الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / بعض معالم علاج النفس من خلال الاستشارات عن بُعد الاستشارة العاشرة زخم الطاقة، والإيقاع الحيوى، واختيار الجنون (2 من 2)

بعض معالم علاج النفس من خلال الاستشارات عن بُعد الاستشارة العاشرة زخم الطاقة، والإيقاع الحيوى، واختيار الجنون (2 من 2)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد:9-6-2019

السنة الثانية عشرة

العدد:  4299

بعض معالم علاج النفس

من خلال الاستشارات عن بُعد

الاستشارة  العاشرة

زخم الطاقة، والإيقاع الحيوى، واختيار الجنون (1) (2 من 2)

مقدمة:

رجاء:

من لم يقرأ نشرة أمس فليتفضل بقراءتها أولا

شكراً

……….

د. منير شكرالله

ثم حدث أمس صباحا أن حضر زوجها وخالته لزيارتها و فوجئت بها وقد تغيرت تماما. إستقبلتنى عند دخولى للعنبربفاصل غاضب من الردح والسخرية وأعلنت أنها لا تريد أن ترى زوجها. وعندما أتى للحديث معى زاد هياجها وأخذت تحدثه هو وقريبته بطريقة عدوانية وإستفزازية للغاية مع كلام “متناقض” عن رغبتها فى البقاء بالمستشفى وفى نفس الوقت تأكيد بأنها طبيعية تماما وأنها يجب أن تخرج على مسؤوليتها وبدرت منها أيضا بعض الحركات الفجة ذات الإيحاءات الجنسية.

د. يحيى:

أنا أعتبر الملاحظة الدقيقة من الطبيب وهيئة التمريض أثناء  الزيارة المحسوبة هى مصدر هام جدا للمعلومات اللازمة للإلمام ببقية الصورة الإكلينيكية  (ليس بالضرورة فيما يتعلق بالتشخيص). إن كثيرا من الفروض التى نضعها لإمراضية (سيكوباثولوجية الأسرة) يمكن رصد بعض جوانبها أثناء الزيارة. وفى حالتنا هذه فإنى أرى أن ما حدث فى الزيارة ليس دليلا مباشرا على أن العلاقات “سيئة، وخلاص”، بل هو إشارة إلى أن هؤلاء الزوار لهم دلالة مثيرة للمريضة، وتعبير دلالة مثيرة لا يعنى السوء أو الحسن، فهناك زيارات مليئة بالقبلات والأشواق، وإمراضيتها من أخطر ما يمكن.

الطريقة العدوانية والألفاظ الخارجة التى أشرتَ إليها يا د. منير  ليست دليلا على أن العلاقة سلبية على طول الخط، هى تعلن فقط أنها  علاقة لها دلالاتها التى لا بد أن تفحص وتوضع فى الاعتبار بحسابات مسؤولة غير الانطباع الذى يصل للشخص العادى على أنها “قلة أدب” مثلا، أنا لا أدعوك إلى التفويت باعتبار أنها تصدر من مريضة، لكنى أذكرك بأنها مصدر جيد لاستكمال الصورة.

أما ما تقوله عن التناقض بين طلب خروجها، وبين طلب بقائها، فأعتقد أنه فى مثل هذه الحالة، يمكن أن نصدق كلا الطلبين معا، فكلاهما موقف  معقول ولكلٍّ أسبابه،

أما أن  يتلاحقا هكذا فى وقت واحد فهذا ما يجعلهما يبدوان متناقضين، والسبب – فى رأيى- أنهما يصدران من موقعين أو مستويين مختلفين من مستويات الدماغ، وهو أمر يتعلق بتعدد الذوات من ناحية (وهو أمر طبيعى وليس قاصرا على الفصام) وبحتمية الحركة من ناحية أخرى، الأمر الذى يتفق مع زخم الأعراض فى هذه الحالة وسرعة تقلباتها. 

د. منير شكرالله

..الأمر الذى لفت نظرى بشدة ومن أجله كتبت لحضرتك كل هذا، هو التغير الذى حدث بعد إنصراف زوجها وقريبته: حيث عاد إليها الهدوء فجأة وعادت تتكلم بطريقة طبيعية واعتذرت لى عن طريقة تصرفها. وعندما سألتها عما دعاها للتصرف أمامهم بهذا الشكل قالت وهى تضحك: “حبيت أعمل لهم كارت إرهاب ” ولما سألتها إرهابهم بماذا؟ أجابت بما معناه: عشان يخافوا ويمشوا. وفى نفس اليوم مساء كانت تقارير الممرضات عنها إنها كثيرة الحركة والكلام وبصفة خاصة الضحك المستمر بدون سبب واضح. وكان هذا أول يوم يكتبون عنها أى أعراض واضحة.

د. يحيى:

نحن نخطئ عادة حين نقيس المريض (الذهانى خاصة) بما نقيس به الشخص العادى، إن اعتراف المريضة هنا أنها زوّدتها أصلا: “عشان تعمل لهم كارت إرهاب”، لا يعنى أنها تصنعت ذلك، وقد نفيتَ أنت ذلك فيما بعد، إنه  يعنى أكثر أنها أطلقت هذا الجانب (مستوى الوعى، حالة الذات، حالة العقل أو أى مُسمى يشير إلى التعدد) من ذاتها ليفعل ما يشاء، ويقول ما يريد، مما لم يكن فى مقدورها أن تقوم به أثناء السلامة خارج المستشفى، وهذا أحيانا ما يسمى المكسب الثانوى للمرض.

 د. منير شكرالله

….. اليوم تحدثت معها مرة أخرى عن نفس الموضوع [وكانت بالفعل لا تستطيع منع نفسها من الضحك طول الوقت وإن بكت مرة أو مرتين] وسألتها بطريقة مباشرة: هل تستفيدين بأى شىء من هذا الجنون؟ ولم يكن فى بالى الإستفادة بمعنى أنها متمارضة أو شىء من هذا القبيل وإنما بمعنى أنها ربما تستخدم الجنون سواء بطريقة واعية أو غير واعية للدفاع عن نفسها مثلا فى بيئة صعبة، وجاءت إجابتها لتؤكد لى إنطباعى..قالت ما معناه:

إن الجنون بالفعل مفيد احيانا فى التعامل مع هؤلاء الناس. وكان من ضمن ما قالته إنها فى مرة قدمت بلاغ فى قسم  الشرطة إن حماها حاول الإعتداء عليها وقالت وهى تضحك ما معناه “مجنونة بقى !!” وعندما سألتها هل تكون واعية بما تفعله مثلما حدث أمامى أمس مع زوجها؟ قالت إنها تكون واعية تماما بما تفعله [وإن شعرتُ أنها ترددت قليلا فى الإجابة]

وقد أجابت عن نفس السؤال بإجابة معاكسة بعد دقائق.

وسؤالى الأساسى هو:

  • إلى أى مدى يمكن أن تكون المريضة متحكمة فى اعراضها خاصة فى مثل هذه الحالة التى يبدو من تاريخها المرضى كل هذا الكم الهائل من الجانب البيولوجى الوراثى؟

والسؤال الآخر الخاص بالجانب القانونى أو الطب الشرعى:

  • إذا كان المريض بالفعل “واعيا” ومتحكما بما يفعله أثناء الحالة المرضية [أيا كان معنى الوعى هنا] فإلى أى مدى يمكن إعتباره مسؤولا او غير مسؤول عن افعاله؟

ثم سؤال أخير:

  • ما معنى الوعى والإستبصار هنا؟ وما قيمة الاستبصار إذا كانت المريضة “تستخدم” جنونها ليفيدها فى أحد جوانب حياتها؟

لا أدرى إن كان يجب أن أعتذر عن الإطالة ولكن أردت أن أعطى لحضرتك صورة مفصلة عن الحالة.

والشكر الجزيل لك مقدما  لهذه الفرصة للحوار والتواصل.

د. يحيى:

لقد أثرتَ يا د. منير بملاحظاتك، ثم تساؤلاتك قضية جوهرية، أعتقد أنها أساسية فى ممارستى للطب النفسى طول نصف قرن، وهى ليست قضية جديدة أبدا، هى ما يمكن أن تسمى  “اختيار الجنون حلا – (برغم فشله فى النهاية)”

هذه القضية لها صياغات متعددة مثلا:

 الجنون هو فعل، وليس مجرد رد فعل  (2)  Not only a reaction but is essentially an action

  • “إن فى الجنون لعقلا” هذا تعبير المرحوم أستاذنا الدكتور مصطفى زيور على ما أذكر

  • غائية الجنون (الفصام): وهو منطلق سيلفانو أريتى خاصة فى كتابه “تأويل الفصام”   (3) Interpretation of Schizophrenia  

  • لغة الفصام وهو ما نسبه “شولمان” مؤلف كتاب “مقالات فى الفصام Essays in Schizophrenia إلى مدرسة ألفرد أدلر

إشكالة النظر فى هذه القضية يقع تحت عناوين مثيرة للجدل ومنها :

  • الإرادة الحرة، وحدود المسؤولية

  • مستويات الوعى، وتعدد الذوات

  • المكسب الأوّلى والمكسب الثانوى، من المرض النفسى والجنون خاصة

  • “الحل المرضى” فى مقابل “الحل العلاجى”

  دعونا نواصل ونقدم ما تيسر مما نعرف ونرى:

  • كيف يكون الجنون فعلا وليس مجرد رد فعل؟

  • وكيف يكون للجنون عقلا ؟

  • ثم ما هو هدف الجنون؟

  • وبأى لغة يتكلم الجنون؟

افتراضات مبدئية:

حتى نجيب على هذه الأسئلة علينا أن نبدأ من محاولة النظر فى الافتراضات التالية:

  • إن فى الإنسان عدة مستويات من الوعى، فاعلة متفاعلة طول الوقت، بالتناوب أحيانا، وبالتوفيق أحيانا، وبالجدل أحيانا، وبالصراع أحيانا (وغير ذلك)

  • إن هذه المستويات من الوعى هى “عقول”، بمعنى: “برامج فاعلة هادفة بقائية مفيدة“، لهدفها فى وقتها، آنذاك، ثم “حالا” بشكل آخر، وأرى أن أقرب معنى لذلك هو استعمال دانيال دينيت لكلمة “عقل” فى كتابه “أنواع العقول” Kinds of Minds  (4)

  • إن المستويات الأدنى من العقول لا تضمحل، ولا تختفى، لحساب المستويات الأعلى، لكنها:

 أولا: تبقى فاعلة فى  تناوب (الإيقاع الحيوى اليوماوىcircadian، فى النوم والأحلام خاصة)

ثانيا: تواصل التوليف مع المستويات الأعلى فى أزمات النمو بوجه خاص (الإيقاع الحيوى النمائى)

ثالثا: تتآلف على فترات فى خبرات الإبداع (الإيقاع الحيوى الإبداعى)

رابعا: فى الأحوال الاستثنائية (ليست بالضرورة مرضية بعد)، قد تنشط هذه المستويات الأدنى مستقلة نسبيا (لا متناوبة، ولا متوالفة، ولا ضمن خبرات الإبداع) تظهر وتضغط فى محاولة الإمساك بعجلة القيادة، لتوجيه السلوك والوجود بلغتها الأدنى بما فى ذلك تفكيك المستويات الأعلى والتحكم فيها.

خامسا: تحاول المستويات الأعلى أن تحول دون ذلك، ما أمكن ذلك، بالحيل الدفاعية (الميكانزمات) المناسبة، فيظهر العصاب Neurosis أو اضطراب الشخصية  Personality Disorders إذا ما أزمن الشخص استعمال هذه الدفاعات حتى صارت سمات (معطلة) للشخصية وليست فقط أعراضا

سادسا: قد تفشل هذه الميكانزمات فجأة (فى الذهانات الحادة – الجنون الطارئ) أو على فترات (الجنون المتفتر) أو بشكل دورى (الجنون الإيقاعى/الدورى)، وحينئذ تنجح العقول (مستويات الوعى) البدائية  فى القيادة لفترة تطول أو تقصر أو تستمر.(عمر المجنون)

سابعا: الجنون – كما يظهر فى السلوك الظاهرى فى شكل ما نسميه أعراضا Symptoms هو جماع كل من: 

(1) نشاط العقل البدائى (منفصلا: فى صورة النكوص أو العدوانية المهلكة أو ضلالات الكر والفر، أو الجنسية الفجة ..إلخ)

(2) آثار تراجع أو فشل أو تفكك العقل الحديث (فى صورة تناثر التفكير، والعجز عن التربيط الغائى، وفقد الإرادة، والانسحاب النكوصى،..إلخ)

من خلال قبول هذه الافتراضات النابعة من الفكر التطورى أساسا، مضافا إليه بعد الإيقاع الحيوى، ( النظرية الإيقاعية التطورية) يمكن الإجابة على الأسئلة المطروحة كما يلى:

السؤال الأول:

  • كيف يكون الجنون فعلا وليس مجرد رد فعل؟

    • الجنون قرار يتخذه عقل بدائى، نتيجة لفشل العقل الأحدث فى استمرار امتلاك ناصية القيادة، وأيضا فشل الإيقاع الحيوى فى إعطاء هذا العقل البدائى فرصة النشاط النوبى لإمكان التضفر والتأليف مع سائر العقول باستمرار.

    • الجنون ليس مجرد رد فعل على ضغوط خارجية، أو داخلية، بما فى ذلك  الفشل فى التكيف بميكانزمات وآليات العقل الأحدث كما نعرفه.

    • الجنون هو “قرار إحلال” عقل سابق، كان قادرا فى يوم ما على القيادة، محل عقل حديث، وذلك بعد أن لاحت له الفرصة نتيجة فشل العقل الحديث فى الحفاظ على التوازن الخلاق، ودفع مسيرة التكيف والنمو.

    • يشترك فى هذا القرار العقل المهزوم (مؤقتا) باعتبار أن قرار انتصار مستوى وطغيان العقل الأقدم، هو فى نفس الوقت قرار انهزام من جانب مستوى العقل الحديث المهزوم .

  • من هنا يأتى “اتخاذ القرار، بالانسحاب وغلبة البدائية

  • هذا القرار هو “فعل الجنون”،

  • ومن ثمَّ يكون الجنون فعلا،  وليس مجرد رد فعل.

ثم ننتقل إلى السؤال الثانى:

  • كيف يكون للجنون عقلا ؟

  • أصبح من السهل الآن – لو تم قبول الفرض الأول – الرد على هذا السؤال،

  • عقل الجنون (بالمعنى الوارد فى أنواع العقول لدينيت) هو جماع العقل البدائى المنتصر، مع بقايا العقل الحديث المهزوم.

ثم السؤال الثالث:

  • ما هو هدف الجنون؟

  • يمكن تصور الأهداف العامة للجنون بشكل يصلح كبنية أساسية نقيم عليها تفاصيل لاحقة لكل نوع من أنواع الجنون، ثم تفاصيل فردية لكل مريض (مجنون) على حدة.

هذا، ويمكن تصور الأهداف العامة لفعل الجنون بإيجاز شديد مؤقتا، كما يلى:

1- الاحتجاج على اغتراب العقل الحديث عن تاريخه وعن مسار نمو وتطور كل العقول معا. 

2- استعادة الحق فى تنشيط بعض العقول البدائية لحسابها،  ردا على استبعادها لصالح الاغتراب، ضد قوانين التطور والنمو.

3- عرض نكوصى بديل للحياة حتى لو كان أقل إنسانية، لكنه يغرى أن يكون أكثر حفاظا على الحياة ذاتها، ولو على حساب نوعية التواجد البشرى الأحدث.

4- إعلان فشل إقصاء بقية العقول لحساب عقل واحد

5- إرهاصات وعد تشكيل جديد تحت قيادة العقل البدائى (مشروع إبداع) سرعان ما يفشل.

ثم نختم بمحاولة الإجابة على السؤال الأخير

  • بأى لغة يتكلم الجنون:

  • الجنون يتكلم بلغات كثيرة طول الوقت، والممارس الذى يحاول “نقد النص البشرى”، وهو الاسم الذى أطلقته على فن العلاج الحقيقى، هو الذى يتقن لغات كثيرة، ويعرف كيف يترجمها إلى بعضها البعض:

  • فالجنون يتكلم بلغة الأعراض (كل عرض له معنى فى إطار الغاية من الجنون: أنظر بعد)

  • والجنون يتكلم بلغة الإعاقة الاحتجاجية (عرقلة التفكير مثلا)

  • والجنون يتكلم بلغة الغابة (الكر والفر: الاضطهاد والعدوان البدائى)

  • والجنون يتكلم بلغة الصمت (الانسحاب إلى ما قبل الكلام)

  • والجنون يتكلم بلغة الانسحاب (حتى العودة إلى الرحم)

  • والجنون يتكلم بلغة الإبداع المجهض (بقع من التشكيلات الشديدة الحدة، الناقصة التكامل)

  • والجنون يتكلم باللغة البدائية (الحيوانية أحيانا): الجنس الفج، والقتل الغدر مثلا)

  • والجنون يتكلم بلغة الطفولة الاعتمادية الملتذة غير المسئولة

  • (وغير ذلك)

هذا علما بأن لكل حالة مفردة لغتها الخاصة، حتى لو توحدت أو تقاربت الغائية العامة  (5)

فك شفرة حالة السيدة (ن)

كل هذا ليس ردا مباشرا على استشارة الزميل منير شكرالله  عن الحالة (ن)، ولكننى وجدت أنه يستحيل على أن أرد عل تساؤلاته، دون تقديم هذا الموجز الذى أعتبره “مفتاح فك شفرة الجنون عامة”، وفى محاولة شديدة الإيجاز يمكن فك شفرة السيدة (ن) مؤقتا على الوجه التالى:

1- هذه السيدة ولدت تحمل برامج بدائية قوية جاهزة للتنشيط مستقلة (بقدر ما هى قد تكون صالحة للولاف نمائيا وإبداعيا)، وذلك من واقع التاريخ العائلى الإيجابى جدا.

2- ثم إنها ( وربما سائر المرضى من الأسرة) لم تتح لها الفرصة لاستيعاب نشاط هذا العقل البدائى البالغ النشاط فى ذاته

3- فقرر هذا العقل البدائى أن يتولى مسئولية قيادة وجودها إلى الخلف، بعد أن تلاحقت عليها الضغوط وتراجعت كل الفرص للنمو (بافتقادها علاقة حقيقية بآخر، وعوامل أخرى)

4- حين بدأت مظاهر غلبة هذا العقل القديم (البدائى)  الذى “اختار الجنون”، استحلاها وتمادى فيها – بعد ظهور الجنون– بدرجة من الدراية الواعية،(تأكيد  الاختيار).

5- أصبح الاختيار – إذن–  بعد الكسرة هو اختيار واع بدرجة أكبر فأكبر، (فى حين أنه كان اختيارا من تحت الوعى الظاهر قبل بداية الجنون).

وبعـد

ماذا ينفع كل هذا التنظير ونحن أمام أسئلة مهنية عملية طرحها الزميل المستشير تحديدا كالتالى:

  • إلى أى مدى يمكن أن تكون المريضة متحكمة فى أعراضها خاصة فى مثل هذه الحالة التى يبدو من تاريخها المرضى كل هذا الكم الهائل من الجانب البيولوجى الوراثى؟

د. يحيى:

الجانب الوراثى لا يعفى من اختيار الجنون، بل هو يجعله اختيارا قريبا واردا، وفى نفس الوقت يجعل الإبداع (إبداع الذات بمواصلة النمو أو أى إبداع) متاحا أكثر، نحن لا نرث الجنون وإنما نرث قوة زخم الحركة، فالاختيار هنا أوجب وأصعب.

  • إذا كان المريض بالفعل “واعيا” ومتحكما بما يفعله أثناء الحالة المرضية [أيا كان معنى الوعى هنا] فإلى أى مدى يمكن اعتباره مسئولا او غير مسؤول عن افعاله؟

د. يحيى:

من حيث المبدأ، فأنا أفضل أن أرى المريض مسئولا فى كل الأحوال،

 فما بـُنِىَ على اختيار فهو اختيار،

وأنا أعتبر ذلك بمثابة هو احترام لفعل الجنون من حيث المبدأ، وبالتالى: احترام للمجنون، فيصبح بذلك بمثابة دعوة للمجنون للمشاركة فى العلاج بالعدول عن اختياره، بعد أن نريه: فيرى: الثمن الذى دفعه ودفعه لاختياره الجنون .

 فإذا كنا سنقبل أن الجنون اختيار، وأنه عقل آخر، فلا بد أن يصل إلى المريض وإلى المجتمع أن هذا العقل الآخر يعاقـَب على أفعاله الخارجة على القانون، وعن المألوف الأنفع،  ما دام هو الذى اختار ما هو فيه باعتباره عقل قادر على التمييز، والفعل، بطريقته.

إن استعمال إرادة الجنون هو هو الذى قد يؤدى إلى استعمال إرادة الجريمة،

هذا هو الموقف  من حيث المبدأ تنظيرا،

أما عند التطبيق، فالامر يختلف تماما،

و قد وقعت فى مآزق كثيرة بسبب صعوبة التوفيق بين التنظير والتطبيق، لأننا فى الطب النفسى الشرعى نتحرك داخل نطاق منطوق القانون ومبدأ الشرعية

القانون ليس نظرية عملية، القانون قواعد وأحكام،

مبدأ الشرعية يقول: لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانونى مكتوب،

 والطبيب النفسى الشرعى ملزم بهذا النص الذى يقول بضرورة توفر “الركن المعنوى للجريمة”، حتى تكتمل أركان الجريمة التى تستحق العقاب،

الركن المعنوى هذا يعنى: هو توفر كل من الوعى، والتمييز، والإرادة عند المجرم، وقت ارتكاب الجريمة بدرجة كافية!

هنا نقف طويلا أمام القانون الذى يعامل الوعى باعتباره الوعى الظاهر، ويحكم على الإرادة باعتبارها إرادة الإنسان الماثل للمحاكمة كواحد، له وعى واحد، وإرادة ظاهرة واحدة. القانون لا يتعامل مع الوعى الثانى، ولا الوعى البدائى، ولا الوعى التطورى، فكل هذه المستويات فى نهاية النهاية تخرج إلى السلوك من خلال الوعى (العقل)  الظاهر، المفروض أنه قادر على التحكم فيها.

برغم كل هذا الوضوح، فإن المسألة تظل نسبية،

وتتداخل هنا كل من “فلسفة القانون”، والهدف من  العقاب (الردع العام، والردع الخاص فى علم العقاب)، وضمير الخبير (الطبيب النفسى الشرعى)، ويقين القاضى، تتداخل كل هذه العوامل مجتمعة، لتكون محصلتها هى الإجابة عن سؤالك الصعب هذا يا دكتور منير.

  • ما معنى الوعى والاستبصار هنا؟ وما قيمة الاستبصار إذا كانت المريضة “تستخدم” جنونها ليفيدها فى أحد جوانب حياتها؟

د. يحيى:

الوعى غير الاستبصار غير البصيرة،

لابد أن نتفق على حدود ومعنى استعمال كل كلمة فى مجالها

الوعى الذى استعملناه هنا بمعنى العقل هو غير الوعى بمعنى الدراية awareness غير الوعى الذى هو ضد اللاوعى (اللاشعور) وأظن أنك  لا تعنى أيا من ذلك، وربما تعنى “التمييز” الذى جاء فى نص الركن المعنوى للجريمة الذى سبقت الإشارة إليه فى توصيف الجريمة.

الاستبصار كلمة لا تستعمل غالبا إلا مرادفة للبصيرة

أما البصيرة فهى متعددة المستويات من أول الإقرار بالمرض النفسى وطبيعته، حتى اختبارها بالالتزام بالعلاج والامتثال للتأهيل حتى الشفاء

البصيرة أنواع، وكثيرا ما نسمى النوع العاجز من البصيرة “بصيرة معقلنة”، حيث هى مجرد إقرار لفظى فكرى بالجارى،  بمعنى أنها رؤية لا تدفع إلى اتخاذ أى إجراء أو فعل المفروض أن تستحثه معرفة المريض لطبيعة مرضه، فيسعى بالتالى للعلاج أو احتواء المرض لما هو أفضل من العلاج،

هذه البصيرة المشلولة تصبح عبئا على مسيرة العلاج، لأنها توهم بالتعاون بلا تعاون، وتغرى بالتقدم على المسار إلى الشفاء وهى ليست إلا استمناءً عقليا أو فرجة فى المحل.

على هذا الأساس يمكن أن تكون البصيرة لعبة عقلية تعلن ما يشبه الصدق لتبرر التمادى فى الحل السلبى، مثل مريضتنا هنا التى تقر أنها عملت للزوار “كارت إرهاب“، فهى بذلك قد استعملت بصيرتها لتتمادى فيما تصورته عدم المسئولية بلىّ الذراع أو الابتزاز، هذه مناورة لا ينبغى أن نصفق لها.

من كل ذلك يمكن القول أن بصيرة المريض بطبيعة جنونه ومساره، لا تلزمه تلقائيا بمزيد من المسئولية،  وفى نفس الوقت لا تزيد المجنون مسئولية، بل قد تكون مجرد رؤية بلا فاعلية كما أسلفنا.

أما عما إذا كانت المريضة تستخدم جنونها ليفيدها فى أحد جوانب حياتها، فهذا وارد، وهو ما يسمى التمادى فى المكاسب الثانوية (السلبية فى النهاية) لفعل الجنون، إذن تعبير ما يفيدها يمكن أن يراجع لنكتشف أنه يفيد جنونها، الذى حصيلته سلبية فى نهاية النهاية.

أعتقد أن البصيرة التى تطل علينا من مساهمات وحوار الصديق “رامى عادل” هى نموذج لبصيرة متحركة تحاول طول الوقت،

هيا نقرأ ما كتبه لنا الابن رامى فى حوار/ بريد الجمعة 18 يوليو 2008

قد يعجب شخص بالجنون كفكر وفعل خارج، الا ان إدمانه  بعد التخطيط له طريق شائك بالغ الخطر، ومن عمق اثارته يستحلى الشخص اللعبه الطائشه اللانهائيه. فيختار واقعا مغايرا لا يكتمل ابدا، متأرجحا بينه وبين الهزيمه. رافضا التخلى أو التنازل عن يوتوبيا يسكنها الخلل. لكن شيئا من الجنون قد يكون مسكنا فعالا مستعيضين به عن لوازم الواقع

وبعد

أكرر شكرى يا د. منير

وإلى اللقاء فى استشارة أخرى

أهلا بك وسهلا

 

[1] – نشرة الإنسان والتطور بتاريخ: 13-7-2008 www.rakhawy.net

[2] –  Shulman  B. H. (1968) Essays in schizophrenia. Baltimore: the Williams & Wilkins

[3] – Arieti,S.(1974) Interpretation of Schizophrenia. New York: Basic Books .

[4] – “نشرات” الإنسان والتطور  (أنواع العقول: الطريق إلى فهم الوعى دانييل دينيت) “أنواع العقول (وإلغاء عقول الآخرين)” نشرة 2-1-2008 – “أنواع العقول وتعدد مستويات الوعى” ونشرة 25-12-2007 www.rakhawy.net

[5] – ” أشرت فى يومية الأحد السابق إلى كتاب “مقالات فى الفصام” وفيه هامش كتبه المؤلف “شولمان” على لسان الفصامى فى كل مراحله، يترجم به الأعراض، كما يمكن أيضا الرجوع إلى قصيدة قصيرة فى ديوانى “سر اللعبة” “وهتفت باعلى صمتى” وشرحها فى “دراسة فى علم السيكوباثولوجى”  منشورات جمعية الطب النفسى  1979 .www.rakhawy.net

 

admin-ajax (4)admin-ajax (5)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *