،

وهات يا حرية، وهات يا بوذية، ولا أحد أحسن من أحد،

وكل شئ- وكل دين- جائز فى الولايات المتحدة (ما دمت

بعيدا عن السلطة يا أبا على، دع الناس تتسلّ)

الجمعة 13 أغسطس 1985

………………..

………………..

راحتْ كل هذه الذكريات تلف فى عقلى وتزيدنى حيرة، وتستدعى خبرتى الأخرى فى سان فرانسيسكو بالذات، حيث هناك الحى المسمى “حى الرجال”، ومقاه للرجال فقط،، “ونواد” خاصة، بل إن ثمة نشاطا سياسىا واقتصادىا أصبح يمثل قوة ضاغطة فى الانتخابات. ويقال إنهم أثرياء جدا لأنهم لا يضيعون ما يكسبون على تكوين الأسر وإنجاب الأطفال، وقد راجعت كل ما أعرف فى هذا الأمر من منطلق تخصصى الطبنفسى، فلم يقنعنى شئ يبرر هذا التمادى، وهذه العلانية، حتى خطر ببالى أنه نوع من التحدى الصارخ الذى يحاول أن يكشف كذب العلاقة النمطية بين الرجل والمرأة، وكأنهم يقولون لنا ” إن علاقة الرجل بالرجل، أوالمرأة بالمرأة، هى علاقة خالصة لوجه الود، واللذة، بلا صفقات؛ فلا دعارة، ولا بنات ، ولا بنون… أما علاقتكم أنتم: فهى تجارة معلنة أو خفية.

وأغلق هذا الموضوع دون حل، ويظل فى النفس شئ منه، مهما طال الزمن.

بعد الظهر، نزلنا إلى نيس نتعرف عليها. كنا حول السابعة، واتجهنا إلى ما قيل لنا إنه الميدان الرئيس، ميدان “ماسينا” على ما أذكر، وبعد أن ركنا السيارة وجدنا سلالم رخامية، فصعدنا وإذا بنا فى ساحة جميلة، ولكن ليس بها كالعادة “سريخ” ابن يومين. مع أن الدنيا كانت تضرب تقلب فى الشوارع، ثم شدت انتباهى مقاعد رخامية بينها مناضد من فسيسفاء (فى الأغلب، فأنا لا أعرف ما الفسيفساء) فناديت على الأولاد، وقلت لهم: انظروا، لا يوجد غيرنا، وهاكم لوحة الشطرنج، بل لوحات الشطرنج لمن يلعب.  نحن فى  بلد بهذه الضخامة، يلفها بهذه الروعة، تكرم ناسها بفرص بهذه الوفرة. وقبل أن أواصل الخطابة ينبهنى ابنى – من خلال لافتة قرأها لاحقا – إلى أن هذا المكان ممنوع التواجد فيه بعد السابعة مساء، ونظرت إلى ساعتى فإذا بها السابعة والربع، فخجلت من نفسى، وأسرعنا بالنزول، وتعجبت أنه ليس مكانا مغلقا، وليس ثمَّ شرطى لتنفيذ التعليمات، ولكن مجرد لافتة، وينتهى التواجد، سبحان الله… هذا هو سر أنه لم يكن ثم “سريخ” ابن يومين!!

مع نزولى تاركا لوحات الشطرنج ورائى، وأنا أدارى خجلى، أتذكر لاعبى الشطرنج فى ميدان واشنطن بنيويورك. وهو ميدان خاص قريب نسبيا من قرية جرينويتش (هو الحى المقابل أو المقلدّ لـلحى اللاتينى فى باريس) من جهة، وقريب من المدينة الصينية والحى الطليانى من جهة أخرى. وحديقته المتميزة تتميز بالعروض المختلفة الجنسيات، والألعاب الراقصة والتلقائية، مما يذكرنا بحديقة المخبأ (هايد بارك) لندن. وأنا – عموما – أعجب بلاعبى الشطرنج، وأرفضهم. والذى يشاهد مجموعات الشطرنج من النحاس فى بيتى (من مختلف البلاد) يحسبنى من محترفيه. والواقع أنى أقتنيها تحت زعم أنها مصنوعة باليد. لأتأمل الفروق بين الجنود والملوك والحاشية، فى سائر البلاد، لكنى أرفض لعبة الشطرنج التى تمثل عندى اختزال العقل البشرى، إلى ما يمثل جانبا حاسبا من نشاط العقل الحسابى الرقمى المُغير على ما هو دونه.

أذكر أنى أحببت الشطَّرنج حتى كدت أتقنه فى فترة من فترات طفولتى حتى المراهقة. ولكن ذلك كان تحديا لوالدى الذى حرّم دخوله منزلنا، وكان يصفه بأنه “نجاسة خنازيرى”؛ لأنها ـ فى رأيه ـ تفوق “النجاسة الكلابى”. ومرة رأيته يطيح بقدمه بلوحة شطرنج ضبطها بمنزلنا، بكل ما عليها، ومن عليها. ولم أفهم سر ذلك أصلا، فرُحت – معاندا -أتعلم اللعب وأحاول أن أتقنه. ولكنى حين كبرت وتأملت، وعلمت أن زوج عمتى يتقن هذه اللعبة ويمارسها ويكاد يحرز فيها بطولات، تصورت أنه -زوج عمتى – قد قهر والدى فيها ذات يوم، فكان ما كان من كره والدى لها. وكان والدى من لاعبى الدومينو المميزين، فلماذا هذا التحيز ضد الشطرنج؟.

