نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 16-8-2023
السنة السادسة عشر
العدد: 5828
ترحالات يحيى الرخاوى
الترحال الأول: “الناس والطريق” [1]
الفصل الرابع: الحافة والبحر (3)
… ثم تبينت أن سيدنا بوذا هو الجالس وكرشه أمامه،
غريبة، دون صليب أو مصلوب، فهمتُ- دون سؤال طبعاً،
يا شطارتى!! – أن ثمة جالية هناك من البوذيين، أو أن
عدوى شرق أقصية خاصة أصابت بعض أهل هذه القرية،
وهات يا حرية، وهات يا بوذية، ولا أحد أحسن من أحد،
وكل شئ- وكل دين- جائز فى الولايات المتحدة (ما دمت
بعيدا عن السلطة يا أبا على، دع الناس تتسلّ)
17 يوينو 1985 (وقت كتابة هذا الفصل)
………………
………………
هذه المرأة لم يعجبها أن يقود مثلى قافلة أمثالهم فتبعتنى،وتوقفت،، لتعطيهم لى أربعة، أربعة، بالأصالة عن نفسها وبالنيابة عن زملائها الخواجات. لكن القانون فى صفى، ثم إن القانون ليس فيه هذه المرأة الشلقة، ليس فيه لا باتريكا ولا زينب (على رأى فؤاد المهندس فى : أنا وهو وهى)،، القانون قانون، الناس فيه بلا أسماء ولا نسب، ثم إن هذه المرأة بالذات هى “بين البينين” فى كل شئ إلا فى سلاطة اللسان. وقرأت زوجتى أفكارى فضحكت، وضحكتُ، ماذا يريد هؤلاء الناس؟ يسرعون فنسرع. يبطئون فنبطىء. هكذا حسب بورصة الأجناس، والدولار، والآلآت، وأوهام التفوق العرقى.
نزلنا نتفرج على الشاطئ فإذا هو شاطئ شديد التواضع، قبيح الوجه، لا يشجع على البقاء أكثر من دقائق، وخيل إلىّ أن الصبيّان اللذان اختفيا قد ذابا فى البحر “كفص ملح” فزاداه ملوحة وقسوة.
لولا تـلقائية هذه العربة، وما دفعتْنـَا إليه من توه لما عرفنا كل هذا: لا طبيعة الشاطئ “على الجانب الآخر” من الجبل، ولا درجة سلاطة لسان الأمريكية وغرورها، ولا نذالة الصبيين. هذا الشاطئ إذا كان يمثل شواطئهم، فعليه أن يخجل إذا ما قورن بشواطئنا الرائعة، تصورت أنه إذا كانت مصر هى هبة النيل قديما، فهى يمكن أن تكون هبة البحر حديثا.
ذكرت كل ذلك لأعرض نوعا جيدا من “التوْه الكشف المفاجأة” فى الرحلات، ذلك أنه لا اكتشاف بغير مغامرة الضياع، بل إنى أتصور أحيانا أن بعض معنى “الذين يؤمنون بالغيب” إنما يشير إلى من يؤمنون بفضل “التوْه” على “اليقين الجاهز”، وفضل “ما ليس كذلك”، على “ذلك نفسه”، بفضل المعرفة المتولدة على المعرفة المستقرة.
ما زلنا نسير تائهين فى “بادوفا”، ثم رحنا نخترقها ببطء رائع حتى خرجنا منها إلى الأوتوستراد، وهات يا جرى وهات يا نوم لمن فى المؤخرة. وقد سبق أن تحدثت عن هذه الطرق السريعة المملة العملاقة القبيحة القاسية. وهذه المرة زادت صفة عليها حين رأيتها ملساء كوعى الملحد، وقارنتها بالطرق الوطنية المتثنية فى دلال، والمخترقة للبلاد الصغيرة محاطة بجنان الخضرة ولفحات نسيم الناس.
نام الجميع لمدة مائتى كيلو وأكثر، وحين توقفنا عند محطة بنزين على مشارف ميلانو أحسست أن أغلبهم كاد يفقد معنى السفر، وكأن المسألة أصبحت – بعد ستة أيام لا أكثر – مجرد روتين، إذا أصبحت المسألة كذلك انتهى معنى السفر ليحل محله معنى “الوصول” (كما ذكرت)، فزادت المسافة بينى وبينهم؛ حيث تصورت أنى لم أعد إلا سائقا بلا أجر، وهم الركاب بلا غاية واضحة (لى). واذا ما انقلبت علاقة الصحبة إلى مثل هذا الكلام، تراخت أسلاك التواصل حتى لا تتلامس إلا بالصدفة، فإذا حاولتُ، تكهرب الجو. وقد اتفقت الأغلبية على عدم دخول ميلانو، وفرحت رغم أسفى على رغبة الأقلية التى كانت “نِفسها تشوفها”، وإن كنت قد رجحت أن رأى الأقلية هذه لم يكن هدفها استكشافيا، بقدر ما كان من باب تعليق لافتة اسم مدينة، “زيادة” على أسماء المدن التى مررنا بها. وميلانو هى عاصمة إيطاليا الشمالية الصناعية، والمرور حولها فى الطريق السريعة يكاد يصل إلى طول المسافة بين القاهرة وبنها، وشكلها – من الخارج- لا يوحى الا بمعنى الميكنة. فالهباب يغطى الجو، وسقوف المصانع متراصة بجوار بعضها كالمقابر العملاقة، ولابد أن بداخلها ـ كما هو بخارجها ـ أناساً يقاسون، ولو بطريقة سرية، من عذاب هذه القبور الصناعية الحديثة.
مررت بميلانو أثناء عودتى من فرنسا سنة 1969، ووقفت أمام كاتدرائيتها الضخمة وناسها القساة، وشعرت آنذاك بأنى أريد أن أترك السيارة لأعدو على قدمى هاربا منها، وكأن العدو على الأقدام أسرع من الضغط على بدال البنزين فى السيارة، أو كأنه يعلن رفض السيارات (الفيات وغير الفيات) وما إليها إذا ما أصبحت وظيفتها هى أن تطحن الناس، لا تحملهم.
اعتقدت أن هذا المكان المتحفز ليل نهار لا يكف عن مساءلة هؤلاء الناس عن ما جنوا، فلمّا رجحت كفـّة سيّئاتهم، حكموا عليهم بالسخرة فى هذه الحياة الدنيا – هكذا – (لحساب من؟)..، مجرد خيال، ربما يعلن العجز أكثر مما يعلن السخط، لكنى أعترف أنى أمام الإنتاج العملاق (مصانع فيات فى إيطاليا هنا مثلا) الذى لا أعرف له صاحبا بالذات، صاحبا له اسم ولقب، أقول أمام هذا التنظيم المؤسسى العملاق الحديث أقف مشدوها وكأنى طفل ضاع من أمه فى زحمة مولد ضخم يزوره لأول مرة. وأنا أرجع ذلك إلى الفلاح بداخلى، فعندنا يقين ـ نحن الفلاحين ـ بأن الأرض بلا صاحب، والرجل بلا ولد، والولد بلا خال، ليسوا بشىء، وربما لهذا أنا لا أحب، أو قل لا أعرف أصلا، هذه العلاقات الإنتاجية المعقدة، ولا أرتاح فى هذه المدن الغول.
انحرفنا جنوبا تاركين ميلانو دون أن ندخلها، ومن جديد، هات يا جرى، وهات يا نوم، ولم يعد يعنينى ـ كما قلت ـ أن يكون فى صحبتى من يظل يقظا إلا المرشد أو المرشدة، وتهل رياح الجنوب، ويقترح ابنى و ابنتى وقد سبق لهما زيارة روما أنها تستأهل، وانظر فى الخريطة فأعرف أن ما يقولانه هو المستحيل نفسه؛ فالعلامات تشير إلى اتجاهين متباعدين جنوة فى ناحية، وبولونيا إلى روما فى ناحية أخرى، ونحن متجهون إلى جنوة دون بولونيا، رغم توصية مدرس البيانو العجوز الذى تتمرّن لديه ابنتى فى مصر أن تزور بلده بجوار بولونيا.
هو رجل قد ناهز الثمانين، يعيش فى مصر وحيدا، وأسمع حكاياته من ابنتى فأحبه من بعيد، وخاصة حين ذكر لابنتى سبب استمرار إقامته فى مصر وحيدا فى هذه السن، فقد قال لها – مشترطا ألا تضحك عليه – إنه إنما يقيم فى مصر من أجل عيون قطه الأليف الذى ليس له (القط) غيره، إذ لو سافر، فمن ذا الذى سيعتنى بالقط من بعده، ثم إنه يعتقد أن القط لم يعد يمكنه أن يتكيف فى بيئة أخرى لو أنه أخذه وسافر إلى إيطاليا؟.
عند مفترق الطرق إما إلى بولينا وإما إلى جنوة، نشير بأيدينا بالتحية إلى اتجاه بلد هذا العجوز الطيب. وكأننا ننفذ وصيته، أطال الله عمره وعمر قطه، ونعتذر له، ونمضى نحو جنوة، (التى كنا نقرؤها فى البداية جانوفا حسب الحروف بالإنجليزية لكننا نكتشف أن النطق بالإيطالية أقرب إلى نطق اسمها بالعربية)، ونقرر من جديد ألاَّ ندخلها، لكننا نضطر إلى اختراقها حتى نغير اتجاهنا، غـربا على الشاطئ المسحور، ولا نمكث فيها إلا أقل القليل، فلا أحبها ولا أكرهها، ولكنى أعجب على طبعها التجارى “الرمادى” أيضاً، ولا نطيل المكوث فننطلق فى اتجاه فرنسا الذى تحدده اللافتات باسم بلدة بدت لى ثانوية على الخريطة اسمها: “فنتميجليا”.
سرعان ما أصبحنا نسير بحذاء شاطئ البحر المتوسط. إذن فهذه هى ما تسمى بالريفييرا الإيطالية، وهذا هو “شاطئ الزير” (الكوت دازير) الشهير الممتد حتى فرنسا، ذلك الشاطئ الذى يعنى شيئا خاصا عند المصريين حيث يتباهى بعضهم بزيارته فى حين يتبرأ البعض الآخر من الإقامة فيه، ويعاير به البعض بعضا فى موقف ثالث؛ ذلك أنه كان مصيف الملك فاروق بكل ما كان وما لم يكن، ثم أصبح مصيفا سريا لرجال القوى الجديدة، ثم أصبح مصيفا رمزيا للطبقات الصاعدة فوق أكوام البنكنوت دون درجات الوعى أو مدارج الحضارة، ثم أصبح ما لست أدرى عنه شيئا، وآخر ما قرأت حول هذا الشاطئ كان دفاع محمد حسنين هيكل عن نفسه، من أنه لم يزره إلا مؤخرا بسبب العمل!!. وتعجبت حتى تصورت أن عدم زيارة هذا الشاطىء، هو فى ذاته علامة التقشف والاشتراكية الجديدة، وقلت فى نفسى: والآن، حين نسمع من يتكلم عنه “الكوت دازير”، سواء بترفع، أو وهو يشجب زواره بحماسة اشتراكية مشبوهة، حين نسمع هذا أو ذاك نستطيع أن نهز رأسنا هزة الذى هو “عارفه”.
عايشت هذه الخبرة حين كانت لى بعض الاستشارات مع المرحوم الدكتور محمد حلمى شاهين وكيل وزارة الصحة سابقا، وكنت أزوره فى منزله بالدقى قبيل سفرى، وذكر لى أنه سيكون فى “كان” فى التاريخ من كذا الى كيت، فقلت له إنى سأكون فى “نيس” من كيت إلى كذا (فقد كنت أخطط لهذه الرحلة) فظن هو أن نيس بالذات (التى لم أرها قبلا) هى مصيفى المفضل (!!)، فسألنى: وأين تنزل؟، وزغـت فى الكلام؟، وكدت أقول له – رحمه الله ـ : أنا لا أنزل، أنا أطلع حيثما تصعد بى سيارتنا.
نحن الآن فى الكوت دازير، نعم : كم هو جميل، ولكنه مثل كل جميل فى بلدنا، وربما أقل، لكنه نظيف أكثر، ربما، وهادئ جدا، لكن إيش عرفنى وأنا داخل السيارة هكذا، ولماذا أسبق الأحداث؟. سوف نظل فيه مئات من الكيلومترات الأخرى، لماذا أسارع بالحكم هكذا على كل شىء؟.
جعلت هذه الخواطر تسير جنبا إلى جنب مع السيارة، الجبل على يمينك، والبحر على يسارك، وأنت تصاحب أفكارك، أعنى أفكارى، حتى لا يغالبنى النوم، ظلَّت أفكارى تسبقنى كثيرا، و تلحقنى قليلا، هذاهو البحر الأبيض المتوسط، نعم، وأنا لا أعرف أصلا كيف أرد بصرى عن قديم، جديد، هو جديد لأننا على شاطئه الآخر، وقديم لأنه هو هو، وقد اعتدت أن أسير بجواره هناك فى طريقى إلى مرسى مطروح. كان هناك على يمينى وأنا على يساره، ثم هاهو على يسارى الآن رغم أنى متجه غربا أيضا، ويخيل إلىّ أنه يختال قائلا إنه بحر محظوظ، وربما أنا كذلك، وأكاد أفهم معنى أنه “متوسط” و”أبيض”، وأكاد ألوح بيدى إلى الناحية الأخرى، وكأنى أرد على همس آت من بعيد يقول: “لا تغب”. فأرد بفرحة المشتاق الواعد “أيوه جاى”.
أنا أعرف همس الوطن. هو ليس مرتبطا تماما بمكان بذاته، وإنما يأتى من الحياة كلها، لكنه ينطلق ابتداء من حيث عرفتُـها (الحياة) أول مرة هناك،
معنى الوطن عندى هو تاريخ نبض الحياة، يذوب فى حياتى فردا على أرضٍ بذاتها، ففى كل مكان رمل وطين وماء، ولكن إذا تكلمتْ حبة الرمل ففهمتَ لغتها، وفاحت رائحة الطين فضمّتك إلى ذراعيها، وتلطفتْ موجة البحر فنمتَ فى حضن هدهدتها ليأتيك همسها الخاص وكأنه يخصّك شخصيا، فهذا وطنك، يتردد فى عمق وعيى سيد مكاوى وهو يردد: “الأرض بتتكلم عربى”، فتجعل لـلهواء طعم خاص آت من هناك، هو نفس الطعم التى عرفتَ من خلاله أننى “حى” لأول مرة،
أثناء تراسلى المنتظم مع د. محمد شعلان وأنا فى فرنسا وهو فى الولايات المتحدة ثارت عندى مسألة الوطن فى مقابل الوجود الإنسانى غير المحدود.كتبت أخاطبه لاحقا فى نهاية “أغوار النفسى” : يا طير يا طاير فى السما، رايح بلاد الغُرّب ليه؟ إوعَى يكون زهقك عماك ، عن مصرنا، عن عصرنا ، تفضل تلف ّ تلف كما نورس حزين، حاتحط فين والوجد بيشدّك لفوق. الفوقْ فضاَ، الفوق قضاَ. وعنيك تشعلق كا مادا وتنسى ذين الأرض مصر. وحين سافر محمد ابنى إلى نيوزيلاندا فى مشروع هجرة لم تكتمل (أنظر بعد) عاودنى نفس التساؤل. وحللته فى آخر القصيدة العامية بأن اعتبرت كل الناس مصريين ، وضحكت على نفسى .دنا لمّا بابُصّ جوّا عيون الناس، الناس من أيها جنس، بالاقيها فْ كل بلد الله لخلق الله، وفْ كل كلام، وفْ كل سكاتْ، واذا شفت الألم الحب الرفض الحزن الفرحة فى عيونهم، يبقى باشوف مصر. وباشوفها أكتر لمّا بابص جواى.
تبيّنت أنه حتى لو كان للإنسان المعاصر أن ينطلق مثل الصاروخ ليحط حيثما يمكن، فإن لكل صاروخ قاعدة انطلاق، وأن الوطن هو بمثابة هذه القاعدة التى لها فضل إعداده للانطلاق،
لم يقنعنى هذا التفسير، مع أنه يحضرنى كلما سافرت، وأحببت كل الناس، هكذا، وفى نفس الوقت اشتقت لوطنى .
أنتبهُ فجأة، فأفاجأ أننا فى الأغلب فى مواجهة ليبيا أو الجزائر، وليس مصر. أنا لا أشعر بالائتناس أصلا بهؤلاء الأهل العرب، ربما لنقص فىّ، أو لعدم هضمى هذا الجمع بين جفاء البداوة وشوك آثار الاستعمار الفرنسى والإيطالى القبيحين، لست على حق فى الأغلب، لابد من زيارة، وأرض، وشعر، وثريد، وألم مشترك، قبل أن أحكم (زرت بعد ذلك الدارالبضاء، وأسِفت على كل هذا الكلام، ما أسخف التسرع فى الحكم، صحيح “إللى ما يعرفك يجهلك”، أنظربعد).
حين هاجرت فى الداخل إلى رأس الحكمة فرِحتُ فرحا شديدا بمعاشرة البدو، وبأنى أترك بيتى هناك قرب الشاطئ (هو من القش تقريبا،وبعض المواد البدائية) مفتوحا بلا قفل فأرجع وأجد أن يدا لم تمسه، وكنت أتعجّب وأفخر من قوة احترام الكلمة الشفهية، وأن الأرض توزّع فيما بينهم بالاتفاق، حتى أننى حين اشتريت قطعة أرض اتبعت طريقتهم وأن تقاس الأرض بالارتفاع فالهبوط، فأرضك هى حتى تختفى قدميك (نعليك) عن الناظر لك وأنت تصعدها (إللى تشوفه عينك ليك !!)، وهم قد يحددون الحدود بالماء، فيسقطون بعض الماء على قمة تبّة عالية ويحدد انحدار الماء على كل ناحية أرض الجار من جاره،
تصوّرتُ آنذاك أننى عثرت على “ركنى القصى”، فى عقر وطنى، وأننى حين أبلغ من العمر ما لا يسمح لى بكل هذه الحركة، سوف ألجأ إلى هناك فى رأس الحكمة. رحت أتعرّف على الناس والمكان، وخيل إلىّ أننى وجدت ضالّتى،تأكد لى ذلك فى أول رمضان قضيت فيه بعض أيامى وحدى هناك.
حضر إلىّ روفة” قبيل المغرب وأنا جالس أتأمل، (روفة :هو اسم البدو لمن اسمه عبد الرؤوف، كما أن “رحومة” لعبد الرحيم، و”كُريّم” لعبد الكريم وهكذا)، وأصرّ أن أذهب لأفطر معه، وذهبت لأن الاعتذار كان مستحيلا، عرفت أن تلك هى عادتهم وأن هذا الإصرار العنيد ليس لشخصى ولكن لمجرد أننى غريب، لا يصح أن أفطر فى رمضان وحدى، لكننى حين فطرت مع “روفة” وحده سألته بتردد شديد عن أسرته خشية أن أكون قد حرمته بضيافتى من الإفطار معه، وإذا به يتعجّب ويخبرنى أننى إن لم أحضر، فإنه كان سوف يتناول إفطاره فى نفس المكان (حجرة تكاد تكون خارج الدار)، وهم بالداخل، وخجلت أن أدخل فى التفاصيل،
بعد أن مضى علىّ عام وبعض عام أتردد كثيرا على كوخى هذا فى رأس الحكمة تأكد لى أننى وجدت ضالتى فعلا، وأن شروطى جميعا قد توفرت: ناس، وأرض، وشعر، وثريد، وألم مشترك “. رويدا رويدا تبينت لى الخدعة، لم يخدعنى أحد، أنا الذى كنت أحلم، اكتشفتُ العكس تماما، لا خصوصية إطلاقا، ولا ركن، ولا حرية، وثمة استحلال لما ليس لك بشروط معينة، وثمة شطارة تخترق حواجز خُـلـُقية كثيرة دون إحلال أخلاق بديلة، تصوّرت آنذاك أنه هكذا الأمور فى ليبيا فوجه الشبه لا يخفى على عابر سبيل. نحن قبالة ليبيا الآن يا أخ معمر. يالله!!
………………….
…………………
ونواصل بقية الفصل الأسبوع القادم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – المقتطف من الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الرابع: الحافة والبحر (الطبعة الأولى 2000)، وتتضمن ترحالات يحيى الرخاوى أيضا (الترحال الثانى: الموت والحنين ) و(الترحال الثالث: ذكر ما لا ينقال ) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net