حين كبرت أكثر سألته مباشرة عن سر كرهه للشطرنج، فأجاب بأنه طاقة عقلية مُهدرة، قال يعنى من كثرة ما نستعمل طاقاتنا العقلية فى موضعها طول الوقت!!.

عندما كبرت أكثر فأكثر، بدأت أستوعب جوهر موقف والدى دون موافقة على ظاهر سلوكه، وجعلت أتصور أن كثيرا من البحث العلمى، بل النشاط التعليمى، ليسا إلا نوعا من لعب الشطرنج الذى ينبغى أن يرفض أصلا باعتباره “طاقة عقلية مهدرة”.

فى تأهيلى لمرضاى، نادرا ما أنصح بالشطرنج بالذات!!.

نعود من نيس، وقد جُعنا. وتهف رائحة الحساء على أنوفنا، فتثير حساسية خاصة، لدرجة أن يحك البعض جلده، ويمسح البعض أنفه، وتكاد تدمع عيون الباقين. ويذكر الأصغران (أحمد، وعلى) أنهما لمحا مطعما صينيا بالقرب من المخيم. وأنا عندى نقطة ضعف تجاه أى شئ صينى، وتجاه مطاعمهم بالذات. فأعزمهم على العشاء احتفالا بالاستقرار المؤقت، ولكن بشرط أن أدفع لكل منهم ثمن الطبق الرئيسى فقط. أما أى زيادة- بما فى ذلك السلاطة والحلو- فعلى حسابهم. وأنا أعلم مسبقا أن ثمن طبق السلاطة فى فرنسا قد يفوق ثمن الطبق الأساسى، ويقبـَلون، ولكنهم يبرون أنفسهم بطلبات إضافية إلى درجة جعلتنى أندم على العزومة ما داموا هكذا قادرين، ويقرأون ذلك فى عينى، وفى معنى طلبى طبقا رئيسيا رخيصا واحدا. فقد  تصورت أنى حين ألتزم سيلتزمون، لكنهم أفهمونى أنهم سيضحون بوجبتين كاملتين مقابل التمتع باللحظة خارج نطاق الحسابات،

يداخلنى خوفى المتربص بى أن أكتشف زيف كل ما أدعى بشأن تربية أولادى، خصوصا وأنى أقيس صدقى بما يكونونه، يا للتحدى الأعظم: أولادى.

كيف سوف يكون موقفهم من قضايا القرش والعدل والناس، والعمل والإبداع؟

أنا لا أعتبر هذا التحدى مشكلة فردية، ولكنه اختبار حى لترجمة الكلمة إلى تجسيد واقعى. فمن لا ينجح مع أقرب الأقربين إليه، لابد أن يراجع نفسه ويعيد تقييم مزاعمه، وقد دأبت على دراسة ما أُرسل إلى أولادى من “رسائل أخرى”، لا أدرى تفاصيلها،  وإنما يلتقطها الأولاد. دأبت على دراسة نتائجها فى سلوكهم، فإذا بهم – أحيانا – يكونون عكس كل ما أقول، ويخرجون لى- بذلك – ألسنتهم، لكنى بعد مدّة تقصر أوتطول أشعر أن ما تبقى هو ما قصدتُ إليه بغض النظرعن التفاصيل الظاهرة. فأحمد الله.

لعل هذا الموقف هو ما أوقعنى كثيرا فى خطأ قسوة فوقية حين أرى بعض أصحاب المبادئ من خلال أبنائهم خاصة، فأعذرهم تارة (وعلى نوح السلام)، وأتهمهم تارة أخرى (لماذا ياسيدنا غاندى؟)، ولا أبرئ نفسى.

 وأتعجّب أكثر من أن ينقلب معظم أولاد الزعماء والساسة الكبار والمثاليين المنحازين إلى الفقراء جدا، ينقلبون إلى رجال أعمال جدا،

كان هذا  قبل أن يظهراحتمال ظهور المواهب السياسية الخاصة عند الأولاد وهم يستعدون لوراثة العروش الجمهورية فى العالم العربى.

نقضى وقتا طيّبا فى نيس شخصيا، ونعرج إلى ملاه شوارعية قرب أطراف البلدة الهادئة، فيمارس الأولاد بعض ألعاب هى موجودة عندنا وزيادة، لكن الشئ يختلف باختلاف اسياق.

أثناء عودتنا، والرصيف خال، نمسك أيدينا معا ونغنى ونتمايل، ونكاد نرقص، بل نرقص نحن التسعة، ونغنى .

………..

………..

ونواصل الأسبوع القادم الفصل الخامس

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[1] –  المقتطف من الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الرابع: الحافة والبحر (الطبعة الأولى 2000)، وتتضمن ترحالات يحيى الرخاوى أيضا (الترحال الثانى: الموت والحنين ) و(الترحال الثالث: ذكر ما لا ينقال ) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية  فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة  الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط  www.rakhawy.net 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *